الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ابن قتيبة وإغفال التجربة الشعورية

ثائر العذاري

2007 / 12 / 27
الادب والفن


يحاول ابن قتيبة الدينوري في كتابه (الشعر والشعراء) وضع معيار يمكن بالاعتماد عليه تصنيف الشعر في أربع مراتب؛ فأما أولاها. فـ((ضربٌ منه حسن لفظه وجاد معناه، كقول القائل في بعض بني أمية:
في كَفِّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُـــهُ عَـــبقٌ
مِنْ كَفِّ أَرْوَعَ في عرْنِينِهِ شممُ
يغضي حياء ويغضى من مهابته
فما يكـلَّـــــم إلا حين يبتــــسمَُ))
وأما ثانيتها فـ((ضربٌ منه حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى، كقول القائل:

ولَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًى كُلَّ حَاجةٍ
ومَسَّحَ بِالأَرْكانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ
وشُدَّتٌ على حُدْبِ المَهَارِى رحَالُنَا
ولا يَنْظُرُ الغَادِي الذي هُوَ رَائحُ
أَخَذْنَا بِأَطْرافِ الأَحَادِيثِ بَيْنَنَا
وسَالَتْ بِأَعْنَاقِ المَطِىِّ الأَبَاطِحُ))

وأما المرتبة الثالثة فـ((ضربٌ منه جاد معناه وقصرت ألفاظه))
والمرتبة الأخيرة هي ((ضربٌ منه تأخر معناه وتأخر لفظه))
ولم نرد أن نثقل المقالة باقتباس الشواهد الكثيرة التي ساقها ابن قتيبة في كتابه، إذ رأينا أن الشاهدين المتقدمين كافيان لتوضيح النظرة التي نظرت بها عينه إلى التجربة الشعرية.
لعل ابن قتيبة يمكن أن يكون نموذجا جيدا لذائقة عصره، فضلا عن أن معياره هذا يمكن أن يكشف عن مفهوم التجربة الشعرية كما كان يفهمها النقاد العرب القدماء.
وأول أمر ينبغي أن يلفتنا في معيار ابن قتيبة اعتماده كليا على انطباعات المتلقي، إذ كيف لنا أن نحدد المعنى واللفظ الحسنين أو المتأخرين، فهو لم يبين المقياس الذي مكنه من الحكم على مستوى هذا أو ذاك بل حكم حكما ذوقيا محضا.
وإذا نظرنا إلى المثالين المتقدمين وتأملناهما مليا لوجدنا إغفالا هائلا للتجربة الشعورية التي أدت إلى إنتاج العمل الأدبي، فقد عدّ ابن قتيبة بيتي الفرزدق من أجود أضرب الشعر ذلك الذي حسن لفظه وحسن معناه، وما دفعه إلى ذلك – كما نظن – هيبة الممدوح لا هيبة النظم.
أما الشاهد الثاني – وهو ما نريد التدقيق فيه هنا – فيعرض تجربة شعورية متميزة، انعكس أثرها في البنية الفنية للأبيات، غير أن ابن قتيبة لم يكن معنيا بهذا الأمر، فليس في النص ممدوح ولا صفة مما يمتدح به.
تتحدث الأبيات الثلاثة عن الحجيج أثناء عودتهم إلى أوطانهم بعد الفراغ من أداء المناسك. والأبيات تنسب إلى عقبة بن كعب بن زهير وهو سليل مدرسة شعرية عرف شعراؤها بإطالة النظر في قصائدهم والإمعان في تخيّر الألفاظ المناسبة، مدرسة أوس بن حجر، وقد يكون هذا أحد الأسباب التي جعلت ابن قتيبة ينزل هذه الأبيات في المرتبة الثانية.
لنتصور التجربة الشعورية التي يمر بها الحجيج، ففي طريقهم إلى الحج يكون كل منهم منشغلا بالمناسك، منقطعا إلى الله، حالة صوفية تفرض الاختلاء بالذات، وما إن تنتهي المناسك حتى يأخذ شعور آخر طريقه إلى نفس الحاج، العودة إلى الدنيا، والشوق إلى الأهل والحنين إلى الوطن، وفي هذه اللحظة يتسلل الشعور بطول الطريق والبحث عن طريقة لقضاء الوقت، فلا يجدون سوى قتل الوقت بتجاذب أطراف الأحاديث بينهم.
هذه التجربة الشعورية تحديدا هي التي أنتجت أبيات عقبة التي جاءت منسجمة في بنائها الفني معها، بحيث أصبح الشكل أداة فعالة في رسم الجو الشعوري.
وأول ما يلاحظ في الأبيات اختيار (الطويل) وزنا لها، فجاء الوزن منسجما مع التجربة، فهو أولا أطول بحور الشعر التقليدي على الاطلاق، فهو في صورته الشائعة والتي جاءت عليها الأبيات المتقدمة:
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
فطوله ينسجم مع الإحساس بطول طريق العودة إلى الوطن، ومجيء سببين متواليين في منتصف كل شطر(عيلن) يمكن أن يعبر عن استعجال الشاعر العودة، بينما يعبر الزحاف الذي يصيب التفعيلة الأخيرة في كل شطر ويحول سببيها إلى وتد مجموع عن الملل من ما يبدو من طول الطريق.
وفي البناء الصوتي للأبيات ما يتسق مع التجربة، فاختيار الحاء قافية مناسب جدا، ذلك لأن هذا صوت احتكاكي، يخدش الحنجرة فيصلح للتعبير عن الحرقة والألم، وقد زاد من أهمية القافية إصرار الشاعر على أن يأتي بالحاء في كل شطر من الأشطر الستة. ولو نظرنا إلى الكلمات التي تتضمن الحاء عدا كلمات القافية (حاجة، مسّح، حدْب، رحال، أحاديث) لوجدنا أن كل منها أسهمت في شحن الأبيات بقوة تعبيرية كبيرة عن التجربة الشعورية، فكلمة (حاجة) بدلالتها على الافتقار، و(مسّح) بصيغته المضعّفة للدلالة على التباطؤ، و(حدْب) بكتم انفجار (الدال) بصوت (الباء)، و(رحال) بارتباطها بالدلالة على مشاق السفر، و(الأحاديث) بصيغة الجمع التي دلت على كثرة الحديث تعبيرا عن طول الطريق.
وتؤلف الأبيات الثلاثة جميعها جملة واحدة، بصيغة جملة شرطية ، وهذا الطول غير المعتاد في الشعر التقليدي القائم على وحدة البيت عبّر عن ضجر الشاعر بطول الطريق، وزاد من الأثر الشعوري لطول الجملة أن كل الأفعال التي وردت فيها جاءت بصيغة الماضي (قضين، مسح، شدت، أخذنا، سالت)، والفعل الوحيد الذي جاء بصيغة الحاضر هو (ينظر) لكنه جاء منفيا ، لقد تحققت شروط العودة (دلالة صيغة الماضي) لكن العودة لم تتم (دلالة نفي الفعل الحاضر).
والصورة الشعرية في الشطر الأخير (وسالت بأعناق المطي الأباطح) ختمت الأبيات الثلاثة بضربة شعورية غاية في الجمال، إذ يبدو أن فعل (العودة) ليس بيد (العائدين) أنفسهم، فهم يمتطون جمالهم ويحثونها على المسير، غير أن طول الطريق يوحي بأن الطريق هو (الفاعل) الذي يتحكم بسرعة العودة لا (المطي)، فـ(الأباطح) هي التي (سالت) لا (المطي).
ومن المؤكد أن ابن قتيبة شعر بجلال الأبيات في قدرتها التعبيرية، كما يمكن أن يشعر أي قارئ بذلك، لكن بحثه عن المعنى (الجليل) منعه من وضع يده على ما يولد هذه القوة التعبيرية في جسد الأبيات المادي ممثلا بالألفاظ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هدف عالمي من رضا سليم وجمهور الأهلي لا يتوقف عن الغناء وصمت


.. اختيار الناقدة علا الشافعى فى عضوية اللجنة العليا لمهرجان ال




.. صباح العربية | نجوم الفن والجماهير يدعمون فنان العرب محمد عب


.. مقابلة فنية | المخرجة لينا خوري: تفرّغتُ للإخراح وتركتُ باقي




.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء