الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(حمالة الدلع) وفخاخ القصة القصيرة

ثائر العذاري

2007 / 12 / 31
الادب والفن


بدافع من اهتمامي ومتابعتي لما ينشر من الأدب النسوي، كانت الكاتبة الفلسطينية (ميسون أسدي)، واحدة من الكاتبات اللواتي أقرأ كل ما ينشر لهن على الدوام، وكانت دائما تلفت انتباهي بأمرين؛ أحدهما يخص موضوعاتها وهو الجرأة المتناهية في تناول قضايا صغيرة تخص المرأة ، لكنها مما يحرم الكلام فيه، وثانيهما يتعلق بأسلوبها الفني الذي يتميز بإرخائها العنان لشخصياتها وتركها تتصرف بحرية بغير أن تفرض هي وصايتها عليها. وربما يكون المثال الواضح للأمرين معا قصتها (شاي وبسكوت وسكر).
(حمالة الدلع) آخر ما نشرت ميسون، وعندما قرأتها وجدت أنها تثير عددا من قضايا القصة الفنية التي وجدت أن من المفيد أن أكتب فيها. فالكاتبة بنتها بأسلوب يختلف عن أسلوبها المعتاد، غير أن هذا الأسلوب الجديد أوقعها في فخاخ فنية تثير قضايا مهمة في تكنيكات كتابة القصة القصيرة.
ليس جديدا القول أن القصة ليست فنا سهلا، إذ ربما تكون من أعقد الفنون، فللشعر مثلا أنظمة صارمة، لكنها تظهر بجلاء في جسد القصيدة، فلا تحتاج خبرات كبيرة من القارئ لرصدها، أما القصة فإن نظامها معقد خفي، لا يملك القارئ إلا التأثر به من غير أن يستدلّ عليه، ولا يستطيع رصد حركته إلا العارف بأصول الفن ودقائقه، تلك الأصول التي تجعل القصة مختلفة عن الحكاية والأحدوثة الشعبية. و(حمالة الدلع) تحيلنا إلى بعض تلك الأصول وما يحدث اختلالها من آثار في العمل القصصي.
تبدأ القصة بمقتبس استهلالي من (صلاح جاهين):
"النهد زيّ الفهد نط اندلع
قلبي إنهبش بين الضلوع وانخلع
يلـّي نهيت البنت عن فعلها
قول للطبيعة كمان تبطل دلع..
وعجبي"

إن فكرة وضع مقتبس لستهلالي فكرة جيدة لتحديد استجابة القارئ في حقل شعوري محدد، وقد أحسنت ميسون في تركيب وحدة نصية تتألف من العنوان والمقطع الاستهلالي، جعلتها تؤدي وظيفة شبيهه بتلك التي تؤديها علامة مرورية في بداية طريق ما، لتشير إلى نوع الطريق.
تبدأ القصة، بعد ذلك، بهذه العبارة:
" مر أسبوع كامل وهيفاء حائرة، لا تدري كيف تطلب من والدها هذا المبلغ دون التعرض للإحراج.. نسقت بعض الجمل وأعادت ترتيبها مرارا ثم ألغتها، ورتبت جملاً جديدة وألغتها، كانت تفكر كل الوقت في كيفية الطلب.."
من الواضح هنا أن القصة ستروى من خلال رؤية (هيفاء) بطلتها، إذ لا يمكن لأي شخصية أخرى أن تعرف ما كان يدور بخلدها من حيرة إلا هي نفسها. ولكن بعد أسطر قليلة يأتي هذا الحوار بينها وبين أبيها:

-أعطني بعض المال..
-لماذا؟
-أريد أن أشتري شيئا ما!
-ما هو؟
-لا استطيع أخبارك..
-لماذا؟!
-سأشتري شيئًا.. يخص الفتيات..
فهم الوالد ما ترمي إليه ولكنه أراد أن يسمعها تقول بنفسها ما تريد ويضحك معها ويستفزها قليلا:
-لن أعطيك، إلا إذا قلت لي ما هو هذا الشيء!

إن العبارة (فهم الوالد.......) فخ أطبق على ميسون وهي تحاول وضعنا في أجواء قصتها، فما كانت تريد قوله أن الوالد مازال يرى ابنته طفلة، لكن كيف استطاع الراوي – إذا كان هيفاء نفسها – أن يعرف ما يفكر به الأب مع نفسه، وإذا لم يكن الراوي (هيفاء) فمن هذا الذي يسطيع الدخول في عقل كل من الشخصيتين واستبطانهما؟ إن زاوية النظر ركن مهم من أركان السرد وأحد أهم المظاهر الجمالية في القصة، فلا يجوز قص القصة إلا من خلال رؤية شخصية واحدة، وإذا كانت هناك ضرورة فنية فيجب الفصل بين الرؤى بفواصل طباعية لإرشاد القارئ إلى تغير زاوية النظر.
هناك أعمال سردية عالمية شذت عن هذه القاعدة لأغراض فكرية، مثل رواية ماركيز (خريف البطريرك) التي كان الراوي فيها يتغير من غير إشعار واضح، لأن ماركيز كان يريد تصوير شخصية الديكتاتور بشكل عملي للقارئ، من خلال ممارسته سلطة ديكتاتورية عليه تستفز فيه الحنق.
في (شاي وبسكوت وسكر) أجادت ميسون عرض شخصياتها بطريقة تصويرية، إذ أن على القاص أن يرينا شخصياته لا أن ينجر وراء الحدث ويمارس دور (الحكواتي) ليخبرنا عما فعلت تلك الشخصيات، لكنها في هذه القصة تبدو مستعجلة في نهايتها ، فتغادر طريقة تصوير الشخصيات وهي (تفعل)، لتأخذ هي نفسها زمام السرد وتبدأ بإخبارنا عن الأحداث التي جرت:
" ابتعدت عن رفاقها وخاصة الشباب وانزوت وحيدة، وأهملت مظهرها الخارجي وتحولت مشيتها إلى مشية عجوز منحنية الظهر ومطأطئة رأسها ورقبتها متدلية بوهن من فوق كتفيها، تسير وهي مكتفة يديها طوال الوقت. "
إنها هنا تقرر النهاية، فالفعل (ابتعدت) ليس عملا قامت به الشخصية في زمن محدد، إنما هو نتيجة ترتبت على الأحداث السابقة، لكنها نتيجة جاءتنا من خارج القصة، ولم نر من أفعال (هيفاء) ما يوحي لنا بالوصول إلى هذه النتيجة.
والحديث عن الفعل (ابتعدت) يجرنا إلى النظر في الأفعال التي استخدمتها الكاتبة في جسد قصتها. ولنأخذ مثلا هذه العبارة:
" كانت تعتقد وهي في طريقها إلى البيت أن الجميع ينظر إليها.."
إن التركيب (كانت تعتقد) يذكرنا بطريقة حكي الحكاية (كان ياما كان في قديم الزمان كان هناك ملك........)، فالفعل (كان) قبل الأفعال المضارعة يؤدي إلى بناء صيغة تدل على أن المتحدث يروي فعلا ماضيا وهو موجود خارجه الآن، وكان الأفضل أن تقول:
(اعتقدت وهي في طريقها إلى البيت أن الجميع ينظر إليها..)
في هذه الحالة ستكون الجملة نقلا تصويريا للشخصية لا إخبارا عن حدث ماض.
وتحاول الكاتبة عرض احتمالين للنهاية، الأول جاء متماسكا منسجما مع بنية السرد، فبعد صدمة (هيفاء) بحادث صديقتها، تصاب بالإحباط الذي يدفعها إلى الانزواء والابتعاد عن الاختلاط بالجنس الآخر.
أما الاحتمال الثاني فيأتي هكذا:
"أعذرني عزيزي القارئ على هذه النهاية الحزينة والمتوقعة، لكن الحقيقة لم يحدث شيء مما قررته هيفاء بعد ذلك الحادث مع صديقتها حسناء، فقد ذهبت بالاتجاه العكسي تماما وأصبحت تبرز نهديها في كل مناسبة متاحة أو غير متاحة وتترك نصفه الأعلى مكشوفا يترنح ويرقص كيفما تسير...."
ولا أدري ما الذي دفع ميسون إلى هذا، فهي تكشف عن نفسها بشكل يفسد بنية السرد تماما؛ (اعذرني عزيزي القارئ....) فهذه العبارة أدت إلى ظهور القاصة بهيئة الراوي، مما يجعل قصتها قريبة من الحكاية.
ومع كل هذا فللقصة قيمتها المتأتية من ملامسة الكاتبة لموضوع من الموضوعات المسكوت عنها والمحرم الخوض فيها، مشاعر الفتاة وهي تنتقل من الطفولة إلى البلوغ، تلك المشاعر التي تصيبها بالكآبة لعدم عثورها على من يوضح لها كنه هذه التغييرات الكبيرة التي تطرأ على جسدها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقابلة فنية | المخرجة لينا خوري: تفرّغتُ للإخراح وتركتُ باقي


.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء




.. بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء خاص مع الفنان


.. كلمة أخيرة - فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمي




.. كلمة أخيرة - بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء