الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عيون تنظر الى تحت

مجدي السماك

2007 / 12 / 29
الادب والفن



قفصه الصدري يعلوا ويهبط ،كانت رئتاه تحاولان الحصول على كفايتهما من الهواء بصعوبة ، يبدو أن المريض أكثر منه عافية و هو نحيف كالإصبع ، و تقوس ظهره الشديد أعطاه شكل علامة الاستفهام ، و يبوح هذا التقوس بالقهر و العذاب الذي لحق به على مدى عمره الطويل ، و لو تصورته معتدلا لبان لك طويلا كأنه شخصان قصيران قد التصقا يبعضهما .
إنه العم أبو خليل ماسح أحذية من الطراز الأول ، حيث اكتسب خبرة عشرات السنين في هذه المهنة التي امتهنها بعد النكبة مباشرة ،كان أبوه يملك في يافا مئات الدونمات من الأرض ، و على الرغم من ذلك فإن كل ما استطاع أن يرثه عن أبيه هو الفقر و القهر والحرمان . كنت أشاهده قادما و هو يحمل صندوقه الخشبي الصغير على احد كتفيه، و يمشي كأنه ينتزع قدمه من الأرض انتزاعا ، أو كأن الأرض مغناطيس يتشبث بقدميه .
وصل العم أبو خليل ، و افترش قطعة من الورق المقوى ، و احتبأ أمام صندوقه الصغير و اخذ يحدق في أقدام المارة ، و قد ضبط عينيه و بصره على وقع خطاها ودبيبها ، عله يقتنص أحداها و يوقع بها بين يديه على الصندوق الخشبي ، و هذه وسيلته في الحصول على قوت يومه ، كان يشعر بالبهجة عند اقتراب الأحذية منه .
كنت جالسا في الجهة المقابلة له من الشارع الضيق ، تقدم منه شخصا يسمى نصف عقل ، لأنه يثور و يغضب لأقل الهفوات ، و كثيرا ما كان يختلق المشاكل لأوهى الأسباب . و هو ثري ويعمل مع والده في التجارة و لهما بساتين كثيرة . وضع قدمه على الصندوق أمام العم أبو خليل ، الذي امسك الخرقة واخذ يحركها أفقيا على الحذاء فأعطاه شكل غراب يحاول الطيران .
كان وجه نصف عقل للعم أبو خليل و ظهره اتجاهي ، له عجيزة كبيرة و متكورة تتدلى و كأنها على وشك السقوط أرضا ، لولا البنطال الضيق الذي يمسكها فبدت مكتظة مثل شوال الطحين البلدي ، و بينما هو كذلك اقترب منه حوذي و ضربه بالسوط على عجيزته –تصفية حساب بينهما – لكنه لم يستطع اللحاق به لضخامة جثته ، فاخذ يتمزق غيظا و يضرب قبضة يد بكف الأخرى . انتهى العم أبو خليل من طلاء الحذاء ، و اخذ أجره منقوصا ، لذلك تجهم وجهه وشعر بالظلم ، و لكن لا حول له ولا قوة أمام هذه الجثة المترامية مثل الفيل الهندي . إن الشعور بالظلم اشد من الظلم نفسه أحيانا . تابع نصف عقل مسيره إلى المشفى ، لزيارة والده حيث يرقد هناك لأنه التهم سلة كبيرة من الصبر ، و لم يستطع إخراجها من جوفه .
عاد العم أبو خليل يحدق في أحذية المارة إلى أن بلغت الشمس منتصف السماء ، فغير مكانه هربا من أشعتها الحارقة ، التي حولت لونه من أبيض إلى برونزي ، ثم غاب لبرهات قليلة ، و عاد حاملا صرة بها بيضة مسلوقة و نصف رغيف و حبيبات من الملح ، و اخذ يقضم الخبز و يتبعها بقضمة من البيض بعد أن يغمسها بالملح ، و هكذا استمر يأكل قضمة وراء قضمة حتى أتى على البيضة كلها .
ثم ملأ بطنه بالكثير من الماء ، و كأنه يخزنه مثلما يفعل الجمل العابر للصحراء ، تجشأ جشآت سرت مثل الرعد ممتزجة بضجيج المارة ، فقال له شخص يمشي بالقرب منه ، و يلبس بدلة فاخرة : سطح ... ربنا يسطح بطنك . هذا الشخص حرامي ، و كان يسرق الدجاج وهو صغير.
اقتربت من العم أبو خليل ، بهدف إثارة ما بداخله من حنق على ظروف الحياة ، و ربما هي رغبة مني في محادثته و قلت له : انتم أضعتم البلاد .
أخذت عيناه تتراقص و تكاد أن تدمع ، ثم رمقني و فغر فاه ...و بقي هكذا للحظات ، فبدا كمن نسي فمه مفتوحا ...شارد الذهن ، ثم أردف قائلا بصوت مكسور: أضاعها الكلاب .
شعرت بالندم على ما قلته له ، ورغبة مني في إعادته إلى حالته العادية قلت له : أنت محظوظ و تستطيع أن تجلس و تمارس مهنتك أينما تشاء ، دون حاجة إلى محل بالإيجار، فقال ِ: نعم . أستطيع ذلك في أي مكان ، سوى ارض أبي التي هي أرضي . أخذت أغمغم : إن الذي صنع مأساة العم أبو خليل ، هو نفسه صانع مأساة الملايين من البشر، تركته و ذهبت ، و أخذت الأيام تمر وراء بعضها .
ذات يوم عاد نصف عقل مع والده من المشفى ، و أثناء سيرهما اقترب منهما شحاذ ، طالبا احدهم القليل من كثير ماله ، فنهراه نهرة جعلت فتاة مارة بقربهما تقفز رعبا ، و ارتطمت بزجاج احد المحال و كسرته . عند اقتراب الشحاذ من العم أبو خليل ناداه ، و أعطاه الكثير من قليل ما يملك .
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل