الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غزة وشطب الذاكرة - 5 -

غريب عسقلاني

2008 / 1 / 1
القضية الفلسطينية


قوس الربابة على وتر مقطوع " ب "
رفح عالم آخر

يعيش الناس على إيقاعات خاصة، وحكايات خاصة، لم يعد الموت هنا مفاجأة أو فاجعة ، ولا هدم البيوت حادث استثنائي، ولا اختراق الرصاص صدر رضيع على صدر أمه فعل يفوق التصور، الإيقاع شديد الخصوصية، الموت والهدم والتجريف، وغياب الصغار والكبار صار من مألوف الحياة، لا تثير عجباً أو استهجاناً إلا عند المراقب القادم من خارج المكان، وأعضاء الطواقم الصحفية والإعلامية، وطواقم حقوق الإنسان والمنظمات الإنسانية.
سئم الناس من الحديث، المكان يتحدث فالناس هنا لا يثقون بالسياسة ولا يأبهون بالسياسيين، يهزأون من الفضائيات وقنوات البث المباشر، لأنها ترسل أطراف الحدث، ولا تقترب من بؤرة الانفجار، الناس هم الحدث وهم ضحاياه، الآدمين والأشجار والحيوانات والبيوت، أرواح تتقافز في المكان لا تموت، تغفو مع انطفاء لؤلوة عين الشهيد، وتستفز مع شلل الأعضاء والأطراف المصابة أو المبتورة، تسكن الأرواح الحفر التي تخلفها جذوع الأشجار التي اقتلعت بعد طول ثبات، تهجع الأرواح قبل الفجر بين ركام البيوت المنسوفة أو المقصوفة أو المجرفة ، تلملم حكايات المكان وتحتفظ بأسرارها المقدسة .
في رفح تتبدل الأشياء تتناوب الحالات والأحوال، والموت سيد المكان، الطير في الفضاء مذعور من الطائرات الزنانة، الأزيز يربك خفق الأجنحة، ينعف ريشها، يصرعها ضغطاً أو تفريغ هواء أو فرقعة، تدور الطيور ثم تسقط في قبور الآدميين، أو عند مرقد الشواهد، أو في ظل جثة حيوان، فلا فسحة للحياة في الموت، ولكأن الحياة تهيؤ فاصل لحكاية بدايتها الموت ونهايتها موت، وما بينها موت وذكرى لا تموت. هذا ما تمتم به من أخذني إلى الرجل صالح أبو مور لزيارة ابنه الطفل ابن العاشرة إبراهيم، الذي لم يكن يأبه لما كان يدور، ملعبه الأثير بالقرب من بوابة صلاح الدين ، يأخذ كرته وينظم فريقه ويمارس هوايته يستعرض قدراته على تمرير الكرات، و يصوب نحو مرمى الفريق الخصم. ويشهد الملعب لاعباً مناوراً ذكياً وخفيفاً ، وراشقاً للأهداف لا يخيب .
يقول أستاذ الألعاب في المدرسة :
ـ يصرُ إبراهيم عينه اليسرى، ويفتح اليمنى على أقصى اتساع، فلا يخطئ الزاوية ولن يرضى بأقل من ارتطام حارس المرمى بالأرض مهزوماً، غرامه أن يرقص الحارس قبل أن يسدد .
ولكنه عند بوابة صلاح الدين يستفز قناصاً يراقب المكان من برجه، العالي القناص شبحه على صليب منظار البندقية، وقذف فانطفأت عين اللاعب، ضاعت العين العسلية الذكية وسكن كهف العين عين زجاجية ميتة لا تميز بين الدمع والقذى .
مشكلة إبراهيم أن العين المفقوءة لم تتوقف عن الإدماع، الأمر الذي يثير عجب الطبيب المعالج... والد الطفل يسأل :
ـ إلى متى ستظل الدموع ؟
يقول الطبيب الذي خذله علمه:
ـ إلى أن يجف معين غدة الدمع.
ـ متى ؟!
يراوغ الطبيب الذي يعز عليه استئصال الغدة:
ـ عندما تدرك الغدة عبث اللعبة، وأن العين الزجاجية لا تنظفها الدموع .
***

هؤلاء من فعلوها

سالي الشاعر، تيبس ساعدها الأيمن على انثناءة طارئة، رصاصة عوراء هشمت عظم المرفق ، وقتلت أعصاب الكف، الأصابع ظلت مضمومة ما عدا السبابة، الذي ذعر عصبه، وبقي مشدوداً ليبقى الإصبع مشدوداً يقرر حاله.. السبابة تشير:
ـ هؤلاء من فعلوها ..
كان الإصبع يشير إلى جنود أقاموا متراسهم قريباً من البيت.. قالت:
ـ كنت على السطح أتفرج على الناس في بيت عزاء محمود صديق أخي الشهيد جمال، وفجأة حاصرت الدبابات الحارة، وأطلقت القذائف وانهمر الرصاص، هربتُ إلى أسفل، لكن الرصاصة لحقتني فارتميت على الأرض ولم أصحوا إلا في المستشفى.
البيت عار، يعود لقريب مغترب لجأت إليه الأسرة بعد أن جرفت الآليات بيتها في منطقة الشريط الحدودي وقتلت جمال.
الأب يتكوم في الزاوية يتلفع ببطانية سوداء هدية من الصليب الأحمر, يدس بخاخة في فمه بين الحين والحين حتى يستقيم تنفسه، وتسكن عيناه، يبصق سعالا جافاً، يزحف إلى الستين، جسده يقول أنه عايش المرض منذ زمن طويل:
ـ هذه المنطقة اسمها الجنينه، كانت جنينة رفح، صارت مقبرة.
سالي مبطوحة، تسند خصرها على مرفق يدها اليمنى، وتدرب اليسرى على الكتاب، أنظر إليها، تبتسم ثم سرعان ما يتقمصها تجهم مفاجئ ، أسمع فحيح تنهدها.. أتساءل: كيف يتنهد الصغار، تنهض سالي تفتح صفحات دفترها:
ـ هذا خط اليمنى قبل الإصابة، وهذا خط اليسرى .
شتان فالفرق كبير، خط اليمنى جميل واثق, وخط اليسرى خجول متعثر يبحث عن لياقة مفقودة .
أخذت يد سالي، حاولت فرد أصابعها المضمومة، لم تستجب وظلت مضمومة، حاولت تعديل وضع الساعد المشدود، رأيت الألم على وجهها فاجحمت، وظلت السبابة تتهم:
ـ هل رأيت الجندي الذي أطلق عليكِ النار يا سالي ؟
ـ رأيت الجندي الذي قتل جمال.
ـ هل تسطيعين التعرف عليه ؟
ـ كنت خائفة، وكان الجندي مرعباً .
عين سالي صافية يسكنها حزن عميق، وكأنها قفزت عن عمرها إلى مستقبل مجهول، سألتني بصوت متردد:
ـ هل لجنود الاحتلال أولاد مثلنا ؟
***

أنياب الجرافات

للجرافات الإسرائيلية مهام أخرى في غزة، وللجرافات أدوات ملحقة تقوم بأعمال التجريف والهدم واقتلاع الأشجار، بارود العدو يحصد الأرواح وجرافات العدو تقبض على أرواح الشجر والحجر، والأقدار في غزة موصولة مترابطة..
عمي حامد المنجد الجميل الذي اشتغل بأصابعه الذهبية فراش العرسان وطرز ملاءات العرائس، تقاعد عن مهنته واشترى عشرة دونمات فأصبح مالكا في بيت حانون.
الأرض بيارة برتقال، وعمي يسري مع نجمة الصبح، يتفقد الشجر، يترنم بأهازيج الأعراس بعد أن يتلو آيات من الذكر الحكيم.
جُرّفت البيارة ورُدم البئر.
- شجرة واحدة استعصت عن سن الجرافة .
يبكي عمي حامد كما لم يبك ولد أو زوجة، وهو الذي فقد أحب أولاده إلى نفسه في الانتفاضة الأولى، وفقد زوجته التي ذوت حزنا على ولدها بعد أسابيع من الموت قال:
ـ صارت البيارة ساحة للغربان وجراء الثعالب الضالة.
ـ في المال ولا في العيال يا عمي .
ـ الشجرة مثل الولد تربيها فتعوض عليك تعبك وتغنيك عن السؤال .
يحدث نفسه :
ـ السؤال وعرفناه، والجواب لم نسمعه بعد .
الذي يؤرق عمي لدرجة الموت، هو كيف يصل إلى الأرض بعد أن اعتبرت نطاقاً امنياً، يعزي نفسه:
ـ الأرض باقية، لا ترحل ولا تهاجر، لكن الشجرة اليتيمة عطشانة..
عمي حامد يحوم حول الأرض ينتهز الفرصة ليدلق جالون الماء حول الشجرة.. وفي يوم آوى إلى فراشه وقد ضربته القشعريرة.
ـ ما بك يا عمي ؟
ـ الشجرة صامت يا ولدي .
ـ وكيف عرفت ؟
ـ سكنها الغراب، ولم تطلق ازهارها.. الشجرة حزينة
ـ وهل يحزن الشجر..؟
ـ كل من تسكنه الروح يفرح ويحزن.
يفاجئني منطق عمي، الروح تفرح وتحزن والروح تعلن الحداد، ولكل روح أسلوبها الخاص وطريقة تعبيرها ..
الأمر الذي يحير الناس في غزة، صيام أشجار الزيتون عن الأثمار، التفسير يملكه فقط من خبر السنين، وعلمته أن الشجر يعبر عن حزنه بالتوقف عن الأثمار, قلت :
- محصول الزيتون خفيف هذا العام .
- وهل المصائب الذي نزلت علينا قليلة يا ولدي؟!
- وما علاقة هذا بذاك ؟
- روح الزيتون مباركة تعرف ما لا يعرفه البشر.
طأطأ عمي حامد، وأسبل حفنيه وكأنه يتقي الضوء، كان وجهه صافياً على شحوب، رائقاً شفافاً، خلته يحاور كائنات بعيدة تبتسم.. شدنى وأخذت أجوس في تعابير وجهه حتى أفاق من غيبوبته / حلمه.. فتح عينيه وحدق في الضوء، وحزم أمراً:
- سأزرع الأرض .
- ولكنه الحصار .
قاطعني بصرامة
ـ سأزرع الأرض .

***
إنهم ينسفون البحر :

الصياد العجوز لم يعد ينام على الشاطئ، لأن ظل مركبه قد اختفى، صُدور المركب عندما صودر البحر، وأصبح الشاطئ عذابا.. يملأ الصياد رئتيه بدخان عربي قوي، يسعل وهو الذي طالما تباهى على أقرانه ومجامليه بأنه لا يسعل, فهواء البحر يبطن رئتيه بزاد رباني:
- من يركب البحر، لا يألف العيش على البر.
الصياد العجوز يعتبر الماء بيته ومرقده، يتخذ من سيرة البحر ومداد عمره يؤرخ للأحداث بالنوات ومواسم الصيد، يعلق إشارته عند إشارات البحر.. عند رضاه وعند غضبه، يرف جفنه الأيسر ينتظر ألماً قادماً، يدق صدره، فيعرف أن أسراب السردين، وطيور الفري (السمان ) في الطريق إلى الشباك، يغير النسيم اتجاهه، فيعرف كم من الوقت سيمر قبل أن تصل جحافل البوري أو الدنيس أو كلاب البحر، حتى سلاحف الماء ترسل إشارتها قبل أن تدفن بيوضها على الشاطئ أو في تجاويف الصخور.. الحياة مع البحر مواسم، ولكل موسم عدة وعتاد, ولكل صيد طقوس, والبحر جواد لا يضن على خليله، والبحر عجيب إذا صام ينفلق على سره، لا يسلم مفاتيحه إلا لمن عرف السيرة, وأدرك التقويم, وزاوج بين مسار النجوم في السماء وحركة التيارات في بطن الماء.. والبحر عميق وصدر الصياد واسع رحيب ، البحر قدر والصياد يمتثل للمقدر والمكتو ، يصارع ولا يغضب من البحر، غضبه دائماً على نفسه فهو المخطئ لأن البحر أزلي لا يغير مواعيده إلا إذا اهتزت الأقدار.
الصياد العجوز لم يعد يركب البحر، ترك مركبه على الشاطئ حتى شاخ المركب امتعاضاً وحزناً، والصياد الذي يطارد المدى يقف له الطراد الإسرائيلي على مرمى نظر، يرشفه إذا أغرته الحالة، يرده إلى الشاطئ، وينتشر الرعب في الماء، يتسرب الدبيب إلى أعماق الماء تتردد ذبذباته، تثير الهلع بين سكان الماء، تهجر كائنات البحر المطارح بعيداً تتجاوز مرمى زوارق الحرب الإسرائيلية، يتنهد العجوز ويتجرأ عليه السعال، يحدث نفسه:
ـ إلى متى ستنتظر الأسماك في المياه العميقة!.
ـ هي بانتظارك يا سيد البحر.
ـ الأسماك يا ولدي إذا تغيرت عليها المطارح تأخذ قرارها بالانتحار احتجاجاً
وفي يوم ضبطت العجوز في السوق، يزعق غاضباً في الباعة:
ـ لا تعرضوا هذه البضاعة .
ـ لماذا يا ريس البحرظ
ـ هذه الأسماك انتحرت، قذفها البحر فوقعت في الشباك ميتة.
تحدثت غزة عن طرح البحر العجيب .
فقد قذف البحر، خلاط من الأسماك على رمال الشاطئ، ميتة متزلعة تشوبها بدايات عفن، ولم يدرك الناس سر الحالة، الصياد العجوز اعتصم بجدار بيت قصف حديثاً وأخذ يتمتم:
- لم يستطيعوا تجريف الماء ففجروا البحر بالقنابل.
يصرخ البحار العجوز في الناس:
- أنتم في زمن يتفجر فيه كل شيء حتى، لكنهم لن ينالوا من توقيت البحر لأنهم لا يعرفون أسراره ..
***

الطيور في سماء غزة :

لا طيور في سماء غزة، لا ريح تحمل ريش الأجنحة ولا نسيم يعبق بأريج الفصول, فالفصول بوابات دم إثر دم، الهواء في غزة ثقيل / حزين / ملوث / محتل ، حتى الغربان والبوم لم تعد في عرف الناس طيور شئوم وخراب، الغربان السوداء غادرت قمم أشجار السرو وتوقفت عن النعيق.. قصفت هامات الأشجار العالية، ولم تجد البوم عتمه تأوي إليها في النهار، الخفاش تزلعت أجنحته بفعل الردم ونثار الانفجارات.. في الفضاء تصفر الطائرات الزنانة كما يسميها الناس على مدار الساعة، تصور ما يدور على الأرض ، وتسجل حركات الناس حتى في حجرات النوم، وعلى موائد الطعام الفقيرة، الحالة في غزة كما الوطن حاله عري قسري ولا خجل ولا فضيحة، إلا فضيحة الإسرائيليين كل لحظة ويوم، لا حضور إلا لهدير الأباتشي وطائرات أف 16 ، والكوبرا إذا لزم الأمر .
في الفضاء موت يترصد الناس والحيوان والطير والبيوت وإسفلت الشوراع التي ما عادت معبدة، والصيد طفل، رجل، امرأة, حارة نائمة على جوعها وجراحها وقتلاها .
القتل في غزة طقس يومي يتجدد ينثر بهاءه، والقتيل / الشهيد، يطبق جفنيه على راحة أبدية لا يسأل إذا ما تناثرت اشلاؤه أو تشظت.
والحالة في غزة حصار
الحالة موت وأسئلة ووطن .
والحالة في غزة بحث عن زهرة في شعاب الكوابيس, وقوس ربابة يطلق لحنا مشروخا, ووتر مقطوع /موصول.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أبرز القضايا التي تصدرت المناظرة بين بايدن وترامب


.. الرئيس الأميركي جو بايدن ومنافسه ترامب يتبادلان الاتهامات بع




.. هل يتنحى بايدن؟ وأبرز البدلاء المحتملين


.. توثيق اشتباكات عنيفة في رفح جنوبي قطاع غزة




.. آيزنكوت: يجب على كل الذين أخفقوا في صد هجوم السابع من أكتوبر