الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جذورالفن السومري /القسم الرابع /النحت بين شرعية الريادة والأنطلاق

حسين الهلالي

2008 / 1 / 10
الادب والفن



قلنا ان النحت في بلاد ما بين النهرين ارتكز على الدمى الطينية في تكوينه الأول ولم يتجاوز شكله التعبيري حتى اواخر عصر العبيد ، ولا يمكن ربط هذه الفترة التعبيرية بنماذج النحت الأولى التي ظهرت في بداية الفترة التأريخية ، وقد ارتفعت هذه التماثيل الى مرتبة الفن الحقيقي الذي يمكن ان يشكل مساراً حقيقياً للنحت السومري البارز في صعوده وتألقه عبر التأريخ والى جانب التطورات الحضارية الأخرى مثل اختراع الكتابة التي سارت جنباً الى جنب مع التطورات الأخرى ولا يمكن ان نقول عنه ان يشكل طفرة لا نعرف كيف حدثت ، وانما بدا يأخذ شكلاً تدريجياً معتمداً على الموروث الطويل ، ولقد اظهرت لنا تماثيل غير جيدة وصلت من الوركاء اثناء التنقيبات 1912 – 1913 في المعبد الغربي ولم تحدد هويتها في البداية وقد نسبت الى نفس المعبد وهي في حالة غير جيدة ولكن جوردان1 أكد انها تمثل الأسرى.
لقد بدأ النحت المجسم بالحجر للأشكال البشرية في هذا العصر ( أي عصر الطبقة الرابعة في الوركاء ) واستطاع النحات السومري في هذه الفترة ان يقف على قدميه ويسيطر سيطرة كاملة على الحجر ويبدع بأزميله صور بشرية كاملة تمتاز بخصائص جيدة من ناحية الأسلوب ، فهو يجسد قوة العضلات البارزة في الظهر والقسم العلوي من الذراعين ضمن مسارات الضوء والظل الذي يبرز وجه هذا الرجل او ذاك ويظهرهما من عالم آخر ، وبذا نستطيع ان نقول استناداً الى الوقائع التأريخية في عصر فجر السلالات السومري ان الفنان السومري توصل الى عمل فني مجسم لرجل أو أمرأة أو اله بشكل انساني.
ولكن ظلت الأساطير وعالم الخيال السائدة في تلك الفترة التي سبقت التأريخ والمتمثلة في الدمى الطينية تشغل بال فنان الفترة التأريخية التي بدأت بظهور الكتابة وبين آونة واخرى يعود الى تلك المواضيع ، فتمثال الغول المصنوع من حجر الكلس البلوري والمحفوظ في متحف ( بروكلن ) هو تجسيد للمخاوف التي تعتري فكر الإنسان الأول ، هذا المخلوق المخيف المتكون من جسم انسان خنثوي ورأس أسد ، ومثله لا يتواجد بين المخلوقات الطبيعية ، كذلك اتجه الفنان الى نحت رليف لحيونات اسطورية اخرى من ذوات الأربعة لكن رؤوسها هي رؤوس افاعي ، وهي متناظرة في الرليف وتشكل تصميماً زخرفياً تزينياً ، لكن تفسيرها يبقى غامضاً ويرجع الى تراكمات اسطورية لا زالت تسيطر على فكر الإنسان السومري ولن تثني هذه المخاوف عزم الفنان السومري ومضى يجسدها بقوة وبثقة عالية بالنفس ، فهو يعمد الى هذه الأشكال بين الحين والآخر ، لكن السير يكون باتجاه الإبداع والوصول الى الكمال في منحوتاته الحجرية وهذا هدفه ومبتغاه وقد تجلى هذا العمل في رأس ( فتاة الوركاء ) الذي عثر عليه في التنقيبات التي اجريت سنة 1938 – 1939 ،فهو بالحجم الطبيعي تقريباً نحت من حجر ابيض ، ابعد بكثير عن التمثيل التشكيلي للوجه ( فهو في وقت واحد تمثيل انثوي خالد وشعاري لسر الحالة البشرية . وكان للرأس في الأصل عينان وحاجبان مكفتان بمواد من حجر اللازود والصدف ) ، ورؤيته على وضعه الحالي الآن مجرد من الإضافات الجمالية التي استخدمها لا يمكن ان يبعدك عن حقبته التي وجد بها سابقاً ، فهذا الرأس يشعرك بالرهبة والدهشة والإجلال للطريقة التي عالج فيها الفنان بازميله الحجر وحوله الى كتلة تنبض بالحياة وتشعرك باللدانة والرقة وخاصة الوجه والخدان وطرواتهما اللذان ينسابان باتجاه الشفتين اللتين تريدان ان تبوحا بأسرارهما الخاصة واسرار عصرهما ولا يمكن ان نضع تمثالاً يضاهي هذا التمثال في ذلك العصر .
ويقول اندري بارو في معرض حديثه عن هذا الرأس :
( ففي متحف بلا جدران يعتر ( رأس الوركاء ) واحد من هذه النتاجات المتفوقة للنحت التي لا تحتاج الى التوضيح ، وتقف متعالية بمميزاتها وليس من باب المبالغة ان نقول بأننا حصلنا هنا على واحدة من النقاط السامية لعبقرية الإنسان الخلاقة ( سومر وفنونها وحضارتها لأندري باور ) ) .
لقد استفاد الفنانون كثيراً من عمل الأختام الاسطوانية من حيث تكويناتها وتناول مواضيعها ودقة عملها ، لذا نراهم يعملون بيسر في تزيين الأواني النذرية والمزهريات ، لذلك نرى في اغلب المنحوتات الحجرية شعائر دينية باتجاه التقديس وخير مثال ( اناء الوركاء ) النذري المزين بنحوت ناتئة في الشرائط المتسمة من القمة الى الأسفل ( وموضوع هذا الاناء هو عبادة الإلهة ( انن ) مثلت هنا يشعاراتها ، حزمتان من القصب وضعتا جنباً الى جنب وهما ترمزان دون شك الى مدخل المعبد . وهناك طابور طويل من حملة الهدايا يقتربون منه وهم في هيئة رجال عراة يحملون سلال الفاكهة والخضار والمزهريات ، واحد هؤلاء الرجال يفتح الطريق في المقدمة ومن خلفه شخصية مرموقة ، ومن المحتمل ان هذا الشخص كان هو ملك المدينة او كاهنها الأعلى ، ذلك ان حزامه الطويل المشرشب قد شد مثل ذيل من لدى احد الحاضرين ، امرأة تحيي اقبلت من خارج المعبد تواً ، ربما كانت هي الإلهة ذاتها لكنها في نظرنا وعلى اكثر احتمال هي الكاهنة العظمى . وخلفها داخل المبنى المقدس كومة هائلة من النذور والهدايا ، سلال وصحن ملأى بالفواكه وزهريات ذات اشكال حيوانية ومواد اخرى . غير ان الشيء الذي يثير الحيرة والتعقيد هو وجود كبشين يحملان اشكالاً صغيرة ، وأخيراً نرى في أوطأ شريط موكب حيوانات تتحرك على امتداد قطعة من ارض خصبة تقع ، وقد اضيفت عليها وفرة الشعير والخضروات الأخرى على جانب النهر بكل وضوح ، ان هذا الإناء النذري ، وهو أقدم اناء ديني من حجر منحوت تم اكتشافه في العراقي يمكن ان يرقى تأريخه حوالي ثلاثة الاف سنة قبل الميلاد ) ..( سومر وفنونها وحضارتها – اندري باور ص118 – 119 ) .
وهناك اناء طقوس لأنتمينا من الفضة والنحاس وهو أجمل نموذج لفن الزخرفة في سومر ، أما كأس كوديا من حجر السبتايت فهو الآخر يمثل النحت الناتيء وهو يستعمل لصب السائل المقدس ، مزين برمز الهه الحامي ننكزيدا واثنان من الأفاعي منتصبتان ملتقيتان على بعضهما البعض وضعتا بين تنينين ، وهما مخلوقان مركبان ومريشان يمكن ارجاعهما الى فجر التأريخ السومري ، لقد وجد النحت الناتيء القوة والجرأة والإقدام على عمل مشاريع تذكارية كبيرة تظهر مقدرتهم وابداعهم في هذه المسلات الكبيرة التي تجسد الأحداث التأريخية الممتجزة بالدين فمسلة ( العقبان ) هي اثر تذكاري فريد قان الفنان السومري بانجازه تخليداً لأحد امراء لكش ( أناتم ) الذي انتصر على ( أوما ) ، لقد تعامل هذا الفنان مع الحجر الرملي وتطويعه لعمل المسلة التي يبلغ ارتفاعها 1.88 متراً وعرضها 1.3 متراً وسمكها 11سم مدورة من الأعلى، وهذا العمل يمثل خلاصة المعركة ابتداءا ًمن الأعلى الى الأسفل ، فعلى احد الجانبين يبرز التجسيد البطولي للمحاربين وفي الجانب الآخر التدخل الحاسم من الإلهة ، ان الكتلة المتراصة المحمية بالدروع والمتهيئة رماحها للمعركة ويتقدمها الملك المكسو جسمه بجلدٍ واقٍ سميك مغضن بشكل مائل ، وهذا التجسيد يرينا الإنتصار الحاسم الذي يظهر هؤلاء الجند وهم يسيرون على جثث اعدائهم المتساقطين التي بدأت طيور القنص تنهشها قبل ذلك ، وفي تكوين اخر في الأسفل يمثل رجال مشاة وقد تعرق صدورهم وهم يحملون رماحهم على اكتافهم وقد استخدم الفنان طريقة الشرطة وهي أقرب الى الإسلوب القصصي للموضوع المتسلسل الذي ينتهي بحضور الملك القائد حفلاً لسكب الماء المقدس وتقديم القرابين علة قبر جماعي للأبطال الصرعى ، هذا التطور في نحت المسلات ونحت الألواح النذرية مثل لوح دودو الموجود في اللوفر ولوح نذري اخر لأورنينا ومسلة من حجر الكلس ( لكودورو ) ، والغريب في لوح دودو المثقوب من الوسط وعلى ما يبدو لتعليقه على الجدران ، جمعت أشياء في اللوح غير متجانسة وغريبة ، ولم تعطينا أي دلالة نهتدي اليها حتى نعطي تفسيراً معيناً فنجد النسر بين اسدين ينهشان جناحه والكاهن دودو عاري الصدر يرتدي تنورة مخصرة وحملاً مضطجعاً متهياً للنهوض ، وهذا يقودنا الى لغة رمزية لم يجد السومريون مشقة خاصة في حملها ، وهذه الألواح يغل عليها الأسلوب المتبع في عملها / الوجوه جانبية / والأعين أمامية / الجذع امامي / والسباقان جانبيان / هذه التماثيل الكثيرة التي قام بنحتها الفنانون اصبحت بهذا الإسلوب الذي يبدو في بدايته اسلوباً تكعيبياً وهندسياً وقد تطور وأصبح واقعياً خلال مرحلة مر بها النحت ، فاخذ يقترب اكثر واكثر من منظور بعض تفاصيل الحياة والميزات الفردية هذه الانتقالة التي قربته الى الصورة الواقعية للبشر ، وقد حصل هذا التطور خصوصاً في ديالى يقابله تطور اخر في لكش ، منها التماثيل المتعبدة الأثنا عشر ، وهي تمتاز بعيونها الكبيرة المحدقة بمشهد بعيد غارقة في حالة تقودها الى الغيبوبة والخدر والنوم الطويل في حلمها وهاجسها المقدس .

المصادر
1- سومر وفنونها وحضارتها لأندري باول وترجمه عيسى سلمان وسليم طه التكريتي
2- الفن في العراق القديم / انطوان ورتكات وترجمه عيسى سلمان وسليم طه التكريتي
3- العراق القديم – جورج رو – ترجمة وتعليق حسين علوان حسين
فن الشرق الأدنى القديم - سيتن لويد – ترجمة محمد دروي









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الطفل اللى مواليد التسعينات عمرهم ما ينسوه كواليس تمثيل شخ


.. صابر الرباعي يكشف كواليس ألبومه الجديد ورؤيته لسوق الغناء ال




.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس


.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-




.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت