الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بيضاء مثل القمر - قصة قصيرة

غريب عسقلاني

2008 / 1 / 19
الادب والفن



القصف يمطر المدينة
وغزة تنصت للهدير, وطائرات الأباتشي ترقص جائعة تترصد صيدا, تقف معلقة, تقصف خبرا عاجلا, والحصاد موت.
هي تتذكر جيدا..كان الوقت موعد قصف, لا تتذكر كيف بدأ الحوار, ولكنها لا تنسى كيف انتهى وكيف تحول رجلها الوسيم إلى ثور جامح جائع, شدقاه طافحان بزبد أصفر, يأكل نصف الكلام ويقذف النصف ألآخر قصفا ..
- اخرجي من حياتي
مسمرة تتأمله,عيناها كرتان من زجاج..كيف تختزن الوداعة والوسامة القدرة على القتل, ابنها وابنتها يلتصقان بها..رشقته صارمة وقد اختارت قسمة عادلة :
- الأولاد معي..اخرج أنت ..
الرغوة حول فمه تتحول من الأصفر إلى الرمادي, تسقط على بلاط الصالة مع لهاث جاف, يتشقق البلاط..يتفتت إلى رمل ناعم يسحبها إلى بطن زوبعة متوحشة, معبأة برؤوس ثعابين تبخ لعنة وعتمة لزجة.
لم يأت في الخبر العاجل أنها وقعت مغشيا عليها, وصحت مغسولة بعرق يغلي, يدها باردة في كف ابنها الشاخص إلى أبيه المصلوب في الزاوية تمثال من شمع.
الطبيب يقلب في نتائج التحاليل, تبدو عليه علامات الارتياح, يمسح عن جبينها العرق ويهمس بإبوّة:
- الانفعال الزائد يؤثر على صحتكِ ويضر بالجنين..
تأخذها الدهشة, تحدق في الوجوه من حولها..الوجوه مرايا صافية..فضة تسكنها أميرة..مرآة في الزاوية لا تسكنها الأميرة..
***
بعد قصف..بعد عصف ..وبعد صيام سنين هي حامل, لم تخذلها التحاليل ولم تخذله, كل مرة تخذل الطبيب فيقف عاجزا عن تفسير عدم استجابة البويضة للاندماج..وفي كل مرة تأخذها أمها إلى حضنها:
- مازلتِ صغيرة يا ابنتي..اهتمي بالولد والبنت,عندما يأذن الله يقول للشيء كن فيكون .
في البداية لم يكترث, واعتبر الأمر تحديدا طبيعيا يوفر عذابات الموانع الصناعية, ولد وبنت وزوجة جميلة مطيعة غاية المرام. لكن أمه لم تتوقف عن النواح:
- ابن الصبا لا يعوض, يسند أباه في الكبر, ويشد من عضد أخيه..
كبر الولد, وكبرت البنت, وتبدلت أحواله, ولم تتغير نتائج التحاليل, زحف الشيب إلى فوديه, وتبدلت أحواله, يمضي الليل مستلقيا على ظهره محدقا في السقف مهموما, تنام على صدره..تهمس:
- لنجري فحوصا جديدة في مختبر آخر
- نفس النتائج
- لنسافر إلى طبيب أكثر علما
- لا مشكلة في الأصل
- ماذا بيدنا نفعله!
- أريد ولدا..
تبتلع غصة, تتصنع المداعبة والدلال:
- وأنا أريد بنتا حلوة مثل أمها
- ولماذا لا يكون ولدا؟
- حتى لا يحمل تكشيرة أبيه
تشتهيه راغبة, فيأخذها كمن يقوم بمهمة مكلف بها..ما الذي غيره..ما الذي يجعله في الزاوية بلا مرآة..
في البيت وقف الولد سد عليه باب الحجرة :
- كفى يا أبي..أمي لا تتحمل الانفعال..
فوجئ الولد بصفعة تشوي لحم وجهه
- إخرس.
دمعة الصبي حفرت مجراها على خده, فيما الاباتشي تذرع السماء تحدد أهدافا للقصف..حدثت نفسها:
"هل يشعر الجنين بالقصف.؟"
***
كل مرة يذكرها بموعد مراجعة الطبيب, وفي كل مرة لا يرافقها, هذه المرة يبدي رغبة واضحة, فالحمل دخل الشهر الرابع, والجنين ربما يعلن عن هويته..حدقت في وجهه..رأته في مرآة مقعرة تعكس صور مصغرة مضغوطة, ثمة سيدة تحمل بعض ملامحها, قبل أن يأخذها الذعر تذكرت درس العلوم القديم عن " المرايا المقعرة تعكس صورا تقديرية مصغرة ناتجة تلاقي امتداد الأشعة المنعكسة .." الأشعة المنعكسة على مرآته تتلاقى في الوهم..خيل لها طفلا مشنوقا يتأرجح في زاوية العين..
كان السكون يتربع بينهما يقطعه هدير الأباتشي, ثمة قصف بعيد سألت:
- أين القصف ؟
- لا تجزعي..بعيد عن عيادة الطبيب
الطبيب يرصد الصورة على الشاشة, يقضم شفتيه عن ابتسامة رائقة مرتاحة, طمأنها على الحمل وطلب منها الاهتمام بصحتها وتشاغل قليلا قبل أن يجيب على السؤال المعلق:
- وضع الجنين لا يسمح بتحديد جنسه, مشاغب يخفي عورته.
في طريق العودة تشبث بمقود السيارة كمن يروض فرسا حرون..وفي البيت تعلقت البنت برقبته, هتفت مشاغبة:
- أنا عارفه..هي بنت..
نتر ذراعيها ساخطا:
- لا ولد ولا بنت....
البنت تمعن في المشاغبة تضع أذنها على بطن أمها وتنادي على أخيها:
- تعال اسمع ..بنت..
تبدو على الولد سيماء رجولة مبكرة, يفكر بالقادمة والحاضرة المشاغبة, وتذكر حديث جدته لأبيه "عن النساء الناقصات عقل ودين" ونفى أن تكون أخته منهن, لأنها لم تصبح امرأة بعد, ولأنها متفوقة في المدرسة, فهل تقصد جدته العجائز مثلها..سأل:
- أين أبي ؟
- عند أمه
- ربنا يستر
قالها بنبرة رجل تعذبه المسؤولية..أخذته أمه إلى حضنها,حدقت في عينيه وبكت فوقع في الحيرة والدهشة..
- لماذا تبكي يا أمي..
***
قُصف بيت الجيران, القنبلة الذكية أو الغبية أصابت حجرة العريس الذي يعمل مع المقاومة, وحرقت مع ما حرقت فستان زفاف العروس التي حملت في ليلتها الأولى.
رجع الولد والبنت من الحارة, سألت:
- كيف العروس؟
ردت البنت:
- تضحك..العروس دائما تضحك.
ومررت كفها على بطن أمها وانحدرت مع التكور..قالت:
- أنتِِ عروس
- ...
- أنتِ حامل, هل تقصف الطائرات بيتنا..
القصف لا يشاور, نظرت إلى عين الصغيرة ورأت كيف يتحول الرمادي الهادئ إلى صفاء مرج أخضر, وكيف تصبح الطفلة وردة..أرعش جلد بطنها وتموجت داخلها ريح تحمل روح.
وفي الليل زفت إليه الخبر:
- اليوم تحرك الجنين.
أنصت باهتمام, أخذت يده بين كفيها..كانت بارة..
***
..قطار الرحلة يدخل بوابة الشهر التاسع, والجنين لا يكشف عن سره, قالت أمها:
"الحمل بالأولاد أكثر راحة من الحمل بالبنات"
وقالت أمه:
"حركة البنات أكثر من حركة الأولاد خلال الحمل"
فجأة أعلن التلفاز عن خبر عاجل
"الزوارق الحربية تقصف المصطافين على شاطئ جباليا" وطفلة ترفرف مثل طائر ذبيح, تعفر الرمل على وجهها, تبحث عن روح أبيها الذي أخذه الموت جثة صامتة..الجنين يتحرك بعنف..ينتقل من زاوية لزاوية, هل يبحث عن مكان آمن..يتوقف عن الحركة..ربما خلد إلى النوم.."كيف ينام الجنين..هل يزوده الحبل السري بالنعاس كما يزوده بالغذاء..؟"
يومان مرا
لم يشاغب لم تتموج داخلها الريح التي تحب..ساورها القلق..دلقت هواجسها أمامه..طمأنها:
- دعكِ من الأوهام.
في اليوم الرابع هاتفت الطبيب, رد حانقا:
- تعالي على المستشفى فورا أنا في الانتظار.
***
مثل خبر عاجل أعلنوا موت الجنين.
صرختُ...
في الصورة أعلن الجنين عن سره.كانت بنتا تستسلم للسكون..أمها تأخذها إلى حضنها:
- يعوضكِ الله خيرا.
قالت أمه:
- الحمد لله أنها لم تكن ولدا
الطبيب يكتب التقرير عن الحالة, وعند تحديد سبب الوفاة توقف, ثم كتب السبب غير معروف.وقرر:
- بعد أربعة أيام تتم الولادة..
***
أربعة أيام شاخصة في فضاء بعيد,النوم/الموت والميلاد بدون صرخة حياة..لو تظل العمر مستلقية تهيئ للطفلة نوما مريحا..ترعبها فكرة أن تصبح قبرا والطفلة ما زالت موصولة بها بالحبل السري تأخذ من دمها..هل ينقل الدم الموت..كيف يكون الموت في رحم حي..هل تنهش الديدان لحم الطفلة الطري..وهل ما سيحدث ولادة أم إجهاض أو قذف طرح..
"لماذا ذهبتِ يا ابنتي بعد طول انتظار.."
وبعد طول انتظار وحقنة طاردة, انزلقت مثل سمكة..طفلة بيضاء مثل القمر, شعرها فاحم مثل ليل, عيناها بلون زرقة بحر, ودت لو تقبلها لكن الطفلة اعتذرت ..
متى يعتذر الطفل عن قبلة أمه..؟؟
سألها الطبيب يتأكد من يقين جازم:
- كيف كانت حركتها قبل السكون؟
- حركة مذعورة وسريعة
- حركة عشوائية جعلت الحبل السري يلتف على رقبتها ويخنقها..
همس معتذرا, وقد أسقط في يده :
- كم حذرتكِ من الانفعال الزائد
***
في خبر عاجل, أعلن المذيع عن سقوط ثمانية شهداء, حصاد القصف
تمتمت معاتبة.
" ثمانية شهداء وطفلة بيضاء مثل القمر,شعرها فاحم مثل ليل, عيناها بزرقة بحر هادئ"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصيدة الشاعر عمر غصاب راشد بعنوان - يا قومي غزة لن تركع - بص


.. هل الأدب الشعبي اليمني مهدد بسبب الحرب؟




.. الشباب الإيراني يطالب بمعالجة القضايا الاقتصادية والثقافية و


.. كاظم الساهر يفتتح حفله الغنائي بالقاهرة الجديدة بأغنية عيد ا




.. حفل خطوبة هايا كتكت بنت الفنانة أمل رزق علي أدم العربي في ف