الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الليل وآخره

ناجح شاهين

2003 / 11 / 25
الادب والفن


أحببت رحيم عمران المنشاوي مثلما أحببت أوديب واليمامة بنت كليل وربما مثل هاملت أو الحلاج الذي مضى يردد دون وجل: " ما في الجبة إلا الله" وربما كما أحببت جيفارا وأبطال الخوارج المغامرين. إنه نكهة مختلفة في واقعنا الراهن. ولعله قد مضى زمن طويل بالفعل دون أن أتمكن من ملاحظة شيء جميل في الساحة الفنية العربية التي تعكس بأمانة مدهشة الانحطاط العربي النموذجي الذي تجلى بشكل هائل منذ آب 1990.
في خضم الحالة المريعة التي نعيش، بدا السريع والهابط والميلودرامي عناوين كبيرة لتوصيف ما يجري على أرض الفن العروبية من جزائر “الراي” وحتى مصر ولبنان وخليج " الكليب "، المتسابق في عرض الأحلى والأغلى والأشهى من الملابس والسيارات والعطور والنساء. وخصوصاً النساء المعروضات على مدار الساعة على شاشات الفضائيات ليقلن بأجسادهن لا بأفواههن أحلى وشهى الكلام.
علي أن أعترف بأنني فقط بدأت في إدراك ما يجري بعد أكثر من عشر حلقات من عمر المسلسل الرمضاني " الليل وآخره ". التشاؤم الذي نحمل أصيل تماما، ويعتمد على ذاكرتنا التي لخصها بنجاح تام الراحل المبدع إميل حبيبي، لأننا قوم إذا ضحكنا نقول " الله يكفينا شر هالضحك. " وعذراً لأن هذا ليس ما قال حبيبي وإنما عبارته تشبه على الأرجح عبارة جدتي التي أوردتها بديلاً أو معادلاً موضوعياً لما قاله الراحل الكبير. لقد فاجأني بالفعل أن مسلسلا تلفزيونياً عربياً، حيث الميلودرامي الرخيصة والغالية تملأ الشاشات، يقدم بنجاح مذهل حبكة تراجيدية بكل معنى الكلمة، تعرض بطلاً تراجيدياً بكل المقاييس.
البطل لتراجيدي " مبدئي " ومتطرف، ويريد كل شيء أو أنه سيخسر كل شيء. وللأسف فإنه لم يتعود أبداً ولم يتمرس لعبة المفاوضات العربية مع إسرائيل، وبخاصة الفلسطينية منها، حيث المواصفات الواقعية التي تحسب _ أو هكذا تدعي _ بحس التاجر احتمالات الربح والخسارة.  البطل التراجيدي مصداقاً لوصية أمل دنقل، لا يصالح ولو ملكوه الذهب. " لأنه لو وضعوا بدل العين المفقوءة لؤلؤا فإنه لن يبصر بها." هناك أيضاً والكلام لدنقل: " أشياء لا تشترى ". يجب أن يتم مسح النكبة والنكسة وما تلاها من نكبات ومن نكسات من التاريخ لا من الذاكرة. يجب أن يعود الزمن إلى الوراء وعند ذلك فحسب يمكن لنا أن نصالح.
ترى في العراق مثل ذلك النفس؟ أظن ذلك. ولذا يظل اللحن العراقي حزيناً وحلواً كما الندى قرب الفجر مهما كلف الثمن. وهو يستمر في الغناء حتى أمام مرأى الجنازات. إنه لا يردد تراتيل الهزيمة وإن مرت أمامه جنازات الأرض كلها.
هناك شعرة رفيعة بين الحماقة وبين البطولة التراجيدية. ولا شك أن البطل التراجيدي كما الفعل التراجيدي يتضمن درجة من الخرق والبلاهة الخفيفة التي تدعو إلى الحب والعطف دون أن تصل إلى حد الاحتقار. إذ يبقى هناك وميض من العظمة التي تدعو المرء إلى الإعجاب بالبطل على الرغم من كل " خبصاته ". إنها ربما عظمة الإنسان، وإصراره على حد زعم همينغوي، على أن يبقى واقفاً حتى وإن دمر. إنه قابل للدمار ولكنه غير قابل للهزيمة أو الاستسلام.
الميلودراما والهتاف شيء لا يطاق. لكنه وأنا متأسف حقاً، يمهر بخاتمه الثقافة القومية من المحيط إلى الخليج. أتذكر أن طفلاً في احتفال " أممي "، وما كان أكثرها، كان يقرأ قصيدة  "تانيا" للشاعر معين بسيسو التي تمجد طفلة روسية قتلت في الحرب العالمية الثانية على يد النازيين في مدينة ستالينغراد. وأثناء تعداد الشاعر للامبالاة الكون تجاه موت تلك الطفلة يقول:
أنا أعلم نهر "النيفا" سيواصل جريانه
والعالم سيواصل دورانه
ستبدل في حمامات استنبول مناديل
وسيوضع مكان القطع الذائبة من الصابون
ستنوح على أسوار القدس حمامة
حسناً عند هذا الحد صفق الجمهور مطولاً على الرغم أن القدس ليست بيت القصيد في كل الموضوع. ذلك أن الجمهور لا يسمع. إنه ليس بقارئ ولا سامع ولا مفكر. والميلودراما المليئة بالألوان الصارخة والصاخبة فقط هي ما يثير حماس المتلقي العربي. والحبكة الدرامية لهذه الأسباب فوق طاقة المشاهد. ومن هنا سحر وجمال العاملين في  "الليل وآخره " فقد قدموا عملاً تنمو فيه الأحداث الواحدات من الأخريات لكي لا أسقط في التفريد وأقول الواحدة من الأخرى، وهو قول لا يقارب الواقع الإنساني الكثيف أبداً. أنا لم أتابع العمل جدياً أبداً. ولذلك فإن قدرتي على قراءته محدودة وأرجو المعذرة، فقد ظننت أنني أشاهد " السيناريو " المعتاد ما غيره.
رحيم عمران المنشاوي شخص طيب ومعطاء، وعندما يحب فإنه بكل قوة وكثافة البطل. يحب كما الطفل ويندغم بحبه إلى حد ينطبق عليه ما ألمح إليه البياتي مراراً " حبي دمرني، روما دمرها زلزال". وأمام ذلك الحب غير العقلاني " لغزية " في مجتمع ريفي، يصطف الأهل جميعاً ليمنعوا تلك التجربة لكنه يتمرد على الإله الأب في مشهد يذكر بتمرد آدم على ربه وعصيانه له. وعندما تقع الكارثة التامة باختفاء محبوبته يصبح مطلبه جنونياً تماماً: عودة محبوبته أو حرمان اخوته من كل شيء. إنه البطل التراجيدي من أيام اليمامة بنيت كليب " أريد أبي حياً". ولكن إذا لم يأت حياً؟ الحرب حتى فناء الجميع. والمعادلة واضحة كما لخصها كليب ثم أمل دنقل: لا تصالح ولو قيل دم بدم. والحقيقة أن رحيم عمران المنشاوي لن يصالح مهما كلف الثمن. وسوف يقود العائلة على الرغم من مشاعر وإحساس بترقب الفاجعة والمأساة يخامران روحه القلقة طوال الوقت. لن يقبل رحيم إلا بعودة كليب من الأموات فيقود العائلة إلى مصيبة تلو مصيبة. وذك أبسط حقوق البطل التراجيدي الذي لا يعرف التسويات ولا الحلول الوسط، لأنه الشطط في مشاعره وقراراته ونقائه الخالص. إن كل القصة كما لخصها أخوه الدكتور زين" قصة صغيرة كان عايز يتجوز واحدة من إياهم ولما نصحناه زعل وحرمنا من كل حاجة" هذه هي عيون العادي. أما عيون البطل فإنها تقيس بعمق مختلف: لقد غدر به الأقربون وحرموه من الأجمل في حياته. ولا بد أن رد الفعل يجب أن يكون على قدر " الجريمة ومرتكبيها" وعلى قدر الطعنة وخيبة الأمل المتحققة تماما.
لن أسرف في القول في هذا البناء الفني الجميل. فقط أود أن أنوه أنني لم أستطع مطلقاً أن أجد مكاناً في بناء الحبكة لقصة الحرب والشهادة..الخ أظنها هفوة كبيرة أتت في باب استجداء التصفيق على طريقة و" تنوح على أسوار القدس حمامة". ما عدا ذلك أود أن أؤكد أننا أمام لوحة ولا أجمل. ربما أنها علامة أمل في ليل الأعمال الهابطة الذي يجثم منا فوق الصدور.
ناجح شاهين/أكاديمي وباحث فلسطيني من رام الله.
     








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشاعر جمال بخيت يوضح خفايا ديوان -في تاريخ القاهرة- لـ فؤاد


.. الموسيقي اللبناني -ألف- في جولة فنية تبدأ من باريس




.. ليه أفلام نصر أكتوبر اتعملت بعد الحدث بكتير؟.. اعرف السبب من


.. الفنانة الكبيرة نيللي لسة بنفس الانطلاق وخفة الدم .. فاجئتنا




.. شاهد .. حفل توزيع جوائز مهرجان الإسكندرية السينمائي