الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في بيت ثيودوراكيس

صبحي حديدي

2003 / 11 / 25
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


كنتُ قبل أيام في العاصمة اليونانية، أثينا، للمشاركة في ندوة فكرية حول الراحل الكبير إدوارد سعيد، أقامتها الجالية الفلسطينية في اليونان بالتعاون مع دار النشر "نيفيلي" وكلية العلوم السياسية في جامعة بانديوس. ورغم أنني كنت بالغ الحرص على رصد ردود أفعال أهل اليونان على هذا الغياب، خصوصاً وأن هذه الندوة لم تكن الأولى من نوعها التي تُقام في اليونان بعد رحيل سعيد (إذْ احتفت به قبل فترة قصيرة "جمعية نيكوس بولانتزاس" الأكاديمية اليسارية)، إلا أن حرصي الآخر الموازي كان ينصب على موضوع ثقافي آخر، هو موقف الشارع من الحملة الصهيونية ـ الأمريكية علي الموسيقار اليوناني الكبير ميكيس ثيودوراكيس.
ولقد بات معروفاً اليوم إن ثيودوراكيس يتعرض، منذ مطلع هذا الشهر، إلى حملة صهيونية شعواء تبدأ من اتهامه بـ "العداء للسامية"، وتمرّ بوضعه في خانة واحدة مع هتلر وغوبلز وفاغنر ومهاتير محمد (نعم!)، ولا تنتهي البتة عند محاولات تلويث سمعته وتحطيم اسمه وتدمير أعماله الخالدة. والحكاية بدأت حين أقام الفنان الكبير حفل استقبال صغيراً في بيته الجميل المطل على الأكروبول، في مناسبة صدور ثلاثة مجلدات من سيرته الذاتية، بعنوان "كيف أعثر على روحي؟". ولقد توقف، كعادته دائماً، عند جملة قضايا فكرية وسياسية وثقافية تخصّ الوجدان الإغريقي، والنزوع الحضاري الهيلليني عموماً. وكان من الطبيعي أن يعرج على مقارناته المعتادة، المفضلة عنده، حول علاقة اليونان بكلّ من الشرق والغرب من جهة، وعلاقة الحضارة الهيللينية بالعبرانيين واليهود بصفة خاصة من جهة ثانية.
وأذكر أنني، خلال زيارة إلي بيت ثيودوراكيس سنة 1998، صحبة عدد من الأصدقاء الشعراء العرب العائدين من مهرجان كافالا الشعري، سمعتُ من هذا الإغريقي العتيق رؤية فلسفية متكاملة، وتراجيدية أيضاً، تلخص حال الجدل العنيف الذي تعيشه الشخصية اليونانية بين ماضيها وحاضرها ومستقبلها. "الشرق روح العالم، والغرب جسده"، قال ثيودوراكيس آنذاك، قبل أن يضيف: "معضلة اليوناني تكمن في أن روحه شرقية نابضة بالحياة والفتوة، وجســـــده غربي مشوه مكبل بأثقال حضارة غربية، أمريكية وأنغلو ـ ساكسونية، لا صلة تجمعها البتة بجوهر الإرث الهيلليني".
وهكذا، طلبتُ زيارة ثيودوراكيس مرّة ثانية لا لكي أقف منه على حقيقة تصريحاته فحسب، بل لكي أعرب له من جديد عن احترامي العميق لفنه وشخصه ومواقفه، وتضامني التام معه في المحنة التي يريد الصهاينة اقتياده إليها. ولقد بذل الصديق الدبلوماسي والمثقف الفلسطيني عصمت صبري كل جهد ممكن لترتيب الزيارة، التي تمت بالفعل ظهر الخميس الماضي، صحبة صبري والصديق الصحافي الفلسطيني محمود خزام.
فماذا قال صاحب زوربا اليوناني، فأقام دنيا الصهاينة ولم يقعدها بعد؟ "نحن وحيدون. ولكن ليس لدينا تعصب اليهود واكتفاؤهم بذاتهم معرفياً. نحن أمّتان لا أشقاء لهما في العالم، نحن واليهود. ولكن هم لديهم التعصب الذي يجعلهم يتدبرون أمورهم. واليوم في وسعنا القول إن تلك الأمة الصغيرة هي أصل الشر وليس الخير، الأمر الذي يعني أن الكثير من الاكتفاء بالذات معرفياً والكثير من العناد يسببان الأذى. والسبب في أننا (نحن الإغريق) مسترخون ولا ننقلب إلى أناس عدوانيين، هو أننا نملك أسلحة أكثر (...)". وختم ثيودوراكيس بالقول: "لدينا شخص في قامة بيركليس هنا. هل تتخيلون ما الذي يمكن أن يفعله الإغريق لو كانت لديهم نزعة العدوان التي عند اليهود؟ ذلك هو السبب في أننا نسترخي. ولهذا نخجل أن نقول مَن نحن".
وأعترف شخصياً أن العيار الثقيل في هذه التصريحات يمكن أن يباغت أي، وكلّ، مَن لم تتوفر له فرصة معرفة فلسفة ثيودوراكيس في علاقة الإغريق باليهود، بالمعنى الحضاري والتاريخي والثقافي، أو فرصة رصد مواقفه الأخيرة: إزاء سياسات رئيس وزراء الدولة العبرية أرييل شارون بصفة خاصة، وإزاء سياسات الرئيس الأمريكي جورج بوش في أفغانستان والعراق بصفة عامة. لقد قارن على الملأ، في تظاهرات حاشدة ضاقت بها شوارع أثينا وتسالونيكي، بين شارون والنازية؛ وأطلق على الجيش الأمريكي صفات الوحشية والبربرية، وقبلها سافر إلى بلغراد لكي يعزف تحت وابل القصف الأطلسي.
كيف جرى تشويه تلك التصريحات؟ نقلها موقع إسرائيلي على الإنترنت (محرّفة تماماً لكي تفيد معنى الإطلاق: "اليهود هم أصل الشر في العالم"!)، ثم أعادت نشرها صحيفة "جيروزاليم بوست"، وكررها حبيب الصحافة السعودية المتأمركة توماس فريدمان (في ترجمة أسوأ من تلك التي أطلقها الموقع الإسرائيلي)، وكان قد سبقه وزير الداخلية الإسرائيلي، والسفير الأمريكي في أثينا توماس ميللر، و... كرّت السبحة: آلاف الرسائل الإلكترونية انهمرت على موقع ثيودوراكيس الإلكتروني، أكثرها تهذيباً تلك الرسائل التي تدعو عليه بالطاعون أو تدعو أجهزة الموساد إلى تصفيته جسدياً! أو خذوا الرسالة التالية مثلاً: "صديقك أدولف ينتظرك في قعر الجحيم يا ميكيس. لقد بدأوا لتوّهم في عزف مقطوعاتك، تمهيداً لوصولك المشهود. لن ينقذك زيت الزيتون بعد الآن، وعقابك في الجحيم سيكون مع اليساريين الآخرين، وهتلر بينهم، ممن يشاطرونك فلسفتك"!
هل انتبهتم إلى أن الحقد الأعمي تجاوز ثيودوراكيس، فوصل إلى... زيت الزيتون؟
 

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد| اعتراض قذائف أطلقت من جنوب لبنان على مستوطنة كريات شمو


.. حصانة جزئية.. ماذا يعني قرار المحكمة العليا بالنسبة لترمب؟




.. المتحدثة باسم البيت الأبيض تتجاهل سؤال صحفية حول تلقي بايدن


.. اليابان تصدر أوراقا نقدية جديدة تحمل صورا ثلاثية الأبعاد




.. تزايد الطلب على الشوكولا في روسيا رغم ارتفاع سعرها لعدة أضعا