الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاعظمية و صباح فواح برائحة القيمة و الهريسة

رنا جعفر ياسين

2008 / 1 / 22
سيرة ذاتية


لم أعرف غيرها أبوماً مطرزاً بالصور و الذكريات , صباحها المفعم بالحب يضاهي مساءها المغسول بعبير دجلة , الناس فيها بألوان و أعراق شتى , يتعاونون , و يتشاركون الافراح و الاحزان , يغمرونها بالطيب فتغمرهم هي بالاحتواء , عودتنا الكرم و علمتنا حب الناس , تفرش قلبها فرحا بالضيوف و الزائرين ... هكذا كانت الاعظمية و لصيقتها راغبة خاتون .
تضج بالاحتفالات بحنو آخاذ يحتضن الوافدين , كما و تحزن مع كل مناسبة يغلف فيها الحزن قلوب البشر , من مولد النبي المحتفل به في جامع ابي حنيفة النعمان و المناطق المجاورة له حتى جسر الائمة , وصور النساء المفترشات الارض في حلقات تحيط بالدولمة و البرياني و مايجود به ( نفس أم البيت ) من المأكولات العراقية , يطعمن اطفالهن ورجالهن و يتبادلن الاطعمة مع الغير في طقس لا يخلومن اشعال الشموع لتتعالى النذور و الادعية و البركات , الى مشهد اخر يتسابق فيه رجال و نساء و أطفال مشيا للوصول الى مقام الامام الكاظم (عليه السلام ) في ذكرى وفاته , أفرادا و جماعات يملأون الشوارع و الطرقات التي لا تخلو من الخيرين و هم يزروعونها بالمأكل و المشرب لخدمة هؤلاء الزوار دون جوع أو عطش خلال يوم أو يومين يقضونها مشيا بغية الوصول الى المقام الشريف .
صورتان كبرتا معي بعد عامي الخامس حين أخذتني والدتي للمرة الأولى مع خالاتي و جارتنا و بناتها الى مولد النبي .. و كانت المرة الأولى التي ارى فيها حشدا كبيرا من البشر يفوقونني طولا و حجما , يمشون , يفترشون الارصفة و يتناعمون في تبادل الاطعمة و المشروبات , اطفالهم يلعبون و يركضون , كنت في سري اود اللعب معهم , لكن امي كانت تخاف علي كثيرا لذا لم ابتعد عنها و اقنعتني بطبق دولمة احبه كانت جارتنا قد اعدته وفاءاً لنذرها بطلب الولد , ثم و للمرة الاولى أشعل شمعة كما فعلن بنات جارتنا الاكبر مني سنا .. و قلن لي ( اطلبي مراد ) .. كنت صغيرة , ولم افهم , ضحكن و قلن ( تمني ) , كانت امنيتي بسيطة .. دراجة بلا عجلتين جانبيتين .
و في نفس العام ايضا أتذكر المسيرة الطويلة ذات صباح منعش و الناس الذين يملؤون الشوارع حينما كانت والدتي تأخذني للروضة في راغبة خاتون لأعرف منها ان هؤلاء الرجال و النساء الغارقات في السواد مع اطفالهن يقطعون شارع روضتي للوصول الى منطقة الكاظمية لاحياء ذكرى وفاة الامام الكاظم ( عليه السلام ) في تقليد سنوي تتوزع فيه عربات الطعام و الشراب المجاني على طول تلك الطرقات و من ضمنها شارع بيتنا و شارع روضتي الحبيبة
كبرت معي هاتان الصورتان .. تتكرران سنويا و نكبر معها , فأفهمهما تدريجيا ً... و الاعظمية تتسعُ للجميع .
كانت أمي تقول اني طفلة مزعجة في الطعام , لا أحب اي شئ , و لا أكل اي شئ , و لكني أتذكر مواسم تأتينا فيها ( القيمة و التمن ) أو ( الهريسة ) و مواسم أخرى تغرد فيها ( الزردة ) , لم أكن أحبهم , لذا لم أكن أميز تلك المواسم , و لم أكن أميز من يطبخ ( القيمة و التمن ) و ( الهريسة ) و من يطبخ ( الزردة ) , و لكن عندما كبرت بدأت شهيتي تتهذب نوعا ما , فبدأت أحب ( القيمة و التمن ) و ( الزردة ) .. و لم أحب حتى اليوم طعم ( الهريسة ) , و لكنني عرفت مواسم طبخهم , و عرفت أيضا من يطبخهم , و كانت الاعظمية معطاءة خلال المناسبتين , فتارة يطرق الباب جارك حاملاً قدراً ( للقيمة ) و قدراً ( للتمن ) أو صحناً مترفاً بالـ ( هريسة ) , و تارة أخرى و في وقت أخر يطرق بابك الجار الاخر حاملاً صحن ( الزردة ) و هي تلمع يطرزها الدارسين ببراعة , و شوارع طفولتي و صباي و شبابي لا تعرف الفرق بين ثوابين مختلفين , البيوت جميعها تتنتظر ( الزردة ) و جميعها تنتظر ( القيمة و التمن ) و( الهريسة ) , يطلبون مرادهم دائما و يتضرعون لله , و يشارك الجميع في تقليب القدور و تقديم النذور .. و الاصوات تتعالى ( ان شاء الله مرادك حاصل ) .
سنواتنا تنقضي الان , و كل منطقة خصصها مجهولون لطعام واحد , و أنا أشتاق ( لزردة ) جارتنا الخالة فوزية , و أشتاق لل ( القيمة و التمن ) التي كانت تحضرها لنا جارتنا الاخرى الخالة أم محمد , و خالتي معي ربما تشتاق ل( هريسة ) بيت أبو سرمد , جارنا الاخر .
و اعرف جيدا ً أن الاعظمية و راغبة خاتون تشتاقان لكل هذا , و الأهم منه , تشتاقان لنا بألواننا و أعراقنا المختلفة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيطاليا: تعاون استراتيجي إقليمي مع تونس وليبيا والجزائر في م


.. رئاسيات موريتانيا: لماذا رشّح حزب تواصل رئيسه؟




.. تونس: وقفة تضامن مع الصحفيين شذى الحاج مبارك ومحمد بوغلاب


.. تونس: علامَ يحتجَ المحامون؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. بعد لقاء محمد بن سلمان وبلينكن.. مسؤول أمريكي: نقترب من التو