الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : الحمار ... ثالثنا

نجم السراجي

2008 / 1 / 24
الادب والفن



قريتنا / أم الخيرات / أغنية ارددها كل فجر ، تطربني / صوت الملاح / ترنيمة عاشق / ناسك / تخدشها أصوات : نباح الكلاب السائبة ، نحنحة ـ عسس المكان ـ وفحيح الخوف الذي يرعب أهلها حتى تعودوا عليه / استسلموا إليه / وتركوني في حيرتي ، قرار عقلي الواعي يحدثني بضرورة التصدي له ومواجهته حتى أؤكد موته في نفسي ! أو أن اسلك دربهم ... أتكيف ، أتعايش معه ، أقرأ آية اطمئن بها قلبي كل فجر وللفجر في قريتنا رسل ٌ ، ينشطوا قبل أن يستطير الضوء في الأفق ،ً يهمس أحدهم في أذن مؤذن المدينة أن ـ حي على الصلاة ـ ويهمس أخر في أذن راهب الدير أن اضرب بناقوسك ـ ابتهل ـ وآخر يداعب ندى البساتين ورابع يوقظ ديوك المدينة وبلابلها والعصافير، وخامس يحمل ( تسبيحاتَ ) و ( سجدة َ شـُكـْر ) جدتي إلى الأعالي ينثرها في السماء دفئا ً يعتق خيوط الفجر الصادق الذي يبشر بولادة يوم جديد :
ـــ صبحنا وصبح الملك لله .

***
يوما ً ، من أيام القيظ ، اشتدت الحرارة فيه بشكل غير معهود ، تبخرت كميات كبيرة من مياه ـ النهر الخالد ـ واستحالت غيوما تحمل السواد والمجهول ، استعمرت كامل سماء القرية وأسرت فجرها ، أهل القرية لم يعتادوا ذلك ، قد تمر سحب خفيفة متقطعة في الصيف لكنها لا تبرق ولا ترعد وهذا ما زاد من مخاوفهم ودهشتهم ، مع ذلك خرجوا إلى ميادين رزقهم كل في محله وعمله المعتاد إلا عسس المكان ، خرجوا من ثكناتهم يطوفون الأزقة والشوارع يتقدمهم المنادي ـ لسان السلطان ـ يقرع الطبل :
فرمان سلطاني : الحاضر يبلغ الغائب :
ـ يمنع التجوال في كل جمعة وحتى إشعار آخر .
ـ يمنع الهمس في كل أنحاء القرية ليلا ونهارا !
ـ تمنع التكتلات والتجمعات بكافة أنواعها .

***

تعودت أن اخرج كل فجر إلى عملي احمل خرجي وفيه رغيف خبز وقطعة جبن وحبات زيتون مباركة وأن أجمع هموم كل ( أمس ) في صرة وارميها إلى عين الشمس عند الفجر وانا ذاهب الى عملي في المدينة ، كنت افعل ذلك وأنا صغير ، علمتني ـ جدتي أن أجمع أسناني اللبنية الساقطة في صرة وارميها إلى عين الشمس .
في هذا الفجر لم أجد الشمس كي ارمي إليها هموم الليلة الماضية ومشاكل والدي وحالة الهلع والبرق والرعد الذي لم يخف جارنا الغريب القادم من مدينة في القارة السمراء ، كان منشغلا في تحليل فكرة طرأت على باله وهو يقف جنبي عند باب الدار ننظر إلى سرعة الغيوم وسوادها وكثافتها الغير عادية فوق سماءنا
قال :
ـ أتعلم يا جاري أن البرق عندنا هو نفسه عندكم وكذلك الرعد ؟ هذا يعني أن مصدرهما /خالقهما / هنا وهناك واحد ، ويعني أن الذي خلق بشرتي السوداء هناك هو نفسه الذي خلق بشرتك البيضاء هنا ...
تأملت فكرته / تحتاج الى وقفة / لمحت سواد بشرته ، فكرت أن اسأله عن سبب اختيار قريتنا للعيش فيها لكني لم افعل ، أولا ًلأني أؤمن أن كل الأرض لكل الناس ، ولا أؤمن بحدود أو لون ، ثانيا ً خوفا ً من إحراجه.
خرجت إلى الشارع مهموما ، لم أفطر، اكتفيت بكوب شاي ، استقبلني كلبنا في باب الدار كعادته كل فجر ، يلقي علي تحية الصباح أفهمها من خلال نظرة عينيه ، يتركني بعدها امتطي حماري / وسيلة نقلي / يودعني وأنا أقرأ تراتيل الدعاء في عينيه ، تقول جدتي أن الكلاب أفضل من القطط ، لأنها تدعوا الله أن يزيد رزق أهل البيت حتى تأكل أكثر معهم وتدعوا القطط الله على أهل البيت بالعمى حتى تأكل طعامهم .
في قريتنا الغنية ـ أم الخيرات ـ والنفط والجداول والبساتين لا املك إلا هذا / الحمار / سار بي على بركة الله ... وقف أمامي ـ الكلب ـ لم يفعل ذلك من قبل ، لم يعترض طريقي يوما ، لم أفهم سر معارضته / يقولون أن الكلاب من الحيوانات التي تعلم قرب حدوث الزلزال فتهجر المكان قبل وقوعه / تجاهلت نباحه ، تابعت المسير ، تبعني ...
الطريق هي الطريق ، لم يتوقف الزمن بعد كما اعتقدت ليلة أمس ، هناك زقزقة عصافير ، نهيق حماري ولهاث كلبي والحيرة التي تصرخ في داخلي عن سر الصمت الذي يزداد كلما تقدمت صوب المدينة / مكان عملي / ويزداد قلقي كلما قصرت المسافة الى هناك ، ـ ـ أين الناس والأصوات والضجيج ؟ وجدتني وحيدا أطوق الأزقة والطرقات بنظراتي وخوفي وحيرتي
ـ هذا سوق العطارين والصابون والتوابل ، دكاكينه ليست كعادتها ، مغلقة ! يقول الحاج سلمان أن قائد العسس يأخذ منه التوابل الهندية الجيدة الخاصة / السلطان يحب التوابل ، يقدسها / يعشق حرارتها لكنه يفضل حرارة التصفيق والهتاف باسمه أكثر / تمنى لو يعمل له تمثالا ً من التوابل الحارة الخاصة بالسلاطين ...
ـ هذا سوق الأقمشة ( مغلق أيضا ) وهذا دكان ـ الحاج سعيد ـ ابن عم والدي ، اقسم أن يكون جهاز زوجتي من محله وعلى حسابه ، لم اصدق قسمه لأنه بخيل
ـ هذا محل العم ـ قاسم ـ ( مغلق ) خباز المدينة / حبيب السنابل والفقراء / تحرسهم / آلهة الطعام /
الصمت في هذه اللحظات يختلف عن الصمت الذي اعشقه حين أجلس تحت نخلة الدار أداعب النسيم ، الصمت هناك احتجاج وتمرد على الصخب / تحته بالضرورة بركان / هو افضل تربة ، خصوبتها ، تحفز أوهامي / إلهامي / اكتب ما يغازل أفكاري أو ما يكدرها ، ثم أمزق ما كتبت ، يضحك القمر! لكنه هنا عالم مخيف / يدور معي وأنا أجوب الطرقات ، أراه يطرق الأبواب ، يسكنها ، يحذر أهلها ...
الصمت هنا أغنية مهجورة وهبت نفسها ـ لوحدتي ـ
ـ أ أنا الوحيد الناجي من طاعون هذه ـ المدينة ـ ومن فلتات اللسان ؟
أنا السلطان ... لا أحد سواي في هذا الحي ، أول مرة أحس أن لي ملكا ً ما على هذه الأرض !
واصلت المسير ، عليَّ أجد من أسأله ، لم أجد ، همست في أذن حماري ، اعتدت أن أهمس في أذنه ، أبوح له كل أسراري ، أثق به ، لم يصدف أن أفشى سرا ً من أسراري ... ربما لأنه حمار ! أو أن في منظومته العقلية قوى خفية يعجز عقلنا القاصر عن فهمها !
همست في أذنه ثانية ربما أجد الجواب ... أوقفني قائد ـ العسس ـ كان مختبئا ً خلف جدران ضوء الفجر
ضحك كثيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرا :
ـ ثلاث تهم ...
أخذني مكبلا ً إلى حضرة السلطان ... جلس على يميني قاضي القضاة يتبعه مفتي الديار وعلى شمالي قائد الجيوش / لم أر من كان خلفي لكني شممت رائحة نساء /
تقدم ـ رئيس العسس ـ وقف بخشوع أمامي :
ـ مولانا السلطان ... عرض تهمتي / تهمي الثلاث /
أصدرت ُ الحكم ووقفت ُ انتظر دوري في ـ الجلد ـ بعد رُسـُلَ الفجر الذين همسوا في آذان المؤذن والراهب وقطرات الندى والعصافير والديوك
جلدني الجلاد / مائة جلدة / لأني خرقت حظر التجوال ودنست صباح الجمعة ، ومائة جلدة أخرى لأني همست في أذن الحمار / الهمس ممنوع /
وجلدني وكلبي والحمار ثالثا ً بتهمة ـ التكتل والتجمع الذي خدش هيبتي / أنا السلطان /
سألت ـ قائد العسس ـ وأنا في طريقي إلى عالم ـ الغيبوبة ـ / تمنيت لو دخلتها بعد أول سوط لامس ضلعي المعقوف / الغيبوبة / تضمن لي عدم الإحساس بألم ما تبقى من الجلدات وسوف تضمن لي أيضا عدم رؤية كلبي وهو يموت قبل آخر جلدة ...وسوف تضمن لي كذلك عدم سماع ضحكات السلطان !!!
ـ أين التجمع سيدي ؟ كنت وحيدا ً في ذلك الشارع ! من غيري ؟
أشار إلى رفيقي الدرب !
ـ لكنهما : كلب و حمار...
ابتسم وقال :
ـ ......... حمير .......... كلاب ..........

انتهت

الدكتور نجم السراجي
النمسا 2007








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كأنه مشهد من أفلام هوليوود.. إنقاذ روسي تاه بالبحر لأكثر من


.. عمرو إسماعيل: موسيقى فيلم أبو علي ومسلسل الكبير أعمال كان لي




.. وفاء سيلين حلاوي: -تستهويني السينما الهادفة التي توصل رسائل


.. مصر.. فتح تحقيق بعد خلط القرآن بالموسيقى




.. مهرجان الموسيقى العربية اليوم.. حفل عمرو سليم وفؤاد زبادى وم