الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دهشة الكوثر

صبري هاشم

2008 / 1 / 8
الادب والفن


1 ـ الجريان
صرنا على أبوابِ الشام زوجتي وأنا وصغيرنا الذي لم يكمل شهرَه الثاني . الحافلةُ توقفت أمام السيطرةِ المنصوبةِ عند مدخلِ دمشق . في الحافلة بشرٌ صبورون . بقسوةٍ استجوبني الضابطُ ولم أدرِ ما السبب :
ـ مِن أين أنتَ ؟
ـ مِن العراق .
ـ وكيف دخلتَ البلدَ ؟
ـ مثل كلِّ العراقيين في الشامِ الذين تزدحمُ بهم بيوتُ السيدة زينب .
ـ مَن أعطاك هذه الهويةَ ؟
لم أجب كانت هويتي وهويةُ زوجتي صادرة عن جبهةِ النضالِ الشعبي الفلسطينية . عندما سلّمنا إياها الرفيقُ المسؤولُ في القامشلي لم نطلع على فحواها بسببِ الثقةِ العمياء بالحزبِ ورفاق الحزب.
أضاف :
ـ في أيِّ يومٍ من شهرِ تموز نحن ؟
أجبتُ :
ـ في العاشر من تموز من العام 1983 .
قال الرجلُ :
ـ أُنظر إلى تأريخِ إصدار الهويةِ ؟
نظرتُ وتعجبتُ . كانت الهويةُ صادرةً في الرابع عشر من تموز من العامِ نفسه . أي أننا نسبق الزمن بأربعةِ أيام .
الحافلةُ تتململُ ضجراً وزوجتي سئمت الوقوفَ بين يدي فصيلِ السيطرةِ والصغيرُ يصرخُ تحت أشعةِ شمسِ تموز والضابطُ يلحُّ على معرفةِ هويتي الحقيقيةِ .
ـ مِن أيِّ جماعةِ أنتَ ؟
ـ لستُ مِن جماعةٍ محددةٍ إنما أنا من الحزبِ الشيوعي العراقي .
ـ أعطني أسماءَ مسؤوليكم في القامشلي والشام .
أعطيته أسماءَ شخصيتين عراقيتين حزبيتين متنفذتين في القامشلي والشام . قال :
ـ كان عليك أنْ تكشفَ عن هويتِك منذ البدايةِ .
صار الضابطُ كريماً معنا فأطلقنا وأطلقَ الحافلةَ التي لم تتوقف بنا بعد تلك الرحلةِ .
***
كثيرةٌ هي الأفكارُ العظيمةُ التي تزورنا ولم نحتفِ بها فتعتذرُ عن المجيء ثانيةً . وكثيرةٌ هي الصورُ الشعريةُ التي نضيعها في لحظةِ ما ولم نقتنصها بشجاعةٍ .
***
في تلك الأيامِ من أيامِ حربِ الأنصار كنّا نتوزعُ هامَ الجبالِ ولم نتوقف أمامَ مرايا النفوسِ إلاّ قليلاً . كانت صدورُنا تكتمُ كلاماً غريباً يأتي من مكانٍ قصيٍّ ، من خلفِ الأفقِ . لم نستطع البوحَ به رغم جمالِه وجمال مأتاه . آلافُ الأفكارِ النبيلة والكريمةِ ذهبت أدراجَ الرياحِ ولم تُدوّن .. آلافُ الصورِ الشعريةِ التي تبددت دون أنْ تُسجّلَ على ورقةٍ حيث كانت الورقةُ والقلمُ ترفاً فكرياً . ضاعت قصائدُ وأفكارٌ في هباء المكانِ ، تطايرت من فوق القممِ ومع هذا لم نبكِ على مياهِ الخابورِ كما بكى يهودُ السبيِّ على مياهِ بابل . لم نندب حظوظَنا .
***
لا ذاكرة لنهرِ الخابور
فالأحداث يجرفُها التيّارُ الغاضبُ دوماً
لم نترك أثراً ، رغم الأعوام ، في كلِّ الوديان
فنحن لسنا من المكانِ وهذا ليس بمكان
لم نترك رائحةً أو حرفاً محفوراً على صخرةٍ
لم نترك رسماً على جذعِ شجرةِ الجوزِ أو البلُّوطِ
إنما نحن في هذه الوديان
وعلى قممِ هذه الجبالِ
تركنا جثثَ موتانا نهباً للطيرِ
أو نسينا أين ماتَ أحبتُنا
مع الخابور لا نتوهّم صحبةً
فالنهر بلا صاحبٍ
منذ الأزلِ النهرُ يمضي وحيداً
***
في عدن أدمنّا رائحةَ البحرِ والأسماكِ والبخورِ وعيونِ نساء يرفلْنَ " بالدروع " الشفيفةِ في الغالبِ . في عدن تابعنا ، للمرّة الأولى ، رحيلَ السفنِ حتى امتزاجِها بخطِّ الأفقِ ، إلى أنْ يبتلعَها المدى .. للمرّةِ الأولى أرى شراعاً يبرزُ من نقطةِ التحامِ البحرِ بالسماء . في عدن البحرُ مفتوحٌ إلى ما لانهاية .. الأفقُ مفتوحٌ إلى ما لانهاية . كلُّ شيءٍ يرحلُ بحرّيةٍ تامّةٍ: الطيورُ والأسماكُ والأشرعةُ والكواكبُ والموجُ والزواحفُ والحيتانُ والبشرُ إلاّ أنا لا أستطيعُ الرحيلَ . هنا استهلكتُ نصفَ شبابي متحسراً على هواء السفرِ .
***
لم تكن لي فوق الرمالِ بلادٌ
ولا زورقٌ يمازحُ الموجَ
لم تكن لي في السماء نجمةٌ كي أسامرَها
ولا فرسٌ تطيرُ في صحراء
لم تكن لي حوريةٌ تقطنُ قصراً في الأعماقِ
فتغريني إلى عالمٍ مجهولٍ إنما لي
مُخيلةٌ مُجنّحةٌ تطوي المسافاتِ
وفي آخر الليلِ تعودُ بكأسٍ ممتلئةٍ
لم يكن لي وطنٌ في الخيالِ
***
في الشام كما في البصرةِ أو بغداد أوعدن نستهلكُ في الذهابِ والإيابِ أحلامَنا. لم نفكِّر إلاّ في الرحيلِ . لماذا ؟ هل هذه الأوطانُ لا تكفي لأجسادِنا الصغيرة ؟ هل ضاق بنا المكانُ؟
مراراً تساءلنا : لو قُدِّرَ لنا أنْ نحيا كما نريدُ هل نفكِّرُ بالرحيل ؟
في الواقع نحن لا ندري ما نريد !
كنتُ مستعداً للحسابِ لو أني خرقتُ قانوناً ما ، لكن الذي يحصل هو أنّ القانونَ يخرقني فمَن يُحاسب القانونَ ؟
***
بعد انهيارِ الإتحاد السوفيتي وحلفِ وارشو برزت ظاهرةُ ما يسمى بـ " اليسار " وأحياناً اليسار الديمقراطي أو المتمدن وبعض الأحزابِ الشيوعية غيّر اسمه والبعض الآخر غيّر اسمه وجلدَه كردِّ فعلٍ على شموليةِ الأحزابِ الشيوعيةِ المتهاويةِ في بلدانِ أوربا الشرقية وكتخفيفٍ من دكتاتورية الأحزابِ التابعةِ لها وهي في الغالب شيوعية أيضاً . في الواقع أنّ كلَّ هذه التسمياتِ الجديدةِ كانت قد خرجت من غرفةِ نومِ ستالين ولا ينفع معها أيُّ تلميعٍ لصورتِها فهي مازالت تحت تأثيرِ اللذّةِ ، منفوشةِ الشعر ، حتى رأيناها تنهار انهياراً تامّاً وترتمي بأحضانِ عدوتِها التقليدية الإمبريالية التي تجسدت بالإمبريالية الأمريكية . ما حدث أثناء وبعد احتلالِ العراق من ارتماء لليسارِ في أحضانِ أمريكا كان أكبرَ نكتة في تأريخِ الشيوعية ، أغرى هذا الارتماءُ منظماتٍ وأحزاباً شيوعيةً لكي تطالبَ أمريكا باحتلالِ بلدانِها وتقضي على النظمِ الديكتاتورية فيها فراحت " تستنيك " بالقرب من أبوابِ البيت الأبيض . العراقيون أعطوا خلال أربعِ سنوات من الاحتلالِ " فقط " مليون وربع المليون من القتلى الأبرياء شاءت الأقدارُ أنْ تُطلقَ عليهم صفةُ " شهداء" أو في أسوأ الأحوال " مغدورين " ، أغلبهم مِن البشر ، أعني 100% من البشر الأقحاح!
***
ما أكثر الخونة !
إنهم يتكاثرون كالفطر .
إلى وجهِ كلِّ مثقفٍ ومبدعٍ عراقيٍّ هادنَ أو سيهادن الاحتلالَ .. أطلقُ !
إلى جبين كلِّ عراقيٍّ مالأَ أو سيمالئ الاحتلالَ أو انتظم في حزبٍ جاء بالاحتلال أو مع الاحتلال.. أطلقُ !
إلى كيانِ كلِّ عراقيٍّ ، مهما كان ولو كان نبياً ، أيَّد أو سيؤيد الاحتلالَ .. اصطف أو سيصطفُّ مع مجموعةٍ دخلت مع المحتلِ حين غُزيت أرضُ العراقِ أو اشترك في العمليةِ السياسيةِ .. أطلقُ !
إلى كلِّ الوجوهِ الكريهةِ ، الممسوخةِ التي خانت أو ستخون بلادَ ما بين نهرين .. أطلقُ !
إلى وجوهِ أولئك المثقفين الذين انبروا أو سينبرون للدفاعِ عن الدبابةِ الأمريكية .. شاركوها أو سيشاركونها الرؤيا مهما كانت تلك المشاركة ولو كانت مضمرةً في الصدورِ.. أطلقُ !
على جميع هؤلاء أطلقُ خيولَ غربتي
نحو وجوهِكم أطلقُ سمومَ وحشتي
نحو جبينِ كلِّ خائنٍ أطلقُ سمومَ غيظي
على وجودِكم أيها الأنذالُ أطلقُ كاسحاتِ أحزاني
في زمنٍ لا تستحقون فيه غيرَ الإقتلاعِ

***
2 ـ طلّ المدينة

أ ـ حسين
إلى المناضل حسين علي " أبو حازم "

في الطريقِ إلى رؤوسِ الجبالِ الهكارية
تأتي الرياحُ بغتة
مثلما تأتي المنايا محملةً بالزئيرِ القاتل
ويأتي بالثلجِ صمتٌ
في كلِّ حينٍ يأتي ، بجرحٍ فاغرِ الفمِ ، وطنٌ
في الطريقِ رجالٌ مِن مدنٍ مفتوحةٍ على البرّيّةِ والماء
لم يعرفوا للطبيعةِ قسوةً
ولا عصفاً في سكون
أخذهم الثلجُ الحارقُ ووحشةُ المكانِ
أحدهم أبِقَ في اشتدادِ العاصفة
أحدهم كان ذا بأسٍ ، شجاعاً
أكَلَ الثلجُ قدميه فاسودتا
وبات في خَلوةِ المسافة
مصادفةً
إلى مكانٍ ما في شعابِ الجبالِ أوصلوه
حسينٌ هذا ناطحَ السماء
ولكن في لحظةِ يئسٍ خذله الجسدُ
حسينٌ هذا أوهنه الكبرياء
حسينٌ يا ابن الأكرمين
خاب الرجاء
***
ب ـ السماوي
إلى روح المناضل الدكتور محمد حسين البشيشي " أبو ظفر "

وأنتَ لم تعُد
عاد إلى دورِهم الأحياءُ
وإلى قبورِهم عاد الموتى
وظهر في مسرحِ الجريمةِ قتلى
وأنتَ ، انتظرناك على حافّةِ الزمان
ولم تَعُد
قالوا مع القافلةِ القادمةِ رأينا له ظلاًّ أو قميصاً
ولم تعُد
أين انتظرناك في المرّةِ الأخيرة ؟
حين عاد إلى فراديسِهم الشهداءُ وكنتَ منهم
أين انتظرناك ؟
هل تذكرُ المكانَ ؟
ربما نسيتَ
لكنا سننتظرُ ولو جئتَ اسماً في قائمةٍ
هل نملّ الانتظارَ ؟
هيهات .. هيهات
والليلة ببزّتك السماويةِ اقتحمت خَلوتي
لا أدري إنْ منحتْك إياها ملائكةُ أم أعارتك أديمَها سماءُ ؟
لا أدري إنْ عدتَ قائداً للعماليق ؟
أيها السماويّ
لم يحلّقْ بجناحين مثلك إلاّ الشجعان
أيها السماويّ
خُذْ طقمَك البحريّ واجلسْ على عرشِ الماء
خُذْ طقمَك السماويّ واجلسْ على عرشِ الزمانِ
أيها السماويّ
سننتظرُ القوافلَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* روائي وشاعر عراقي يقيم في برلين
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي


.. الفنان السعودي -حقروص- في صباح العربية




.. محمد عبيدات.. تعيين مغني الراب -ميستر آب- متحدثا لمطار الجزا


.. كيف تحول من لاعب كرة قدم إلى فنان؟.. الفنان سلطان خليفة يوضح




.. الفنان السعودي -حقروص- يتحدث عن كواليس أحدث أغانيه في صباح ا