الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ختمَ الصبرُ بُعدنا ... لفريد الأطرش

عدنان الظاهر

2008 / 1 / 24
الادب والفن




رتبت ُ بعد لأي لقاءً مع فريد الأطرش في الكازينو الذي يحمل إسمه في جبل لبنان . كان الرجل متعباً إذ ْ أجريت لقلبه قبل فترة وجيزة عملية جراحية خطيرة ، مع ذلك وافق على اللقاء . كنت في إنتظاره حين أطلَّ يحمل عوده وهو يعرفني جيداً منذ زمن الصبا والشباب ثم أجريتُ له ـ وقد كبرنا ـ مقابلة مع صاحبي المتنبي ثم رتّبتُ له ( إنترفيو ) في فضائية كوكب مارس ، المريخ فكان مسروراً من كلا البرنامجين . فيمَ حَمُلك لعودكَ يا فريد ؟ قال إني أتحسس بعض مقاصدك عن بعد ، أعني أنك لا بدَّ ستطلب مني أن ْ أعزفَ لك أو أن أغني بعض أغانيي كما هو دأبك أبداً. أصبتَ يا فريد ، لقاء اليوم يتطلب عزفك وغناءك . قال قبل أن أعزف وأنشد أود أن أعرف حيثيات المناسَبة ، فإذا ما عرفتها إستطعتُ إختيار الأغنية المناسِبة التي تتطابق مع مقتضى الحال . معك حق يا فريد ، كل الحق . ستغني لمناسبة عودة المياه إلى مجاريها الطبيعية . ضحك فريد عالياً ثم قال : أعجبني تعبير (( عودة المياه إلى مجاريها الطبيعية )) ... هل كانت محبوسةً هذه المياه وأين ومَن قام بحبسها وهل تمَّ حبسها خلف سور أو سد منيع ولماذا ؟ ثم ، أفلمْ تنطمرْ هذه المجاري خلال فترة إنقطاع المياه عن المرور فيها ؟ أنت تعرف أثر الرمل والأتربة على مجاري الأنهار . معك كل الحق يا فريد ، لا تعود مياه ٌ إلى مجاريها الأصل فيما لو إنقطعت عنها ... أفلم يقلْ فيلسوف إغريقي لا يجري ماء ٌ في نهر مرتين ؟ قال هذا شأن آخر ، الماء هنا هو الذي يتغير لكنَّ النهرَ باق ٍ دون أن يغيرَ وضعه ومكانه . صح ْ ، قلتُ فرِحا ً ، صح يا فريد ، والله إنك فيلسوف . قال يُبعدُ اللهُ الشرَّ ، ما كنتُ يوماً في حياتي مع الفلسفة والفلاسفة . الماء هو المتغير الوحيد لكنَّ المجرى يبقى لا يتغير . الماء سائل ٌ متحرك والنهر جماد لا يتحرك . الماء كالعلاقات بين البشر ... تتغير وتتبدل ، تتبادل الأمكنة حسب المصالح والمتطلبات . هذه العلاقات تتغير لكنَّ الإنسان كالنهر يبقى كائناً حياً بين السائل والجماد . إنك لفحل ٌ في المنطق يا فريد . قال أعوذُ بالله ! لستُ فيلسوفا وما كنتُ يوماً منطيقاً ، يكفي أن أكونَ ملحناً ومغنياً ولكم تمنيتُ أن أكونَ شاعراً لكي أقومَ بتأليف كلمات ألحاني بدل تكليف الشعراء أن ينهضوا بالمهمة حسبما أضع لهم من مواصفات وتفاصيل وأجواء الأغنية التي سأقوم بتلحينها وغنائها . حسرة في نفسي أني لم أكنْ شاعراً . هل أستدعي لك صديقنا الشاعر الفحل أبا الطيب المتنبي ليعرض عليك ديوانَ أشعاره فتختار منها ما تشاء مما تراه ينسجم مع ظرف وجو هذا اللقاء ؟ أن تدعو الصديق المتنبي للإلتحاق بنا تلكم مفاجأة سارة ولكن ، لا أود أن نجشّم َ الشاعرَ عناءَ المجئ إلى أرضنا من كوكب المريخ قاطعاً مئات آلاف الأميال معرِّضاً نفسه ومركبته الفضائية لأخطار ضربات النيازك والشهب المدمِّرة التي جعلها الرب ُّ رجوماً للشياطين . قلْ ما هي المناسبة لأختار لك اللحن المناسب والأغنية الفضلى ولسوف تنسجم لهما وترتاح غاية الراحة . لكن يا فريد ... وأحجمتُ عن مواصلة الكلام ... شئ ٌ ما وقف في طريقي ... شئ أخشى بعض عواقبه غير الحميدة ... هاجس واقعي غير شيطاني والنجوم الهاوية رجومُ الشياطين ... ربما تساعدني في طرد شرور الشياطين عني وعن مشروعي الإنساني بعيد النظر . ظل صاحبي صامتاً يداعبُ أوتار عوده برفق ويدندن مع نفسه . أحسَّ ما أنا فيه من موقف حَرِج فتركني وشأني . هزَّ برفق فريد رأسه يشجعني على مواصلة كلامي. إستأنفتُ الكلام فقلت ُ : يا فريد ، إنسَ موضوع دعوة المتنبي ولكن لا تنسَ رجاءً أن تدعو أنت صاحبة المناسبة وسيدة اللقاء . ترك فريد أوتار عوده وقد فوجئ بدخول عنصر ثالث نسوي . من هي ثم لِمَ لا تدعوها أنت بدلاً مني ؟ هل أعرفها أو سبق وأن تعرفنا على بعض ؟ لا يا فريد ، ما سبق وأن إلتقيتما . طيّب ، قال فريد ، وهل لديها رغبة في أن تلتقيني بوجودك هنا ؟ لا أعرف الجواب ... قلتُ . إذا ً ، قال فريد ، فلننسَ أمر هذه السيدة . قلت طيّب ، سنصرف النظر عن فكرة دعوتها للإنضمام إلى لقاء اليوم ولكنْ ، هل ترى بأساً يا فريد في أن تكون حاضرة ً معنا من خلال دائرة تلفزيونية مغلقة بحيث نراها على شاشة عريضة ملوَّنة وحيث ترانا وتسمع أحاديثنا وتستمتع بالتجاوب مع شجي ِّ ألحانك ولا سيما الأغنية التي سأقترحها عليك أغنية ً للمناسبة . قال فكرة جيدة ، هيا قلْ ، ما إسم هذه الأغنية ؟ إنها يا فريد أغنية (( ختمَ الصبرُ بُعدَنا بالتلاقي / وشفى الصدرَ أن َّ ودّك َ باق ِ )) . لم يُطق ْ فريدٌ صبراً ... شرع يدوزن أوتار عوده شدّا ً وجذباً وإرخاءً حتى إستقامت الدوزنة له كي تنسجم مع لحن هذه الأغنية . لم يسألْ لِمَ هذه الأغنية بالذات التي نسيها أهل الطرب ومحبو أغانيه . غنى فريد وأعاد وطرب وحلّق في السماوات العلى حتى لكأنه لم يغن ِ في حياته كما غنى في هذه الساعة . (( أفتدري بما لقيتُ من اللوعة ِ في الصد ِّ بعد يوم التلاقي )) . (( لو ترى ما شربتهُ من دموعي / وعلى شربها خيالكَ فاق ِ )) . صفقت السيدة وهي في شرفتها العالية في شاشة الدائرة التلفزيونية المغلقة ، صفقت طويلاً متألقة ً في أقصى حالات النشوة والإنسجام وهي واقفة وأشارت لفريد أن يعيد غناء هذه المقدمة وأرسلت له بكفها المطيّب بشتى أنواع الطيب والعطور قبلة ً هوائية أحرجت فريد فعرق جبينه . أدار وجهه صوبَ شرفة السيدة ونهض حتى نصف جسده ثم قال لها : متشكر يا سيدة ، متشكر يا سيدة ثم جلس في مكانه وهو يمسح العرق عن وجهه . عاد فريد لعوده وأدار جسده كاملاً صوب سيدة المناسبة ، سيدة الأنوار والأقمار ، سمير أميس بابل وفينوس السماء وغنى (( أُدن ُ مني ، فإن َّ خوفي من الإخفاقِ لا ينتهي بغير العناق ِ )) . نهضتْ الفتنة ُ والفاتنة من مكانها وغادرت شرفتها شاقة ً طريقا ً سرياً حتى فاجأتنا شاخصة ً في وسطنا تصافح فريدا ً وتقبل وجنتيه بشوق وحرارة . هم َّ برد قبلها بالمثل لكني تداركتُ الموقف إذ جررته من ذيل سترته وأقعدته في مكانه ثم همستُ في أذنه : إياك إياك من تقبيلها ... زوجها يراقب الشاشة والدائرة المغلقة ... زوجها غيور لا يطيق رجلاً يقبّل إمرأته حتى لو كان فريد الأطرش . دعاها للجلوس والمشاركة لكنها إعتذرت فغابت . بعد غيابها قال فريد : إنك لم تقل لي بعدُ ما سبب هذه المناسبة وما مغزى طلبك أن أغني (( ختم َ الصبرُ بُعدَنا بالتلاقي )) . معك حق يا فريد ، إنها لمناسبة عودة المياه إلى مجاريها . سأل فريد وأية عودة وأية مجار ٍ ؟ إنها العودة الكبرى بعد الغيبة الكبرى يا فريد الأطرش. عودة سيدة الأنوار السبعة لي بعد غيبة قسرية مريرة قاسية وقعتُ في إثرها عليلاً قلباً ونفساً فهمتُ على وجهي أجوب الطرقات والمدائن حافي القدمين عاري الصدر مضرباً حتى الموت عن الطعام . أتنفس الهواء وطعامي طعام الحشرات والهوام وماء المطر شرابي ، الأرض فراشي والسماء ُ غطائي وخطوط السكك الحديد سلوتي ورفاقي.
كان فريد مصغياً لا يصدق ما يسمع . حرك جسده قليلاً ثم سال : وما كان حال سيدة الأقمار السبعة أثناء الغيبة والقطيعة ؟ لا أدري يا صديقي . ليس لي علم بما جرى لها . لستُ متأكداً هل عانت كما عانيتُ أم إنها ألهت نفسها [[ بالتكاثر ]] حتى زارت يوماً قبري فتذكّرتني وتذكّرت عهود الوفاء والصفاء والوداد وشهور الربيع ولا سيما شهر مارس ( آذار ) شهر الفالنتاين والورود والواين ، شهر الميلاد بعد الغياب . طلب فريد كأس عصير برتقال دون سكّر . ما كان ليصدق ما يسمع مني ، كأنه يستمع لقصص أطفال خرافية . وضع الكأس أمامه وسأل : هل من فُرصة أخرى للقاء آخر مع سيدة الأنوار السبعة هنا معك أو في بيتي في أعالي بيروت أو لدى المتنبي على كوكب المريخ ؟ لا أدري ، قلتُ ، لا أدري . قد تأتيك وحيدةً حيث مكان إقامتك في جبل لبنان فهي مثل ملكة بابل ( سمير أميس ) جبلية النشـأة تعشق حياة الجبال . أطرق فريد عميقاً كأنه يتمنى أن تتم هذه الزيارة سريعاً قبل أن يوافيه الأجل فقد أخبره أطباؤه أنه سوف لن يعيش طويلاً لذا فإنه يستطيع أن يأكل ما يشاء من طعام وأن يفعل ما يشاء فقرر المسكين أن يتزوج قبيل مغادرته الحياة . إنها متزوجة يا فريد. قال سأبحث عن غيرها ، سيدة تقبلني زوجاً على الورق حتى ولو ليوم واحد . سترثني وما أملك وليس من يشاركها ثروتي وممتلكاتي في بيروت والقاهرة . وما قيمة مثل هذا الزواج يا فريد ؟ قيمة عظمى ، أجلْ ، له قيمة عظمى . سيكف الناس عن القول إني مت ُّ عازباً أو فاقداً عناصرَ رجولتي. سأترك ما أملك لسيدة تستحقه بدل أن يضيع ويتبعثر هنا وهناك في غير أوجهه السليمة . لا تنسَ ، قال ، لقد تزوج هتلر شهر مايس أو أواخر شهر نيسان عام 1945 وطائرات ومدفعية جيوش الحلفاء تدك برلين دكاً . وفي التاسع من هذا الشهر وقعت المانيا وثيقة الإستسلام غير المشروط . إنتحر هتلر وكان قد أمر حراسه بحرق جثته بعد وفاته وهذا ما حصل بالفعل . شخصت أمامي أحداث بغداد في التاسع من نيسان ( أبريل ) عام 2003 ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهرجان كان السينمائي - عن الفيلم -ألماس خام- للمخرجة الفرنسي


.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية




.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي


.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب




.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?