الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


توأمي الضاحك

إكرام يوسف

2008 / 1 / 19
الادب والفن


في عيد ميلاده الخمسين، اتصلت به قائلة "كبرت يا فؤاد!، أصبح لزاماً علي أن أوقرك وأتوقف عن مشاكستك، أنت اليوم أخي العجوز وبركتنا"، أجابني مغتاظا "فاكرة نفسك صبية؟ كلها أحد عشر يوما وتلحقين بي" قلت "أنت اليوم دخلت عقدك السادس ومازال أمامي أيام أرتع في الأربعينيات من ربيع العمر". وعلى مدى الأيام التالية، ظللت أتصل به يوميا لإغاظته حتى يوم مولدي عندما قال لي "اليوم تصبحين عجوزا في الخمسين" قلت له "مازال أمامي سبع دقائق أرتع فيها"!. وما أن مرت الدقائق حتى وجدته يهاتفني قائلا "أنا مدير دار المسنين وعلمت أن لديكم عجوزا دخلت العقد السادس وسنمر لنأخذها"!.. فؤاد.. ابن عمي التوأم، يسبقني في الميلاد بأحد عشر يوما ظل يذلني بها طوال طفولتنا "أكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة". وكانت هذه الميزة بالإضافة إلى كونه "الولد"، تمنحه أفضلية رفضت دائما أن أعترف له بها وظلت مصدر "خناقاتنا" الدائمة طوال العطلات التي نقضيها في بيت العائلة؛ يشد شعري فيحبطني شعره القصير، ولا أجد أمامي إلا أن "أعضه"!.. ربما كان هو الدافع الأكبر وراء تفوقي الدراسي، فلم أكن أهتم بالحصول على المراكز الأولى في المدرسة بقدر اهتمامي أن يزيد مجموعي عنه عشرات الدرجات حتى "أغيظه".. وفي الجامعة انتفى الدافع؛ بعد التحاقي بإحدى كليات القمة ودخوله "كلية عادية" اعتبرت أنني ضمنت تميزا دائما عنه وانشغلت باهتمامات أخرى لم أحقق معها أي تفوق دراسي بعد ذلك.. اختلفنا في معظم الأفكار والتوجهات.. وظل دائما بيننا ذلك الإحساس الذي أعتقد أنه لا يوجد إلا بين التوائم.. كبرنا وتزوج كل منا وكون أسرة، وكنا نغيب فترات ثم نلتقي صدفة في الطريق، فننهمك في الحديث والسخرية دون تحيات تقليدية، كما لو أننا نواصل حديثا لم ينقطع أبدا.. ظل يحمل قلب طفل لم يتجاوز سنواته الأولى، نقاء يندر أن يكون له مثيل، وحسن نية يصل إلى حد السذاجة التي كانت سببا في تعثره على المستوى العملي. فيعد أن وصل إلى منصب مرموق في شركة كبرى، "طق " في رأسه فجأة أن يتحول لرجل أعمال، واستقال ليؤسس مكتبا في نفس مجال عمل الشركة التي تركها!. وكان من الطبيعي ألا يصمد في السوق، الذي يأكل فيه الكبير الصغير. قلت له مرارا أنه ـ مثلي شصيا ـ لا يحمل عقلية رجل أعمال وإن كان متميزا في مجاله من الناحية العلمية والفنية لدرجة تمكنه من أن يكون "موظفا كفوءا" يستطيع أن يدرب أجيالا من المتخصصين، لكنه لا يمتلك مؤهلات الشخصية التي تصمد في السوق، غير أنه كان مصرا!. يلاحقه التعثر من مشروع لآخر مقرونا بسوء الحظ؛ حتى أنه عندما فكر أن ينشئ مشروعا لتجارة الدواجن ظهرت أنفلونزا الطيور!.. اضطربت أحواله المالية، واضطر أن يستغنى عن سيارته التي يقودها سائق خصوصي، ومع ذلك ظل دائما يتعامل مع الدنيا باعتباره ذلك الرجل "الكلاس"!. قلت له أنه يذكرني بأحمد مظهر في فيلم الأيدي الناعمة.. حريص على أناقة مظهره وسلوكياته؛ نقف وسط زحام الشارع ننتظر تاكسيا، أوقف واحدا بعد مشقة.. يصرفه قائلا أنه لا يقبل أن يركب" أي تاكسي" وإنما ينتقي سيارة تليق بركوبه.. فينشب بيننا شجار لا يختلف كثيرا عن "خناقات الطفولة".. يتهمني بأنني أصبحت أتصرف مثل "العامة" وأقبل ما لا يقبله هو باعتباره ابن الناس الذي لا يقدم تنازلا طبقيا، وأقول له أنه لم يعد سوى "ابن سلطح باشا"!.. يتعامل كل منا وسط أسرته وزملائه في العمل بما يليق بوضعه وسنه الحقيقيين.. وما أن نلتقي حتى نعود طفلين "فوق راس بعض" يتفنن كل في إغاظة الآخر!. في أحد أيام الصيف الماضي، شديد الحرارة، توقف جهاز تكييف الهواء أثناء نومه وكان يعاني وعكة صحية.. قال للأولاد إنه عندما استيقظ تخيل نفسه قد مات وانتقل إلى جهنم، وعندما تلفت حوله ولم يجدني.. تأكد أنه لم يذهب إلى النار!.. لم نتبادل أبدا كلمات مجاملة.. وكان المحيطون بينا يروننا دائما مختلفين، يقف كل منا للآخر "على الواحدة".. لكن ظل بيننا ذلك الرابط الخفي والمتين الذي يربط بين التوائم.
أخيرا وصل "فؤاد" إلى المحطة التي سنصلها جميعا.. رحل فجأة بعد نوبة أنفلونزا عادية أصابت كل منا عشرات المرات. لم أحزن له، ربما أشعر ببعض سعادة لأجله، فكل نفس ذائقة الموت، ووفاته المفاجئة كانت مريحة له، لم يعرف حتى آخر لحظة أن الأجل قد انقضى، ظل يضحك ويشاغب الطبيب أثناء الكشف عليه حتى توقف فجأة قبل أن يقلق على نفسه. كل ما صاحب رحيله من "كرامات" جعلني لا أحزن لأجله؛ دفن والملايين واقفة على عرفات تتضرع "اللهم ارحم موتانا".. جنبه القدر أن يعيش ليعاني قسوة تدهور الأحوال، وشماتة بعض من لا يملكون مثل نقاء قلبه، ويندم على إصراره على دخول سوق الأعمال وهو لا يمتلك سوى "قلب حلو" لا يعرف قواعد السوق. رحل وهو يضحك كما عاش دائما. لا.. لم أحزن لأجله.. وربما لست قلقة كثيرا على طفليه الجميلين لأنني أعلم تماما أنه ليس هناك أرحم من رب العالمين، وأن قلب أبوهما العامر بالصفاء سيظلهما بحب جميع من عرفه. وأعرف كم هي قادرة أمهما النبيلة الصابرة الأصيلة، التي منحها الله قلبا كبيرا احتوى طفولة فؤاد ولن يعجز إن شاء الله عن احتواء طفليه والوصول بهما إلى بر الأمان.. لم أحزن لأجله كثيرا.. بل أنني كنت أبتسم حتى وسط المعزين وصورته لا تفارق خيالي.. لكنني حزنت لأنني سأفتقده كثيرا.. ومازلت لا أعرف هل يصح أن أكبر بعد الآن ـ وحدي ـ من دون أن يسبقني بأحد عشر يوما؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل الأدب الشعبي اليمني مهدد بسبب الحرب؟


.. الشباب الإيراني يطالب بمعالجة القضايا الاقتصادية والثقافية و




.. كاظم الساهر يفتتح حفله الغنائي بالقاهرة الجديدة بأغنية عيد ا


.. حفل خطوبة هايا كتكت بنت الفنانة أمل رزق علي أدم العربي في ف




.. فرحة الفنانة أمل رزق بخطوبة ابنتها هايا كتكت وأدم العربي داخ