الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفرصة التاريخية لأقباط مصر

مهدى بندق

2007 / 12 / 28
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير


فى مسيرة المجتمعات البشرية منعطفات , هى بمثابة العلامات الفارقة بين مرحلة تاريخية وأخرى مختلفة. من ذلك قيام مجتمع بكامله بتغيير ديانته, مثلما فعلت روما فى روما فى القرن الرابع الميلادى , حين أعلنت المسيحية ديانة رسمية للدولة , ومثلما انتقل شعب الخزر جميعه إلى اليهودية فى القرن الثامن الميلادى – وهو الشعب الذى انحدر منه يهود أوروبا الشرقية الحاليون – ومن ذلك أيضا أن يتنكر شعب لعقيدته السياسية فيلفظ النظام الجمهورى ويرفض الديموقراطية, مستبدلا بهما ديكتاتورية فاشية كما حدث من الشعب الألمانى فى الثلث الأول من القرن العشرين لأسباب ليس هذا مجال سردها.

ومن المنطقى أن هذه التحولات الجذرية لا تحدث إلا إذا توافرت عوامل داخلية وخارجية معينة , من شأنها أن تحرض الفاعلين الاجتماعيين على نبذ الثبات الذى يهدد الجماعة بالتلاشى , وبالمقابل تحفزهم على الأخذ بأسباب التغيير – بغض النظر عن معيار الصواب والخطأ- إيمانا بأن التغيير فى حد ذاته هو ضمان البقاء والاستمرار.

كانت هذه المقدمة ضرورة تمهيدية للولوج إلى ما يمكن تسميته ب "المسألة القبطية فى مصر" حيث تضافرت عناصر محلية وأقليمية ودولية (سنأتى لذكرها فيما بعد) لفتح هذا الملف ذى الحساسية , بعنوانه البارز BOLD : الاشتعال الدورى للفتن بين المسلمين والمسيحيين بدء من سبعينات القرن الماضى وحتى الآن, وبما يهدد الوطن جميعه.

وبالتساوق مع هذا العنوان , لابد لنا أن نتذكر أطروحة صمويل هنتنجتون الشهيرة بـ " صراع الحضارات" والتى تنبأ فيها بأن القرن الحادى والعشرين إنما سيكون ميدانا لصدام ثقافى عالمى , ففى حين انسحب الصراع الطبقى عن مقدمة المسرح – بسقوط الاتحاد السوفيتى وانحسار الفكر الماركسى – فإن البشر مقدمون على مرحلة يتآزرون أو يتحاربون فيها بدوافع ثقافية , وفى القلب منها الدين , إثباتا للهوية وتأكيدا للذات المحدودة بحدود الموروث والمألوف . ولقد بدا ذلك واضحا فى حروب البوسنة , والشيشان , وفى الحروب الأهلية التى وقعت فى السودان بين الشمال المسلم والجنوب المسيحى, فضلا عن الاقتتال الدموى بين السنة والشيعة فى العراق. والأطروحة رغم ذلك كله قابلة للنقد, غير أن أفضل نقد لها إنما يكون بشحذ الآليات العملية للدول الحديثة من أجل دحضها وتكذيبها , وهذا رهين بأفعال الجماعات البشرية , وليس باحتجاجات المثقفين حسب.

بالنسبة لمصر , فلا مشاحة فى أن الدولة قد أحسنت صنعا بتعديل دستورها ,ليتضمن ( فى مادته الأولى) أن المواطنة هى الأساس للدولة المدنية الحالية. وهى وإن أقرت بأن الإسلام هو دينها الرسمى إلا أنها اشترطت للممارسة السياسية أن تقوم على أسس غير دينية(المادة الخامسة من الدستور) وبذلك تكون قد قطعت الطريق على من يخططون لقيام دولة ثيوقراطية تفرق بين المواطنين تبعا لديانتهم , ومن ثم تمهد لحروب أهلية قادمة لامحالة.

من هنا ترى أن الملف القبطى لم يعد مفتوحا أمام الدولة , بل أمام ثقافة مجتمعية موروثة من جانب , ووافدة من جانب آخر. فماهى هذه الثقافة ؟ربما تحتاج الإجابة عن هذا السؤال إلى إطلالة سريعة على التاريخ.
العرب والمصريون فى التاريخ
فتح العرب المسلمون مصر عام 641 ميلادى , وكشأنهم مع البلاد المفتوحة فقد خيروا السكان بين القتال أوالجزية أو اعتناق الإسلام. حينئذ لم يكن أمام فقراء الناس من بد سوى الخيار الثالث , بيد أن هؤلاء لم يصبحوا عرباً لمجرد أنهم أسلموا , فلقد ظل العرب الفاتحون يسمونهم – مع غيرهم ممن بقوا على ديانتهم المسيحية- باسم "الأقباط الموالى" من حيث أن كلمة قبطى Aegyptos كانت تشير إلى الاسم الذى أطلقه البيزنطيون على أهل مصر الحاميين , وأصله الفرعونى Het- Ke – Path أى منزل روح بتاح . ومنها اشتقت اللغات الهندوأوربية كلمة Egypt , بينما ترجمها العرب الساميون إلى قبط.

المصريون إذاً أقباط لغوياً. أما التفرقة الدينية بين مسلميها ومسيحييها فقد ترسخت مع حكم الخلفاء أمويين وعباسيين وفاطميين وعثمانيين , هؤلاء الذين مارسوا التمييز بين الناس باسم الدين. من ذلك إجبار المصريين على التخلى عن لغتهم القبطية إلى حد قيام الحاكم بأمر الله الفاطمى بقطع لسان كل من يتكلم بها! ومن ذلك أيضاً أن العصاة ممن ظلوا على ديانتهم المسيحية (فانفردوا بصفة الأقباط) ألزموا بحمل الصلبان الثقيلة على رقابهم إلى أن ازرقت عظامها! ومن ذلك ثالثاً نفى وقتل الفلاحين المتمردين منهم بالجملة (فعلها الخليفة المأمون العالم المثقف!) وقد أفاض المؤرخون أمثال المقريزى وساويرس ابن المقفع وابن إياس فى ذكر ثورات الفلاحين الأقباط المقموعة فى أشليم والحوف الشرقى والبشمورى وغيرها حيث جرت الدماء فيها أنهاراً. الأمر الذى أورث الأقباط المصريين ثقافة الخوف والإذعان, وقادهم إلى كهوف العزلة السياسية لعصور بأكملها.

الدولة الحديثة تعالج التذكارات السوداء

بقيام الدولة المدنية الحديثة فى القرن التاسع عشر , انشطب من القاموس السياسى تعبير "أهل الذمة" إذ تم ترميم البناء القانونى بأسمنت جديد مع صدور أول دستور عثمانى عام 1876 , وعليه فقد أسقطت "الجزية " عن المسيحيين على قاعدة المساواة أمام القانون , وتأكد هذا السقوط بإقرار مبدأ التجنيد الإجبارى لكل المواطنين , الأمر الذى سمح للمسيحيين المصريين أن يصيروا ضباطاً ورؤساء أفرع , بل وقادة ألوية وفرق فى الجيش الوطنى للبلاد . أضف إلى ذلك ما حدث من رتق كامل للنسيج الاجتماعى المصرى باشتراك أبناء مصر جميعا مسلمين ومسيحيين فى الثورة الوطنية الكبرى عام 1919 بالضد على المحتل البريطانى . مما فتح فضاء العمل السياسى أمام الأقباط للمشاركة فى الحكم تحت مظلة حزب الوفد الليبرالى بزعامة سعد زغلول ثم مصطفى النحاس ومكرم عبيد. فما الذى أحدث القطيعة بيننا وبين هذه المرحلة المائزة من مراحل تاريخنا القريب؟

سيولة كونية وجمود عقائدى
انتهت الحرب الباردة بتبخر الاتحاد السوفيتي كدولة عظمى، تسير في فلكها معظم دول أوربا الشرقية، وتبع ذلك تحطم اليوغسلافي حين قامت دوله بطحن عظام بعضها البعض تحت شعارات عرقية ودينية حلت محل وحدة الفكر (الاشتراكي ؟!) بينما أفرخت حرب الخليج الثانية طيور الفرقة والانقسام داخل الأمة العربية, في ذات الوقت الذي ترسخت فيه دولة اسرائيل العدوانية التى قامت أساساً على مبدأ عنصرى ديني يدعو يهود العالم الى الاستيطان في فلسطين – أرض الميعاد ! – على حساب السكان الأصليين. ونتيجة لاخفاق مشروع الوحدة العربية على أرضية "أيديولوجية القومية". وبالتوازى مع نجاح الثورة الإسلامية في ايران، بات طبيعياً أن ترتفع أصوات لا يستهان بها في العالم العربي تدعو الى إقامة دولة إسلامية شاملة في مواجهة حاسمة مع الدولة العبرية التى حققت الانتصار تلو الانتصار على كل قادة الدول العربية "قومية الطابع" مجتمعين أو فرادى. فما الحل إذن ؟! الإسلام هو الحل ! هكذا ظهر تنظيم القاعدة داعياً لحرب شاملة عالمية الطابع ضد النصاري واليهود. وهكذا أيضاً انتعش الفكر الوهابي بجموده العقائدي، ذلك الجمود الذي يمنح الغطاء السيكولوجي المريح للعرب المغلوبين، فإذا كان الحاضر أليماً لا يحتمل، ففي الماضي الذهبي العزاء، وربما كان في محاولة ابتعاثه مرة أخرى ما يحمل بعض الأمل، وإن كان غامضاً. في هذا المناخ صار لمخاوف المسيحيين العرب – خاصة في لبنان ومصر – ما يبررها. وبالتالي يدعوها الى الإفصاح عن نفسها. وبقدر ما نجحت السيولة الكونية المصاحبة لزوال النظام العالمي القديم، في محو دول بأسرها، بقدر ما سمحت نفس هذه السيولة للأقليات العرقية والدينية أن تطالب بمكان لها في عالم بدا أنه يتشكل على أسس جديدة. فها هى ذى ذى ثورة الاتصالات تسهم في تفتح وعى الأفراد والجماعات المختلفة على مبادئ حقوق الإنسان الرافضة لكل تمييز بسبب الدين أو العقيدة , فكيف إذن لا يحاول الإفادة منها كل من يشعر أن حقوقه منتقصة ؟!
الأقباط أمام المنعطف
تلك كانت العناصر الدولية والإقليمية التى أشرنا إليها في بداية المقال ، أما على المستوى المحلى، فقد تضافرت مع هذه العناصر ممارسات تدعو لفتح الملف القبطي بمصر .وهى عناصر ممثلة لاتجاهات ليبرالية لها برامجها، من بينها إلغاء الخط الهيمايوني الصادر 1856 م على عهد السلطان عبد المجيد هذا الخط العثمانى الذى تحول إلى لائحة تنفيذية على يد العزبى باشا وكيل وزارة الداخلية المصرية عام 1934 ومضمونها التمييز في بناء وترميم دور العبادة بين المساجد والكنائس. كما تعالت أيضاً أصوات المدونين الجدد بالاحتجاج على كل ألوان التمييز الاجتماعي وصولاً الى المطالبة بالغاء المادة الثانية عن الدستور، وحذف خانة الديانة من البطاقة القومية للأشخاص.

بيد أن تحقيق هذه المطالب وغيرها من المطالب القانونية المشروعة مرتهن بانعاش العمل السياسي ذاته بمشاركة الأقباط أنفسهم ، وليس بالتقوقع داخل الشرنقة "القبطية". وآية ذلك أن التطرف الإسلامي لا ريب يقوى ويتمدد إذا ما قوبل برد فعل ديني مماثل. في حين أن انخراط أقباط مصر في الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني بقناعة لا غش فيها، لا ريب مؤد الى تراجع التطرف المتأسلم، الذي يعلم في قرارته أنه يتعلل بالأوهام لا بالحقائق , وأنه يتسلح بالصوت العالى والصراخ الأجوف لا بالقدرة على المناظرة العقلية المنطقية.

وهكذا يتبدى للأقباط أنهم أمام منعطف تاريخي واقعي يدعوهم الى نبذ السلبية الموروثة من عصور ولت، لكى يشاركوا في استخلاص الدولة المدنية، والمجتمع المصري بأسره من براثن التطرف على الجانبين. فهل يفعلها الأقباط؟ أعني هل يفعلها المصريون ؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أكثر من 1000 وفاة في الحج .. والسعودية تؤكد أنها لم تقصر • ف


.. الحوثي يكشف عن سلاح جديد.. والقوة الأوروبية في البحر الأحمر




.. النووي الروسي.. سلاح بوتين ضد الغرب | #التاسعة


.. مخاوف من انزلاق المنطقة إلى صراع إقليمي يمتد بين البحرين الأ




.. نشرة إيجاز - استقالة أعلى مسؤول أمريكي مكلف بملف غزة