الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخطاب السياسي في العراقِ القديمِ

عامر عبد زيد

2008 / 1 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


لقد تطور الخطاب السياسي من سلطة دولة المدينة إلى سلطة الدولة ( الإمبراطورية ) إذ تجاوزت سلطة المدينة - كما هو الحال في ( اور )،( كيش ) ، و ( الوركاء ) ؛ لتضم مدنا عدة في سلطة واحدة ، كما في ( اكد وسومر ) في عهد سرجون الاكدي، وقلده الكثير من الحكام فيما بعد،كما في عصر النهضة السومرية، حيث تمكن أميرها ( أور – نمو ) حققت تلك الوحدة في ظل سلطة( اور) كما حقق هذا الحلم حمو رابي فيما بعد.


فإننا نلاحظ إن الارتهان الديني -الذي يجعل من الإنسان خاضع لسلطة مفارقة سماوية - صاحبه ظهور ارتهان سياسي ظهر مع ظهور الرعوي السياسي الذي مر بعصر الإبطال وملوك المدن أو الملوك الذين اخضعوا مدنا عدة إلى سيطرتهم ، واتصفوا بأنهم محطمي الأسوار إشارة إلى قضائهم على الوحدة المكتفية بالمدينة من خلال إخضاعها إلى وحدة أوسع هي الدولة ( الإمبراطورية ) . وهذا الأمر ضمن إشاراتنا إلى مفهوم التمدن بشكل عام إذ شمل سلطة المدينة ، ولسلطة الدولة ( الإمبراطورية ) حيث مع نمو المدينة ازداد الارتهان وأصبح هناك ارتهان لإرادة عليا للملك الذي دمج الدين في إطار كوني محققا الوحدة السياسية والتي بدورها تحقق الخضوع التام لسلطة الملك الذي نلمس فيه الطابع الإخراجي الذي تسيطر فيه الدولة على مقدرات الأمور .. ومن تصورات تحليلية حول اصل الملك الذي يعود به الى قوى غيبية مفارقة طابعها تقديس لهذا الشخص والتي تظهر في بالاتي :
التصورات المتعلقة بالطابع ألخراجي : لقد كانت هناك تصورات تربط الاجتماعي بالكوني في مفهوم الدولة معتمد إيديولوجيا قوامها منظومة من التصورات المركبة المتداخلة ، هي من اخص خصائص العقلية التي من النمط الإخراجي ، تصورات توحد وتجمع بين :
1- الإلوهية .
2- الطاغية المستبد .
3- الوظائف السياسية القانونية ، وظائف التنظيم القانوني الأخلاقي والديني والقانون السلطوي القمعي .
4- نظام حركة الكون .
5- خصوبة الحقول وتتأسس الوحدة بين العناصر في ذهن الرجل الشرفي القديم على اعتقاد في الأصل الإلهي لسلطة الطاغية الحاكم المستبد والاعتقاد في القوانين التي يسنها(1) حتى تصبح تلك العلاقة بين الملك والشعب الخاضع لمبدأ السلطات وكل معارضة تعني تدنيس المقدسات .إن هذه النقاط تظهر في وضوح في سير الشخصيات الملكية والإبطال .
فان الإلوهية : إن مفهوم الإلوهية لم يظهر عند الملوك إلا عندما نتوقف عند شخصيات ( دموزي ) الذي يعد احد ملوك الوركاء قبل الطوفان .
1. إلا إننا نجد إن الإلوهية تظهر بإشكال متعددة لتسبغ الشرعية على الفرق بين الملك والشعب ، الذي جاء نتيجة القوة ؛ إلا إن الملك يسبغ على نفسه الشرعية عندما يظهر على انه اختيار سماوي ، أو انه ينتسب إلى أم كاهنة مما يسبغ عليه القدسية ، وهناك آليات متنوعة لإسباغ القداسة على الذات الملكية .
2. إما الطاغية المستبد : إن الراعي يجب إن يظهر قوته الطافحة التي تجعله ذا قدرة لا تدانيها قدرة أخرى ، مما يجعله فوق البشر وهذا ما ظهر لدى جلجامش ، ولدى سرجون الاكدي .
3. إما الوظائف السياسية القانونية سواء كانت أخلاقية أم دينية فإنها تظهر إن السلطة الملكية تعد القناة التي تبرز من خلالها القوانين ، والقناة تعني إن الملك غالبا ما ينسب هذه القوانين التي جاءت منه على أنها جاءت من سلطة سماوية مفارقة نسبغ عليها القداسة وتوجب الطاعة حتى تصبح مقياس للسلوك القويم يكون معيار خلقي كسلوك ومقياس ديني يحدد مفهوم الطاعة .
4. إما نظام حركة الكون : إن الملك الذي يشكل بالنسبة للرعية الراعي الساهر عليها فان حدود هذه الرعية مرتبطة بالأفق الكوني وهذا يظهر في بعدين :
الأول – إن السلطة الكونية السماوية تراقب المجتمع البشري وتستمع لمعاناته كما استمعت لمعاناة أهل أوروك إمام طغيان جلجامش ؛ لهذا خلقت انكيدو، وقد سبب هذا الصراع اثأرا كونية ، أو تظهر عندما يجلب أفعال البشر أفعال غضب الإلهة كما ظهر في الطوفان الكوني إذن فأفعال البشر والملوك ذات أفق كوني .

الثاني – قد تؤثر أفعال البطل أيضا في أفعال الطبيعة كما فعل آدابا مع الريح التي تركت عند غيابها أثرا مدمرا في الحياة البشرية .
وقد تؤثر أفعال الملك عندما يكون هناك فال غير حسن فان هذا يقود إلى إصابة الشعب بهذا الفال, فإما أن يتحمل الملك هذا أو يأتي بالملك البديل الذي يجعله محله لمدة مئة يوم ثم يقتله فيأخذ الشر معه ، لهذا فان مقابلة الملوك مرتبط بالطالع مما يجعل مقابلة الملك امرأ صعب التحقق .
5-إما خصوبة الحقول : كانت إلام الكبرى رمزا للخصب في أول أمرها ، ثم شاركها الرجل ، ثم أصبح الرجل هو المركز . هو يختار الكاهنة التي تشاركه احتفال الزواج المقدس . فقد أصبح للملك اثر في إخصاب الطبيعة وجذب الخير إليها .

1- التصورات المتخيلة للملك : وهي التي تعتمد اللغة في اختلاق تلك الصور التخيلية القائمة على إطلاق المسميات ونسج الحكايات والأساطير ،عن انساب الملك عبر مسرحة السرد من خلال تلاوة ذلك داخل المعبد أو في المناسبات الدينية الاحتفالية وهي صناعة تجعل من الملك فوق النقد والمتابعة القانونية ، " إما بالنسبة للعلاقة بين الملك ومرؤوسيه ، فقد كانت طاعة السلطة من الصفات الاساسيية للحياة المتمدنة حتى أنها تصبح متساوية مع عبادة الإلهة لشعب بلاد ما بين النهرين (...) وتكشف نصوص الفال عن تلك التكهنات التي تشير إلى الاتصال فيما بين الملك ورعيته فتظهر الصورة المظلمة عن القصر وإجراءاته القاسية غير العادلة بإتباع طرق الاستيلاء والسجن" (2) .إلا إننا لم نلاحظ إن الملوك العراقيين كانوا يمثلون القسوة التي وصف بها المستشرقون ملوك الشرق عامة، بل نلاحظ من " المراسلات الملكية التي وصلتنا من العصر السرجوني لم يذكر فيها عن عملية إرهاب أو أية إحكام بالموت عند القيام بدسائس معينة ضد البلاط . ولقد تمتع قسم من الشعب لاسيما المدن القديمة بالحصانة وان منزلتها المصانة جعلتها تقف إمام أية انتهاكات تصدر عن الملك" (3) .بل إننا نجد صور متسامحة تتجسد عبر المدونات الأدبية،فقد وصف الأدباء الملوك " إذا ما أراد الأديب مدح الملك فانه يقارن قوته وبأسه بصورة تشبيهيه مستوحاة من واقع الطبيعة مشبهته بفتوة الجبل أو الجواد أو بمخلب النسر . إما إذا أراد إن يتظلم ويعبر عما يكابده من حزن وقهر فنجده يشبه حاله بالثور الذي ينوء بحمل النير وبالحمامة التي تنوح في بلد غريب أو القارب الذي يتقاذفه الموج بعيدا عن شاطئ الأمان" (4) .إلا إننا أيضا نلمس إن الأديب كان جزء من صناعة المخيال الرسمي؛ فقد عمل الأدب في هذا العصر على ترسيخ قيم الطاعة داخل الوسط الذي له دخل كبير في حياة الفرد اليومية، ومن هنا نجد الفرد يتقيد دائما بان السلطة على حق . ومن أمثلة ذلك ما يأتي :
"أوامر القصر ، كأوامر"انو" ، لا تتبدل كلمة الملك حق، ونطعه كنطق الإله لا يغيره شيء "
وفي قول سومري أخر :/ " إن الملك هو مرآة الإله " .
وفي قول أخر :" شعب بلا ملك ماشية بدون لراع "(5) .
وقول مايلي :" الرجل ظل الإله ، والعبد ظل الرجل ، ولكن الملك مرآه الإله (6) .

فان هذه الأمثال تكشف طبيعة العلاقة بين الملك والشعب ،أنها علاقة تقوم على التباين الاجتماعي،والخضوع من قبل الشعب ل ( علاقات هيمنة وتبعية ) التي تجعل الاثنين يسهمان في الحفاظ على النظام القائم .هكذا كان للملك حضور سياسي، وديني وهذا يتجلى في عمق سلطة الملك الذي يشكل المركز الذي يحافظ على بقاء المعبد من خلال ما يقدمه الملك من منح وهدايا وأسلاب الحرب إلى المعبد أسهمت في نمو سلطته ، إلا إن هذا أيضا كان له اثر أخر إذ أصبح للقصر- المكان الذي يمارس الملك من خلاله سلطته- سلطة أخذت تتسع مقابل انحسار سلطة المعبد ،حدث هذا منذ الفترة التي أعقبت العصر السومري إذ جاءت كل الوثائق من أوروك واسبار تشير إلى إن المعبد كان يشغل مهمة محلية وهذا انعكاس لوحدة السياسة في ظل مهيمنة الإمبراطورية ( الدولة ) التي يمكن إن نتابع ظهورها من خلال تركيزنا على ثلاث شخصيات أكدية وسومرية وامورية .
أولا- سرجون الاكدي : ارتقى العرش في نحو سنة 2370 قبل الميلاد . نجد في النص الأتي خير ممثل للمدخل الذي نود إن نتخذه مدخلا إلى شخصية هذا الملك والنص يقول على لسان الملك :
" كانت أمي خائنة كما لم اعرف أبي
عشق إخوة أبي التلال
مدينتي هي ازد بير انو الكائنة على شاطئ الفرات
حملت أمي الخائنة بي ، وبالسر ولدتني
فوضعتني في سلة من الاسل ، وبالقار فتمت غطائي
ورمتني في النهر الذي لم يغمرني
فرفضي النهر وحملني إلى ( انكي ) اليقاء
فاتخذني ( اكي ) السقاء ابنا له ورباني
وعندما كنت بستانيا وهبتني ( عشتار حبا
ومارست الملكية مدة اربع و ....... سنة (7) .

وهو مؤسس السلالة الاكدية الحاكمة الذي وطد أول مرة السيطرة السياسية على جزء كبير من بلاد الرافدين تحت نظام اكدي . وقد اكتشف مقابل النظام السومري : أي إن لغة الحاكمين كانت اكدية (6) ، وهي اللغة التي تتصف بأنها أقدم اللغات الجزرية المعروفة ، وبالتالي اقر بها إلى الأصل المشترك . ابتدأ تدوين هذه اللغة بالخط المسماري قبل منتصف الإلف الثالث قبل الميلاد ولم يتوقف استعمال اللغة الاكدية حتى القرن الأول الميلادي ، أي أنها استمرت حية لمدة ثلاثة ألاف عام وهذا ما يجعلها أطول لغات الأرض – قديمها وحديثها – عمرا (9) .

وقد اكتشف رأس برونزي في نينوى ، ولعله يصور الملك نفسه . ويمكن مقارنة تصفيف الشعر مقارنة دقيقة بخوذة من سبيكة الفضة والذهب تخص مسيكالام – شار الأمير الذي دفن بكسوة كاملة من مستودعات الدفن والقرابين في احد قبور عصر فجر السلالات في اور .
اكتسب سرجون وخلفاؤه تراثهم السومري وأحرزوا مكتسباتهم وبتطور فنونهم الرفيع . ويمكن إن يصنف تحت التماثيل والأختام في تلك الحقبة في مصاف أجمل الآثار التذكارية في بلاد الرافدين (10) .
إما إذا عدنا إلى النص السابق الذكر متخذين إياه مدخلا لهذا العرض الذي نريد تقديمه لشخصية سرجون الاكدي ، فمن الواضح إن هذا النص يحيط هذا الحاكم تلك الهالة المتخيلة التي تجاوز الحدث التاريخي صوب الحدث الأسطوري ( الذي ليس قاع تاريخي ، ولكنه وفي معظم الأحيان ينطوي على نظرة مختلفة إما هو تاريخي . بصورة أدق لاينظر إلى التاريخ على انه قائم بذاته ولذاته بمقدار ما ينظر إليه كونه مجالا رحبا لحضور آلهة وينطوي – أي الحدث الأسطوري – على نظرة أخرى تقوم بزحزحة الحدث التاريخي إلى الإمام والى الوراء (11) .
فان النص السابق يتجاوز التاريخي عندما يجعل من الماضي متعالي مقدس عبر الرجوع إلى إحداثه مصورة بشكل يجعل من حياة سرجون عرضة لتغيرات قبل الوعي بالنسبة له فهو محكوم بالإحكام الإلهية التي سيرت حياته من قبل حتى جعلته مجتبى من قبل الإلهة ( انانا – عشتار ) ، وهذه إلية تخيلية ابتدعها الخطاب ألذكوري في تصوره للملكية باعتبارها منحة أعطتها الإلهة ، فهذه الحالة تؤكد ازدواجية الحقيقة الملكية التي تجمع في الملك طبيعة مضاعفة فهو من جهة ممثل الإلهة بين البشر ومن جهة أخرى ممثل البشر بين الإلهة . وهذا يظهر في النص السابق الذي يحيط سرجون بالغموض فهو يجمع الجانب المقدس من خلال أمه التي هي " كاهنة عظمى تدعى ( اينيتو entu ) بالا كدية "(12) . وهذه الإشارة إلى وظيفة إلام تدخل ضمن مفهوم الاختيار الإلهي الذي نجده هنا يظهر في بعدين :
الأول – إن الاختيار الإلهي يتحقق من خلال مفهوم ( البنوة المقدسة ) حيث يفترض في من تختاره الإلهة لممارسة السلطة السياسية: إن يكون احد أبناء الإلهة . إن ملوك سومر وأكد لم يترددوا عن الزعم بكامل إرادتهم ( أولاد الإلهة ) وضمن هذا البعد فان سرجون الاكدي يظهر من خلال ( البنوة المقدسة ) مفهوم الاختيار الإلهي .
الثاني – وهو الذي يظهر فيه الاختيار من خلال المساندة التي تقدمها الالهة الحامية ( انانا – عشتا ر ) وهذه الحماية تظهر في الأتي :
1- فترة حوالي منتصف الإلف الثاني قبل الميلاد عندما حكمت ارض الرافدين دولة مدينة ( كيش ) ثم دولة مدينة ( اكد ) وكلتاهما تابعين للإلهة ( انانا – عشتار ) تسمى فترة حكم ( انانا) التي كانت تتمتع بلقب ( الملك ) في المجتمع الإلهي آنذاك . بمعنى إن عشتار كانت تعبد في ( كيش ) و( اكد ) وسرجون الاكدي كان ( ملك كيش ) إلا انه كان يمتلك طموحا أعظم فأسس في مكان ما على الفرات ، عاصمة جديدة هي ( أكد ) حيث شيد قصره وأقام معابد لحصنه الحامية ( عشتار ) ولزبابا آلة الحرب في كيش (13) .
2- إما معنى إشارته إلى عشتار بوصفها إلهة الحامية بهذا يعطي لمفهوم عشتار أربعة ألفاظ بالاكدية هي : ( ايلو عشتار ، و لماسو ، و شيدو ) وتدل أ ايلو ) على سعادة وابتهاج الشخص الذي لديه ( ايلو ) ولديه روح حارسة جيدة ويسمى ايلاتو " الشخص الذي لديه ايلو " اعني الشخص المحفوظ .

إما عشتار فهي الإلهة الحامية ، حيث يذكر الملوك في بلاد ما بين النهرين علاقتهم بعشتار التي هي حظهم ومن هنا فان ( سرجون الاكدي ) محبوب عشتار ، وهي التي تعبر عن حظ الملك (14)
ولهذا فان السلطة السياسية كانت تمثل بالنسبة لسرجون الاكدي سرا إلهيا زود به من قبل الإلهة . فما حققه سرجون بالسلاح عبر عنه وكأنه حق كان مقسوم له ليس بقوته بل بإرادة الله أولا وهذا يكسبه الشرعية وتعاطف العامة معه .
إلا إننا نلمس في هذا البعد تصورا دينيا أيضا، وهذا ما نجده في ذلك التراث الديني ( الذي يمكن إن يكون مفتاحا لدراسة التكوين الذهني للإنسان والمراحل التي مرت بها المشاعر الفردية اتجاه العالم (15) . إذ كان هناك اعتقاد مفاده: إن القوة الكامنة وراء نجاح الإنسان هي الحقيقة الإله الشخصي (Presonal God ) الذي يتخذه الفرد وسيطا وشفيعا لدى الإلهة الكبرى ، وقد وصفه بعض الباحثين " بأنه اقرب ما يكون إلى تشخيص لحظة الفرد ونجاحه في هذه الحياة " وقد يفسر هذا النجاح بأنه قوة خارجية تتغلغل في أفعال الفرد وتمنحه النتائج المطلوبة التي لا تصدر عن قدرة في الإنسان نفسه (16) .
وبعد هذا نستطيع الولوج إلى بناء دولته عبر الإبعاد الآتية :

البعد الداخلي : حيث كان بوسعه إن يكون ( ملك كيش ) فقط ولكنه أسس عاصمة هي اكد . وكان الشيء الجديد الأساسي في حكمه هو انه ( أصبحت للساميين الأفضلية على السومريين فجرى تعيين حكام اكديين على كل دويلات المدن الرئيسية ، وأصبحت اللغة الاكدية تستعمل في المدونات الرسمية مثل اللغة السومرية . ولقد أولى سرجون احتراما كبيرا للمؤسسات الدينية السومرية ، ونصب ابنته كاهنة لإله القمر في اور ( نانا) . ولكي يثبت ملك اكد بأنه لا يعتزم كسر التقاليد المقدسة القديمة ، فقد أطلق على نفسه ( كاهن انو المعمد ) و ( انسي انليل الكبير ) أيضا (17).
نلاحظ انه بهذا قد حقق وحدة سومر كلها بعد إن حول الثقافة الاكدية الدينية ( السياسية من طور التابع إلى كيان ، وذلك عندما فرض حكام اكديين على كل المقاطعات لتحقيق الوحدة العسكرية ، ثم انه جعل اللغة الاكدية تشغل مكانة كبيرة مما جعل الشعب الاكدي – إذا جاز لنا التعبير – يشغل مكانة الصدارة عبر لغته ، إلا انه لم يحارب اللغة السومرية بل احتواها ثقافيا بالإبقاء عليها وعلى التقاليد الدينية والسياسية والثقافية فصهر الوحدة السياسية في قالب واحد ، ثم انه بنظر توفيقية اعترف بالأديان السومرية وجعل من نفسه المحترم لها والناطق باسمها؛ فأصبح بهذا محقق الوحدة الدينية على مستوى سومر واكد .
البعد الخارجي : وسع جيشه بشكل كبير ، فجرد عدة حملات في اتجاهين على الأقل : عبر دجلة نحو إيران ، وعلى طول الفرات باتجاه سوريا وقد صادف في الشرق مقاومة من قبل جيوش أربعة حكام لجنوب – غرب إيران يقودهم ملك ( اوان ) . واستطاع سرجون الاكدي في النهاية هزيمة أعدائه وأصبحت عدة مدن ، بحكامها ، ونواب ملوكها تابعة له .

إن العلاقة مع خارج سومر سواء كان الأمر في إيران أو في سوريا هي علاقة تقوم على تحصل حاجات سومر واكد من مستعمراتها خارج سومر واكد فان " غابة الأرز " تعني لبنان أو جبال الامانوس ، كما يعني ( الجبل الفضي) جبال طوروس ، وكما يوحي هذا من معنى الاسمان ، فان سرجون قد استطاع بالسيطرة عليهما ، وان يؤمن لنفسه تجهيزات كافية من الخشب، والمعادن الثمينة، التي أصبح بالإمكان نقلها بحرية وأمان بوساطة نهر الفرات لتصل إلى بلاد سومر واكد (18) .

هكذا حقق سرجون الاكدي مشروعه السياسي في بتناء دولة شكلت مهيمنة سياسية تركت أثرها في الديني والسياسة . وقد حافظ عليها مع كبر سنه ، التي كان لها اثر في توسيع كثير من أفاق سومر الجغرافية ،وجدت لغة اكد السامية مستمعين أكثر وامتزج قسما من سكان العراق مع بعضهم استعدادا لمصائر مشتركة مقبلة واستثمرت الحضارة السومرية – الاكدية – وعمادها الخط المسماري – ليس فقط من قبل سكان شمال وادي الرافدين بل وكذلك من قبل الجوريين واللولوبيين والعيلاميين .
ومن جهة أخرى ، فقد اعتنى وادي الرافدين بورود البرونز والفضة والخشب والحجارة بكميات كبيرة ، بينما قدم سجناء الحرب العاملون كعبيد قوة عمل رخيصة وغزيرة .

ثانيا - اور نمو (2103 – 2-96 قبل الميلاد ) ، إن هذا العاهل الذي أعقب ثورة سومر التي قادها ( اوتو – حيكال ) والتي كانت تمثل ظاهرة لتحرر من النفوذ الكوتي الذي سيطر على سومر واكد حوالي عام (2120 قبل الميلاد ) حشد ( اوتو حيكال ) جيشا انتفض به ضد ارثها بين التلال الخبيثة ) وتبعه في ذلك عدة أمراء آخرين في جنوب العراق . ولما دحر العدو الأجنبي المكروه حاول ملك الكوتيين ( تريقان ) إن يلوذ بالفرار ولكنه لم يفلح إذ القي القبض عليه وسلم للقائد السومري . لكن ( اوتوحيكال) طرد من قبل احد رجاله وهو ( اور – نمو ) الذي كان يعني اسمه ( رجل الإله نمو ) حيث حمل النهر جثة ( اوتوحيكال ) .

ولقد كان للعاهل اور – نمو اثار حضارية ومدينة كبرى حتى جعل منه علامة بارزة في التاريخ العراقي القديم وقد اهتم بالجوانب الآتية :

1- الجانب الأمني : حيث كان العراق يعيش أوقات عصيبة بين طرد المحتلين عبر الانتفاضة ، وما تبع ذلك من اختيال ( اوتوحيكال) أدى ذلك إلى حدوث فراغ امني ، وكان ( اور – نم ) قد عمل على إملاء ذلك الفراغ عبر تطهير الأرض من اللصوص وقطاع الطرق والمتمردين ونشر ما تعتبر أنها أقدم مجموعة من القوانين في تاريخ العالم وقد وجد الترقيم الذي يحتوي هذه ( الشريعة ) في ( نفر ) قبل أكثر من خمسين سنة ،وكان مهشما بصورة سيئة ، ولم تنشر محتوياته إلا في الآونة الأخيرة . وقد كانت هذه الشريعة تلزم كل جان بدفع تعويض نقدي بالفضة تختلف وفق درجة خطورة الجناية .

2 - الجانب المدني : كان الملك في الدول الإخراجية التي تعتمد على جهد الدولة في الاهتمام بالزراعة ، ومن هنا جاءت إعمال ) أور – نمو ) في إنعاش الزراعة ، وهذا يفترض شق القنوات وتنظيم الحياة الزراعية والاهتمام هذا قاد إلى إعادة الصلات التجارية مع ( ماكلال ) بعدما تعطلت ابان الاحتلال الكوتي ، وحصنت المدن تحسبا لاندلاع حروب قادمة فقد أنجز مقدارا هائلا من إعمال التعمير والترميم . ولكن اسم ( اور – نمو ) سيبقى يرتبط عند علماء الآثار بشكل خاص ، والى الأبد ، بالزقورات أو الأبراج المدرجة التي أقامها في أور ، أوروك ، اريدو ، ونفر في مدن عديدة أخرى ، والتي بقيت حتى ألان من أكثر نصب ومعالم هذه المواقع إثارة للدهشة والإعجاب .
ولقد تبلورت سلطة اور عبر من جاء بعده حتى نلمس بعدين :-
أولهما: تزايد أهمية الملكية الفردية والإعمال التجارية الخاصة .
وثانيهما : الدور المتعاظم الذي أصبحت تؤديه السلطة المدنية في الحياة الاقتصادية للبلد.
ففي مجال النقطة الأولى كان الملك هو الذي يأمر ببناء المعابد ،ويقدم لها التبرعات المادية الكبيرة ، وهو الذي يعين كهنتها ، ويرعى احتفالاتها الدينية الكبيرة. وبالمقابل كانت المعابد تدفع ضرائب دائمية إلى القصر . وفي أوقات الأزمات المالية الحادة ، كانت المعابد تضع كامل ثروتها تحت تصرف مليكها ، كما كان اقتصاد المعبد عرضة للإشراف المباشر من قبل الملك . ومن الناحية العملية / لم يوجد هناك أي خط فاصل بين ممتلكات المعبد وممتلكات الدولة المتمثلة بالملك (19) .

إما النقطة الثانية: المتعلقة باتساع هيمنة الدولة إلى جانب هيمنة الملك حيث أدت مركزة السلطة الاقتصادية والسياسية بيد ملوك اور إلى تكون مجتمع تهيمن الدولة عليه داخل إقليم واسع موحد إداريا . وكانت المشاريع الفردية الخاصة فيه لا تزال محدودة وعرضه للمخاطرة .
ثالثا- حمو رابي

وهو العاهل الثالث الذي تبلورت معه الصورة النهائية لهذا الجهد الذي وجدناه سياسيا وعسكريا مع سرجون الاكدي ، وإداريا وقانونيا واقتصاديا مع ( اور – نمو ) إما مع (حمو رابي ) فقد اجتمعت كل هذه الجهود في بلورة صورة شمولية لوحدة السياسية العراقية التي استطاع إن يحققها معززة بنجاح عسكري وتماسك إداري وقانوني وتوحيد ديني ظهر بأكمل صور في التوحيد البابلي مع قصة الخليقة ، أسهم في رسم صورة جبرية كونية شكلت أخلاقيات الطاعة في علاقة العبد بالإله و بالملك الذي نجده يظهر في أكمل صورة في النص التالي على لسان حمو رابي :

" استأصلت شانه العدو شمالا وجنوبا
ووضعت حدا للحرب ،
وطورت ازدهار البلد ،
وجعلت الناس يهنأون بعلائق حميمة
ولم ارع أحدا يرهبهم
فنادتني الإلهة العظيمة
فأصبحت الراعي المحسن الذي صولجانه الحق ،
ونشرت ظلي الوارف على مدينتي
وفي قلبي حملت شعب سومر واكد ،
الذي نعم بحمايتي ،
وحكمت بسلام ،
وحميتهم بقوي "

إن النص الذي ابتدأنا به الحديث عن ( حمو رابي ) يشير إلى الوظائف التي قام بها هذا الراعي ، إذ كان قائدا عسكريا وسياسيا ورجل عدل بالشكل الذي أضفى عليه سمة الراعي الذي يرعى الرعية ويسهر عليها ويظهر هذا في الجانب العسكري : عندما تسلم حمو رابي العرش كانت تركة أبيه له لا تزيد على مملكة صغيرة نسبيا لا يتجاوز طولها ثمانين ميلا وعرضها عشرين ميلا تمتد من سبار إلى ماراد ، لكن كان يحلم بإمبراطوريات أكد وأور العظيمة عند ما قرر مهاجمة أعدائه حيث اصبح في بجر عشرين سنة فقط اختفت جميع ممالك وادي الرافدين الخمس باستثناء ، واحدة هي مملكة بابل ، وأصبح العراق ألان امة واحدة بقيادة البابليين. ويصعب علينا هنا البت في المدى الذي بلغته سلطة حمو رابي . فقد وجدت مسلة تحمل اسمه قرب ديار بكر في إقدام جبال طرووس ، ولكن عيلام وسوريا احتفظتا باستقلالهما (20) .إذ جرى بناء وترميم وتزيين المعابد في كل مكان . وفي كمدينة نفر نفسها ، وفقا للتقاليد الملكية السائدة سابقا ، وتم ، وبحذر شديد ، تجنب الإتيان بأية حركة من شأنها تأجيج الشعور الديني لدى السكان (21) .
إن ما نفهمه من هذا النص يقوم على إن في ظل الحكم البابلي الذي يمثل حمو رابي مشرعا من الطراز الأول انه قدم قراءة للماضي الديني تمكن من إعادة قراءة التراث الديني استجابة للحاجة التي ظهرت مع ظهور مهيمنة الدولة ( الإمبراطورية ) التي تجاوزت حدود دولة المدينة وأصبحت واسعة الإطراف فكان هذا هو الدافع إلى إعادة كتابة الميراث الديني أي انه دافع سياسي يهدف إلى خلق تماسك سياسي ممكن يقوم على منظومة دينية موحدة تسبغ الشرعية على النظام السياسي البابلي من خلال إتباع منهج يحاول التوفيق بين تلك الأديان وخلق وحدة فيما بينها تجعل اله بابل مردوخ ألها لجميع العراقيين ، سومريين واكديين معا . وبذالك استطاعت السياسة إن تغير الدين وتجعله قريبا من التوحيد ، إذا ما كان التوحيد قد بدأ من البابليين .

إما البعد الأخر لهذا الدمج الديني نرى إن العاهل البابلي قد جعل من نفسه رسول الإلهة ، أي انه تحول من البعد الإنساني إلى البعد السماوي ، فالقرار الذي يتخذه يجعله قرارا إلهيا يضفي على القرار السمو وعدم الممانعة وبهذا يكتسب الصفة القطعية نظرا لكونه قدسيا ومفارقا . وهذا الأمر يرتبط بالظاهرة الدينية التي تقوم على جعل القرار يصدر من خارج المجتمع تصدره سلطة سماوية رغم إن هذا القرار أساس يصدر من البشر الذين لهم سلطة القرار ، إلا أنهم ينسبونه إلى السماء حتى يجعلونه قدسيا وإلهيا ، وهذا ما يظهر في شريعة حمو رابي التي يتم تلقيها من قبل اله العدل ( شمس ) الذي يكشف الغالية من شريعته وهي بهذا تظهر أصلها البشري بقوله :
"كي يعم العدل إرجاء البلد
ولإزهاق الأشرار والاردياء
ولكي لا يستطيع الأقوياء ظلم المستضعفين "

ورغم إن هذه الشريعة لا تعد الأولى من نوعها من النصوص المكتوبة فهي قد سبقت بمرحلة طويلة من الشفاهية كإحكام عرفية بقيت مدة طويلة ، ثم جاءت نصوص مدونة سابقة مثل الوثائق التي ظهرت في عهد ( اور – نمو ) و ( لبت عشتار ) .
لكن تبقى شريعة حمو رابي تبدي اكتمال العهد في هذه المرحلة التي تخضع لهيمنة الدولة ( الإمبراطورية ) التي تتجاوز حدود دولة المدينة ، ومن هنا جاءت الشريعة " أكثر الشرائع كمالا ، لذلك فهي تستحق منا وقفة متميزة ، ويجدر بنا إن نؤكد في هذا الصدد إن مصطلح ( شريعة ) من شأنه في الحقيقة إن يكون مفصلا إلى حد ما حيث لا تواجه هنا اصطلاحا قانونيا شاملا ، ولا مجموعة متكاملة مسهبة من الإرادات القانونية المرتبة منطقيا كالقوانين الجوستنينية أو القانون المدني لنابليون " (22) .

وكما قلنا إن الشريعة مرتبطة بالظرف التاريخي الذي ظهرت داخله إلا أنها تشكل حلقة بالغة الأهمية في تطور الفكر القانوني سواء كان تشريعا سماويا أم تشريعا ارضيا
" وقد أمر حمو رابي بتدوين إحكامه الملكية على مسلات وضعت في المعابد لتكون مشاهدا على إن الملك قد قام فعلا بتنفيذ وظيفته المهمة ( كملك للعدل) خير قيام ، وانه قد تصرف وفقا لما تعتمل به قلوب الإلهة " (23) .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خسائر كبيرة في صفوف الجيش الإسرائيلي باشتباكات في جباليا | #


.. خيارات أميركا بعد حرب غزة.. قوة متعددة الجنسيات أو فريق حفظ




.. محاكمة ترامب تدخل مرحلةً جديدة.. هل تؤثر هذه المحاكمة على حم


.. إسرائيل تدرس مقترحا أميركيا بنقل السلطة في غزة من حماس |#غر




.. لحظة قصف إسرائيلي استهدف مخيم جنين