الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوصول إلى الأبيض في معرض إستعادي ضخم لآدم حنين بالقاهرة

يوسف ليمود

2008 / 1 / 5
الادب والفن


قريبا من منطقة الهرم، وبعد قضاء حاجة، تذكرت أنني بالقرب من بيت آدم حنين، حيث تمخر سفينته الحجرية، بما عليها من كائنات من رخام وبرونز وجرانيت، عباب النخيل، في سكون زمنها الفني الخاص، وأشرعتها الخفية من الظلال والانعكاسات وإنجيل النِسب. أدرت الرقم في هاتفي المحمول، فجاءني صوته الحنيني: "أنت في القاهرة! خذ تاكسي الآن وتعال إلى متحف محمود خليل بالجيزة، تجدني في قاعة أفق واحد". ساعة ً وكنت هناك: الكيان المنحوت من الدفء، الحضور المغناطيسي، والعين العميقة التي تنظر مباشرة في عمق العين: "أنت جميل دائما يا أستاذ آدم". ها هو يضع لمسات الضوء الأخيرة لمعرضه الاحتفالي (يستمر حتى 13 يناير) في القاعة الضخمة قبل الافتتاح بيومين، عصارة ما أنتجه في رحلة خلق متواصلٍ نصف قرن ويزيد. لست أدري إن كانت كلمة (عصارة) في محلها، غير أنني ووجِهت بالأبيض، وعرفت أنه الأقرب إلى نفس الفنان.. عبر الخامة: الجبس.

للأحجار سطوة تستقيها من مدى نبلها وقدر صلابتها. الحجر تكلسٌ بالطبيعة، تكلّسَ في الزمن الكبير ويمكن أن يُسحق، أما الجبس فمسحوق يتكلس في الزمن الصغير ولا يزدهي بلمعة السطح المصقول كالحجر، بل يتدثر بالانطفاء. ثراؤه، تحديدا، في هذا الزهد. إنه جمعٌ بين عنصري التراب والنور، حيث المطاوعة وليونة ارتماء الشفافية فوق الشفافية. أهذا فقط ما دعا آدم حنين إلى اختيار أعماله الجصية من بين تراكمات تاريخه الفني الفارد جناحيه في الحجر والمعدن، وإلى إعادة صياغة بعض الأعمال القديمة عبر هذا الزهد والانطفاء المشع؟ أم أن الاختيار أتى بالأحرى من تصاعد الأبيض وشفافية الظل في نفس هذا الفنان الذي يبدو أنه يزداد شبابا، بل طفولة، مع توغله في السنين؟ ما يؤكد حدسي وانحيازي للفكرة الأخيرة، هو سلسلة الأعمال التصويرية المنثورة على الحوائط برهافة وذكاء، والتي تحمل كلها تاريخ إنجاز واحد 2006، أي أحدث ما أنتجه الفنان، على العكس من جل المنحوتات الموزَّعة تواريخُها في مدى خمسين عاما، بين 1952 إلى 2003. في هذه اللوحات الجاذبةِ أطرافَ القاعة الفسيحة بخيوط طاقةٍ خفية من الإشعاع - بحيث كان يمكن أن يعتمد عليها المعرض وحده من دون الشعور بفراغ المكان - نرى تصاعدية للذهبي والفضي – وهما لونان رامزان بطبيعتهما إلى الشمس ولون الحقيقة - في مساحات عريضة تهيم في حضنهما ألوان تكاد تكون رموزا في ذاتها قبل أن تهندسها الإرادة التجريدية، إن في شكل بيضوي أخضر يقول الأرض، أو مثلث بني يتواصل مع خطوط المصور المصري القديم، أو تنقيط كريستالي خارج من المنطقة الجنسية في اللوحة، أو مربع أبيض يقول الروح، وفي الغالب يشير، من غير وعي ربما، إلى: على أي درجة من السلم الملائكي يقف صاحبها.

أنفصل عنه كمخلوق، لأستغرق في عمله كخالق، وأشعر بطاقته الثاقبة تخترق مؤخرة رأسي، فتخرج مني، من غير التفات، ذبذبات تواصل حميمي. ونعود لنتواجه في الفضاء: "سأسرق منك هذا الذهبي". يضحك: "لك هذا". وأقول: "إن عشرات السنين من عملك المتواصل لم تكن نحتا في التماثيل، بل فيك أنت كروح". يبتسم بروح كبيرة وقد راقته الملاحظة. نتوجه معا ببطء إلى صوت أبيض متصاعد من تدرج جبسي أنثوي في أحد الأركان الواسعة: "شفت أم كلثوم؟". "أه، لم أنظر إليها بهذا التحديد التشخيصي، بل رأيتها امرأة وحسب". في الحق، فيها من رقة التشكيل ما صار أشبه باللحن. هنا بإمكاني أن ألاحظ أن الموضوع في أغلب أعمال حنين لم يكن سوى تعلة أو سبب للتشكيل، اللهم إلا في بعض الأعمال، كسفينة نوح على سبيل المثال، حيث يصعب تنحية الموضوع ورؤية التشكيل مجردا. "أين رست سفينتك يا آدم، أريد أن أراها". يجيبني بأنه هدم البيت لينشئ مكانه متحفا يضم أعماله. كانت زيارتي الأولى له في بيته قبل أربع سنوات، هناك استغرقت ساعات أمام الأصداغ الجرانيتة للسفينة الهائلة، المغروسة في الزرع بين النخيل، عليها انتصب الطائر الرخامي الأبيض واقفا كإله معبود، ووجه صلاح جاهين البرونزي، والحماران، والرموز، والمدارج، وحنايا ظل، وتراكيب روحٍ لغتُها البساطة والعمق. وقتها، وفي غمرة تشرّبي الجمال، قلت: "أراها في الصحراء المجردة". رد في تأمل: "والله ممكن!". وقتها أيضا كتبت، ضمن نص غير منشور: "سفينة تستعد لرحلتها في الأبدية, وهل العمل إلا استعداد للأبدية، أو بمعنى أصح، اقتحامها!".

لوحات آدم حنين جميعها تجريدية، مع استثناءات ذات صبغة موضوعية أو تشخيصية، تؤكد تجريديته كفنان وكمتصوف، بالمعنى الفني لكلمة تصوف. على العكس من معظم إنتاجه الثلاثي الأبعاد، حيث تكون ـ أو كانت- الانطلاقة من موضوع قلّصته الحلول التشكيلية إلى حدود بذرته الشكلية كجوهر لا يحتمل ثرثرة التفاصيل، فصار تجريدا به مس من تشخيص. فهل هي طبائع الخامة تفرض منظومات وأشكال تناولها، أم أننا أمام فنان لا يُمسك؟ حين أبديت له، شبه مازح، ونحن أمام اللوحة التشخيصية الوحيدة، التي بدت كنزوة لاعبة، بين أخواتها المجردات، وتصور امرأة راقدة وسط رقة من مساحات وتنقيط ونسب ذهبية، ملحوظتي الأخيرة: أن الفنان كائن لا يمكن لأحد الإمساك به، أجاب بسرعة البديهة المازحة: "حتى هو لا يقدر أن يمسك نفسه". وألمس خيط التطور والارتقاء في الأعمال التصويرية، أعادني إلى استرجاع بردياته التجريدية الآسرة التي نفذها في مرحلة متقدمة من إقامته الباريسية التي امتدت خمسا وعشرين سنة، والتي بصم بأكاسيدها الترابية على أوراق البردي روح المصري القديم القابع داخله بذهنية فنان عصري فهم أين يقف الفن اليوم... وقتئذ.

بعد يومين، وفي الافتتاح الذي رغبت في تحاشيه، ورغم ذلك حشرني سبب وآخر في زحمته، بين الوجوه والأقنعة والأعمال التي ترفض أن تبوح بصمتها في مثل هذا الصخب، أفاجأ بكشاف أحد الكاميرات العديدة التي تصور الحدث، مسلطا على وجهي بالسؤال، ليندفع من حنجرتي صوت الآخر فيّ، وبأسرع من التفكير أجبت: "آدم حنين هو أحد رؤوس مثلث ذهبي يمثل الفن المصري الحديث، الرأسان الآخران هما حامد ندا وصبحي جرجس (....)"، وأفكر بعدها فيما خرج مني بعفوية، وأطمئن له ليكون افتتاحية لنصي هذا، غير أن تقريريته جعلت حظه معي أن أضعه في الخاتمة. ولكن أليس الوقوف أمام العمل نفسه أبلغ من أي كلام، ناهيك عن السقوط في التقرير، خاصة إذا كان العمل صادرا من كيان ذهبي لفنان كآدم حنين؟
يوسف ليمود
النهار اللبنانية
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا