الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حواس مخادعة

علي شايع

2003 / 12 / 5
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


" العدُّ حدٌّ ". مضت الأيام في عدّها، واقتربت الحدود، حتى صار ممكنا ملامستها كما لو انها على الخارطة،إذن انتهت الرحلة الى العراق باقتراب حدود الأردن،غير ان عداد السيارة كان يفتقد في عدّه 75 كيلو مترا.قال السائق؛ 75 كيلو مترا من الاراضي العراقية  تنازل بها الرئيس المخلوع الى الأردن. قلت : اين الحدّ في العدّ الآن ،وقد تكاثر ما نعدّ؟!.وكنت أتمنى ان يمرّ الوطن على لحظات وداعي بأمل كبير،غير ما يعكر صفو النهاية، او أعكره بالأسئلة.
كنت مكتئبا،افرح  كلما دقّق شرطي عراقي في جوازي، بل كنت اشكرهم،ويضحكون!. حتى وصلنا نقطة تفتيش الكمارك الأخيرة، عندها تذكرت، بألم مكتوب، كل ما هرّب من وطني، نفطا، وحجارةً سومرية. ترجلت من السيارة لأخر تدقيق في الجوازات، وتوقعت ان أمرّ كمن مرّ قبلي(وبعدي)، حيث يكتفى بالنظر الى جوازاتهم والسؤال عن ما في الحقائب.
 قبالة شرطي الكمارك العراقي، كنت أقف، مرتعباً من بدلته الزيتونية!، بينما ابتعدت مجندة أمريكية- يمازحها ثلاثة مسلحين- الى نافذة السيارة وهي تومئ لابنتي ذات ال خمس سنوات،وراحت تشاكسها بودّ.فأحزنني منظر تلك الطفلة؛ تعبث بخصل شعر أشقر منسابة أسفل الخوذة الأمريكية!. وبشكل تصاعدي،خفتُ من فوهة البندقية بيدٍ محتلةّ!،وتضاربت المشاعر،لحظة تلبستني غربة الجندي (الذي كنته) في جبال الحرب، يحن الى براءة تجاور القلب، ويطارد فيها أمل ما، بعيون طفل يمسك بيديه، او يهزأ من خوذته. تذكرتني مليا،فقلت بقلب عراقي؛ لأترك للمجندة الأمريكية ( مادامت امرأة مسكينة) ان تقع في فخ الحنين الى الأم التي ضيعها السلاح. قلت لأفيضن عليها بعض ما رزقت، لعلّها تتذكّر، فأنتصر. وفي سريرتي لعنت كلّ حرب،و من لحظتها أحببت تلك المجندة،أحببتها بابنتي لا بقلبي، تنفيذاً لوصايا ربها؛ (أحبوا أعدائكم).
و لربما كان صمتها يقول؛ انتم امة الحب، وحضارته!،والمأمون أول من ادخل المرأة في جيشه..
 تبسمتُ ..هل كانت ستصل الى أمريكا امرأة عراقية محتلة؟!!. ضحكات عميقة، هذا ما حاولته لأطرد جدل الحب والعداء ، ضحكات نغصها قول نيتشه؛ (الإنسان هو الكائن الوحيد الضاحك،أكتشف الضحك لأن أحاسيسه وحواسه تعذبه دون باقي الكائنات).
عدت الى حب المجندة وتذكرت قصيدة كتبتها وأهديتها الى ابنتي قبل ان تولد بسنتين، وأدمعت عميقا لسنوات ثلاث من عمري في صحراء العرب لم أبصر فيها وردة أو امرأة  او طفل.قلت وانا اصدّق الفلسفة ؛ ان كل لحظة تخلق لنا وجودا يستوجب التبرير، لكن هل قرأت تلك المجندة "أوراق العشب" لوالت ويتمان؟. ام سمعت ما سأبرره في خاطري لها، فليس المكان جدير ان ابررها الى نفسي، ولست لأحتاج تبرير ذاتي لها وأنا احضر الشعر والفلسفة لتدلني على جذر يجمعني بإنسانيتها،جذر يتجه إلى العمق ولا يخرج منه الى الحياة ، في هذه اللحظة تحديدا،سوى شوكة، او فوهة سلاح، الشوكة في قلب المسافر، والسلاح بيدها.
  ومن بعيد، سمعت غنائهما، ربما كانت الصغيرة تغني لها عن الشعب!! بدل العشب وقصائد والت وايتمان،ربما كانت الضحكة التي رأيتها من بعيد،لأن العشب اخضر في أمريكا والشعب هنا أسمر كالخبز(هكذا قالت لي صغيرتي بعد أسابيع)،ربما وهي تلاعب خصلاتها المنسابة أسفل الخوذة،حدثتها عن لوركا،او عن مجندة أسبانية تعسكر في مبنى المكتبة العامة، وعن ماريانا- لوركا ضيعها الأب في صوب الديوانية الكبير.او ربما قالت لها ؛ في الطريق الى مدينته الباردة.. سيوقفه شرطي آخر..فيتوهمكِ في بياض شرطية هولندية ويجفل.  
لم انتبه الا بعد دقائق، ووجدتني قد أفقت من وهمي،وأمل الشعر، منصاعا لسيل عارم من أوامر الشرطي العراقي الجديد /القديم؛ القديم ببزته الزيتونية، والجديد بحالتي قرب يديه مبعثرا حقائب الملابس وأوراق ودفاتر كنت احملها،قلت؛ لأحتكم إلى نصيحة تعزيني،وصادفت نصائح المفكر العربي بن نبي وهو يصف النهضة، قلت : هذه ساعتك اذن ..لأقول ما قالته ؛(من أجل التغيير)، فيعترض صوت عميق فيّ؛هل سيصبح الشعار الجديد، (كل شيء من اجل التغيير!)،هل سترتدي المعركة رداء التغيير،قلت وليكن فكل شيء يهون..ولن أقول هذا الوطن أهانن!.
كنت اكلم نفسي بينما عشرات المسافرين يمرون دون تفتيش، وهو يغيظني، مبعثرا أوراقي وملابسنا، قلت لنفسي : قال بن نبي ؛النهضة ستبدأ روحية قوية، وليعمل فيها الجميع بدافع ذاتي،غير طامعين في اجر. ترحمت عليه وبنفس الدافع قلت مادام بن نبي يقول ان المرحلة الثانية في التغيير هي انتشار العلم والمعرفة،فلأساعد الشرطي الذي شككت في معرفته القراءة والكتابة، بأن اشرح له عن ما في الاوراق. وهو بين سؤال وآخر يرمق نظره صوب المجندة التي طال مزاحها مع ابنتي،كان يبتسم، يبتسم تحديدا للمجندة، وبشكل غريب،لحظتها آمنت ان المرحلة الثالثة التي تحدث عنها ذلك المفكر المتألم سأعيشها مع هذا الشرطي. كان يحذّر من ان تكون مرحلة النهضة الثالثة زمن لإشباع الغرائز حد الانصراف عن الغايات النبيلة ثم التدهور والسقوط.....تأكد لي هذا وهو ينثر بعصا تشبه عصا التبختر العسكرية البغيضة، ملابس العائلة كلها بداخليها وخارجيها!،فرحا ومسرورا بمنجزه الكمركي.
وطال بنا الحال، وتجمهر الناس من حولنا، حتى ظننت أنهم وجدوا ضالة في النظر الى ألمي.
وكانت مكرمة حقا؛ إطلاق سراحي!. جمعت ما تناثر وقلت في نفسي أيضا؛ ليت للوطن حقيبة ترتب ما تبعثر.ومثلما لعبت ابنتي بعشب والت وايتمان وخضرة الأمل في قلب أب يؤمن بالشاعر كأمة،انتبهت الى حرف الباء في كلمة حقيبة وأبدلته سريعا بحرف القاف، وتسائلت دامع الأمل؛الحقيقة ما أراه. أيريد لي هذا الشرطي الذي حدثني بلكنة تفوح دما،أن اصدق حقيقة سرمدية الحقيبة في امنياته لي.  
صعد السائق، وتحركت السيارة صوب الأردن،نسيت كلّ شيء،اختلطت الحواس فادمع القلب، ونبضت العيون،وساد صمت صحراوي، صمت ابيض،قال السائق: فعليا، وارضيا،الآن خرجنا من العراق،اكتملت ال 75 كيلوا متر الضائعات،الان اكتمل المكان،وصار لزاما ان أنبئك عن ما لا استطيع عليه صبرا، قلت ؛ اليّ بالخبر، قال ؛ اما المجندة فكرهتها أنا وأحببت ابنتك،ونهرتها أنت قبل الصعود.أما الشرطي الذي كان يعمل مع الامريكان فسمعته يقول عنك : " هذا الكلب حامل الجواز الاجنبي ،القادم من الخارج،يحب الأمريكيين هو ابنته..سألقنهم درسا  ".. فكان ما عانيناه من انتظار وألم.
 قلت: هكذا إذن.. كان الرجل يعمل معهم و يكرهنا بهم!، لم ألحظ هذا  فيا لحواسي المخادعة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أكبر هيكل عظمي لديناصور في العالم معروض للبيع بمزاد علني.. ب


.. لابيد يحذر نتنياهو من -حكم بالإعدام- بحق المختطفين




.. ضغوط عربية ودولية على نتنياهو وحماس للقبول بمقترحات بايدن بش


.. أردوغان يصف نتائج هيئة الإحصاء بأنها كارثة حقيقية وتهديد وجو




.. هل بإمكان ترامب الترشح للرئاسة بعد إدانته بـ34 تهمة؟