الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الغائب - قصة قصيرة -

إبراهيم الحسيني

2008 / 1 / 11
الادب والفن


- الحسيني غرق .
قال أخي ممدوح , كررها مرة ثانية ومضى .
تلقيت الخبر ببرود شديد , أشعلت سيجارة , أطلقت نفثة الدخان , وذهبت إلي دورة المياه , تخلصت من أوساخي , اغتسلت , وغيرت ملابسي , دون معاونة من أحد , فالجميع هرولوا إلي هناك .
هجرت عائلتنا بيوتها , الكبار والصغار , رجالا كانوا أو نساء , إلي الشط , نرقب المياه , وتتابع الموج , موجة وراء موجة , وأنا بداخلي يقين : أن الحسيني لم يغرق , وسوف يخرج بين لحظة وأخرى , من مخبئه , وهو يضع كفيه علي وسطه, ويطلق ضحكته المجلجلة , إلي أن أصيبت أختي أمال , بأول نوبة صرع , في حياتها , حين لمحت قمة رأسه , طافية , للحظة , علي الماء , واختفت .
ولما جاء الغواصون , قرب حلول المغرب , أشارت لهم بسبابتها , وقالت :
- هنـا .
فألقوا بأنفسهم تحت الماء , ساعات وساعات , وهم يستبدلون أنابيب الهواء .
وعائلتنا تقف علي أظافر أقدامها , ترمق المياه بغيظ وكراهية , أسفل شجر الطريق , الذي طالما رأى جولاتنا , في ليالي الصيف المقمرة , يأتي بشبكة الصيد , وأجئ ببندقية الصيد , له البلطي والبياض , ولي اليمام والعصافير .
كان يحب البحر , وأحب الفضا .
وعندما تغيب بيوت بهتيم و مسطرد , خلف ظهورنا , ننحدر من طريق مصر الإسماعيلية الزراعي , إلي شط " الحلوة " حيث الحشائش المنداة , ونقيق الضفادع , وانسياب المياه .
يخلع الحسيني ملابسه , يكومها تحت حجر كبير , ويخرج شبكة الصيد من القفة , يطوحها , ويرمي بصره, يلاحقها حيث يجرفها التيار , يجري بموازاتها علي الشط , وهو يمسك بطرفها في قبضته , إلي أن تستقر في القاع , ينتظر عليها بعض الوقت , ثم يسحبها محملة بالقواقع والأسماك تتلوى وتتـقافز .
ولما يشقشق النهار , يلقى بجسده في " الحلوة " , ويغطس , ثم يطل برأسه هناك , بعيدا عن الشط , بين الموج , وتحت ضباب الفجر ,يلوح لنا بيديه , ويصيح بأسمائنا :
- يا عيسى , يا عنتر , يا كمال , يا رجب .
- ارجع يا حسيني .
- الجدع منكم يأتيني هنا .
ويعوم في مكانه , كالبط والكلاب والضفادع , يرشنا بالمياه , وينام علي ظهره , يسبح مع التيار , ثم ينقلب علي وجهه , يشق الموج بصدره , ويضرب الماء بذراعيه , ويظل يبتعد , وحجمه يصغر , إلي أن يختفي تماما عن أبصارنا .
وفجأة , نراه فوق رءوسنا , مبللا بالماء و يحوم حول الحفرة , التي حفرناها , وبنينا بها بيتا للنار , لنشوي السمك , يجفف جسده بأشعة شمس الصباح , ونأكل حتى تمتلئ بطوننا , ونستلقي علي العشب , يهز البندقية بجواري , ويقول :
- اليمام والعصافير علي الشجر , عليك الغدا .
ولما نزح الحسيني من دمهوج إلي بهتيم , في الثالثة عشر من عمره , لبد بجوار الراديو , يومين متصلين , ثم قال :
- هات لي محمد طه .*
قلت :لا يذيعون محمد طه إلا نادرا .
حمل الراديو , بهدوء , إلي أعلى , وتركه يسقط علي الأرض مهشما .
انفجرنا في الضحك , ولم يكن أمام أمي إلا أن تصفر وتخضر وتحمر , وتضرب كفا بكف , وترسل لأبي في الفرن , وتقول :
- ليس له مكان بيننا , خذه الفرن .
قال أبي في صرامة: له البيت والفرن وأولاد عمه
وفي اليوم التالي , شغله في محلات البقاله , مع أخي الكبير , الذي شج رأسه بماسورة حديد , فسال دمه قنطارا .
طرد أبي أخي الكبير من البيت سنة متصلة , وقال : سوف أفتح له دكانا , وأزوجه أمال .
من ثمانية أيام , عندما عدت من أربعين أبي , أتاني الحسيني علي دراجة , خلف كشك سعيد الأعرج , رمى نفسه في حضني , وبكى , عرى جسده , وقال:
- عمي مدكور , يضربني هذه الأيام , كثيرا .
لم أرد عليه .
قال : هو يعرف إنني معكم .
قلت: لماذا لم تحضر جنازة أبي؟
قال: يريد أن أترك الفرن لزوج ابنته .
قلت: كنت في حاجة إليك هناك .
قال: ترك لكم كل شيء .
وانصرف .
قال زقلط الفران : حاولت أن أمنعه , كان متعبا , ظل يعمل , بمفرده , طول الليل ونصف النهار , أمام الفرن , لكنه أصر , اندفع علي غير عادته , يسبح ضد التيار , وعبر للبر الثاني بسلام , أشار لنا بيده من هناك , ثم غاص بضعة أمتار , وعام مع التيار , قلنا :
- عاد إليه هدوءه .
وفي منتصف " الحلوة " كان يرفع ذراعيه بصعوبة , ويغطس , ثم يطفو , ويغطس , و يطر طش المياه , ويصيح بأعلى صوته :
- ألحقني يا زقلط , ألحقوني يا ناس .
اعتقدنا أنه يمزح , إلي أن غاب تماما تحت الماء.
نفذت أنابيب الهواء , وطلع الغواصون من الماء , وما معهم إلا قطعة الملابس الوحيدة التي كان يرتديها , خلعوا جلودهم , وحزموا حقائبهم , وقال رئيسهم :
- الجثة جرفها التيار .
فانصرفنـا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منصة بحرينية عالمية لتعليم تلاوة القرآن الكريم واللغة العربي


.. -الفن ضربة حظ-... هذا ما قاله الفنان علي جاسم عن -المشاهدات




.. إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها بالجيزة


.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها




.. الممثلة ستورمي دانييلز تدعو إلى تحويل ترمب لـ-كيس ملاكمة-