الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شبح الاعدامات

لطفي الهمامي
كاتب

2008 / 1 / 23
الادب والفن




كان رأسه منشدّا بين ركبتيه, و يديه احتضنتا فخذيه, ظهره مقوس ورجليه قد انعطفتا قليلا لتلامس صدره وقد شدّت ساقه اليمنى بسلسلة سوداء ظهر عليها الصدأ.
في غرفة ضيقة مظلمة انبعث فيها بصيص من نور مسروق من ثقب نافذة صغيرة تفتح خارج الغرفة قد سرى "الكافار" على جدرانها و على "زاورة" "شخماء" داكنة , اعتلى كتفيه و سرى على شعره بؤس وحدته لكي يسرد عليه ذاكرة بعض البقع في قاع الغرفة .

هو لا يعرف إن كان نائما أو في صحو أو نعاس مثقل.
إنه خارج هته الجدران السميكة والأبواب الحديدية الخشنة.
كان خارج الأسوار المسيّجة والمنعكسة عليها الأضواء الحادة من مصابيح فخمة عالية تشبهت بنجوم" واطية " الموضع وكلاب شرسة مكمّمة مطلقة وسط مقر محاط بالسور الخارجي.
هو الآن ليس هنا.

لوحة ثانية
إنّه في أزقّة المدينة العتيقة و عينيه في تلك الفتاة السمراء النحيفة تبتسم إليه فيتبعها, تدخل إلى احد الأنهج الخالية من المارة.
يلحق بها.
يمسكها من يديها, يتحدثان قليلا, يمرّر شفتيه على انفها ثم لسانه على رقبتها فشفتيها و يمرّر يديه على ظهرها فصدرها فجذبته كله إليها وأمسكت يديها شعره الفحمي .
هما الآن وحدهما لا يعرفان أين يقطنان و لا يعرفان ماذا يفعلان.
انه ليس هنا الآن.
هو خارج هذه الجدران المحاطة بقسوتهم عليه, إنه يجري و قلبه بين كفّيه و عينيه تركضان وراءه, قفز فوق الجدار القصير ثم فرّ على اليمين ثم قفز من جديد على السور ثم تسلق الحائط معتمدا على نافذة, فوجد نفسه فوق السطوح, نزل من الجهة الأخرى
كأنه لم يحدث شيء
فر إلى دكان وضيع. اشترى علبة سجائر,أربع بيضات, و علبة "هريسة" صغيرة, وضعهم في جيوب معطفه,
سار بحذر حتى بلغ احد الأزقة , فتح الباب, أشعل الضوء , نظر إلى السّقف والى ركن البيت , أشار بعينيه إلى أصدقاءه اللذين علّقوا أنفسهم طوعا و قد ألفوا منه الاستهزاء بقوله "إنكم غاوون الشنق هكذا" فيجيبه العنكبوت بحركة رشيقة, فيصعد بعدما كان يتدلى.
فتح المحفظة وجد بها بطاقة شخصية . ثلاثة ورقات ذات العشرون دينارا, و ورقة كتب عليها أرقام .

نهض مسرعا نحو المرحاض ,تأخر قليلا.
ثم خرج نحو المطبخ التهم " عجّته " فتح قارورة "ّالدجين" المركونة تحت فراشه دخن طويلا فهزه النعاس أسند ظهره إلى الجدار , لف خصيتيه بكفه منهزما للنوم .

لوحة ثالثة .
في الهدوء المخيف كان صاحب الحذاء العسكري يقترب من الغرفة رقم تسعة . كانت أصوات المفاتيح ذات اللون الرصاصيّ تسبقه جثة ضخمة ورأس معوجّ وبطن منتفخ يتدلى .
توقف أمام الغرفة.
لم ينتبه إلى أية حركة .استأنف حراكه إلى آخر الممر و عند عودته اعترضه زميله سائلا .

أين وضعتموه
في الغرفة رقم تسعة
وحده
نعم وحده
كم عمره
بين السادسة و الثمانية عشر عاما
انه صغير
نعم انه صغير وشرّير
إذا حاذر منه و خاصة من "الشيركو"
انه مشدود على السرير

كان صاحب الثمانية عشر ربيعا شاردا.لم يزعجه الحذاء العسكري و المفاتيح ذات الرنين الموحش .

في ذلك اليوم المشمس كان فرحا بسرواله الأنيق الذي وضع فيه السكين " بوسعادة " ,اقترب من سيّدة بان على صدرها العاري الأبيض تجوّ ف خفيف منحدر إلى حد النواهد و قد تدلّى فيه رباط الذّهب اللاّمع والسميك المرادف في حركاته تمايل الصدر الفتي المتأهب .

راقبه طويلا .
اشتهى بياضه و استقامته, اقترب منه غير مبال بحاملته , نظرت اليه باشمئزاز حاد. تذكّر حينها رجولة السلاح المدسوس في السروال , وتذكر عنكبوته الجوعان . حينها لم ينتظر طويلا مد يده بسرعة البرق إلى عنقها ثم انفلت ركضا مجّمعا العنق الذهبي بكفه . لم يكن يدري أن هناك من هرع وراءه إلا بعدما اخذ منه الإعياء . حاول الإفلات منه إلا انه لم ينجح في ذلك. كان الآخر يصيح "سارق, سارق ".اختبأ في أول نهج . اقترب منه مطارده .
احتار
لقد داهمه الخطر كشاة يحاصرها الذئب, اخرج "البوسعادة ". جسمه يقطر عرقا تذكر السجن . تذكر "السيلون". تذكر "الفلقة" تذكر رائحة "الزاورة" وتذكر التعليق من اليدين و القدمين .

فُتحت نافذة الباب, صاح مبروك:
انهض.
ارتجف الولد, نظر الباب فقابلتاه عينين غريبتين .
مسح الريق الذي نزف أثناء تدلى رأسه بين ركبتيه .
قام
حرّك ساقيه الميتتين واليابستين. تحركت معه سلسلة الحديد التي تشد قدميه .
أحسّ في العيون المطلّة من النافذة شرا قريبا
صاح بأعلى صوته " شربة ماء "
لم يجبه احد
صاح ثانية فلم يكن هناك غير الصدى
أطلق حنجرته هملا لصياح وعويل
ولم يلجم لسانه شتما مرددا
" يا مبروك يا ولد (......) الله لا ترحملك عضم "
" يا مبروك يا "طحّان" "
جلس
نظر إلى معصم ساقه المحفور من اثر سلسلة الحديد والدم المختلط بجلدته
بلّل رأس أصبع يده بالريق ثم اخذ يضمد الجرح الدائري
في مساء ذلك اليوم دبّ في مفاصله الخوف
سأل نفسه
ما بك يا فاضل , مهما حكموا فأنت" راجل".
لم يجرئ على البوح لذاته أن الإعدام ينتظره بل راح من الحين إلى الآخر تهزّه الأشواق إلى" السيفيل"
نزل الليل.
ن , ز , ل / ا , ل ,ل , ي , ل
نزل
على غير عادته كئيبا
كان الولد المشدود ظهره إلى الحائط يرتعش
أحسّ أن شيئا داخل جمجمته يتحرك
نزل عليه الصقيع
صورة أمّه مرت من أمامه ,حاول إمساكها فلم تترك له الرّعشة التركيز
جاب في خاطره الله
قال "اللهم أنقذني ,اللهم أنقذني ,اللهم أنقذني"
و لكن الرعشة لم تترك له سلوى الهدوء
الأذنين تترصدان الحركات التي تنبعث من السقيفة
الحذاء العسكريّ المرتقب قدومه يقلص الأضلع داخل الصدر


لوحة رابعة

كانت عينيه وسط رأسه فانوسين
جاب خياله الممزق صوت القاضي و الأعوان الذين يدفعونه بعدما أطلق الصياح المفزع
" هذا ظلم , انتم القتلة"


لوحة خامسة
بدا العرق ينزّ في الصقيع من جبهته – قال بصوت خافت من نفسه إلى نفسه المرتبكة
ليس الليلة أكيد انه ليس الليلة
سمع الحركة تقترب منه
تمنّى أن يتوقف الزمن
تمنّى ألا يعلن آذان الفجر
تمنّى لو يمسخ صنما كالأحجية في مكانه إلى الأبد
اقترب الرّنين من غرفته
ارتفعت حمّته
بلغ المبروك الباب , اخذ يبحث عن المفتاح
الولد المرتعد تعالت تمنياته
وضع المبروك المفتاح في القفل
فزع الولد صياحا دوت له الأرجاء
"متحلش الباب , متحلش الباب "
فتع مبروك الباب بسرعة و قد لفّه من الخلف أربعة من الطلائع السجنية مرتدين الزيّ الأزرق
وثبوا عليه كالعصفور المكسور, فكوّا وثاقه
كان كالقصبة في الريح القاصية بين أيديهم
ساروا به نحو ساحة السجن المتربع في قلب شارع الشهداء 9 افريل
فرّ من أيديهم فجأة ,اخذ يركض كالمجنون
"لا يا عم مبروك راني كيف ولدك , راني مازلت صغير , لا منحبش انموت "
كانوا يركضون وراءه تماما كذلك اليوم عندما فرّ منهم فوق السطوح ,كان يركض ويلتفت إليهم
وهو كالحمامة وسط القفص تحاصره الجدران العالية والأبواب الحديدية
دوّى صوته
أرعب المساجين كلّهم
نهضوا على حكايات "الخروبة "
أسرعوا إلى النوافذ
شاهدوا التعزيزات , لم يسمعوا غير توسّلاته إلى المبروك حينما امسكوا به , ثم بعد ذلك شتم الحاكم والظلم
مروا به إلى "الخروبة"
كان صدره كالثور المجروح بعد أن عبث به جرحه
رجّت الصيحات السماء منبعثة من نوافذ الغرف و تعالت سحابة موت عندما انطفأ الضوء.

نشر:باريس في
15 جانفي 2008








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة