الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قتلى الورق أهم من قتلى الشوارع

حمزة الحسن

2003 / 12 / 5
الادب والفن


في هذا الزمن العراقي الاستثنائي والغريب والفاجع لا شيء يثير العجب بما في ذلك ظهور الجن الأزرق في فناجين القهوة أو الطيران بالسرير أو مصافحة ملوك الأزمنة المنقرضة في منعطف شارع.

وفي لغة السحر ليس أمرا عجيبا أن يقول لك الساحر أو المشعوذ  أن محطة قطار في جيبك، وأن جبلا من الذهب في نهاية الغرفة، أو أن بحرا من الدخان سيطلع من ثقب في الجدار.

كل شيء محتمل.
وحين تتحول لغة السحر إلى عالم السياسة يصبح ضحايا هذه الشعوذة أكثر بكثير من ضحايا لغة السحر الظريف الجاهل الفردي والممتع.

وكما في عالم السحر الأول يوجد ملائكة وشياطين ومعجزات وخوارق، يوجد في عالم السحر السياسي كذلك هذه المخلوقات أيضا.

ومن أغرب أمثلة لغة السحر والدجل السياسي التي لا تهدف إلى مقاربة الهم الوطني بفكرة منتجة ، أو وجهة نظر تلفت نظر الآخر نحو قضية جدية محترمة تنفع الناس، هو الإحصاء الغريب والنادر الذي قام به أحد ( عباقرة)  هذا الزمن العراقي المشوه الذي يبدو أن المفكر الإيطالي الشيوعي غرامشي قد قاربه إلى أبعد حد، حول عدد القتلى في مقال واحد لكاتب هذه السطور وأحصى هذا المؤرخ الفلتة عددهم ب( 49) قتيلا.

ولو توقف الأمر عند هذا الحد لكانت صورة الكاريكتير أقل كوميدية لكنه أستدرك ليكشف النقاب عن( جريمة ) أخرى هي أن كاتب هذه السطور يستخدم( بإفراط) حرف الواو !

 يوم كتبت ثلاثية( زمن البرابيك) التي تضم رواية الأعزل، وسنوات الحريق، وعزلة أورستا، لم يفطن مع الأسف الجميع نقادا أو قراءً، إلى ان هذه الروايات كانت تومئ صراحة وبلغة مكشوفة وعارية وصريحة وفاضحة إلى أننا ننحدر نحو واحدة من أبشع مراحل التدهور والتشوه بعد سقوط هذه الدكتاتورية الكريهة.

وأخطر هذه التشوهات هو الشرخ الخطير في روح الإنسان، وهو شرخ عميق وعريق، الذي سيحتاج إلى زمن طويل كي يعود إلى صورته الأصلية التي طمرت تحت ركام وازبال وأوحال وأنقاض ومفاهيم وأفكار وعقد وأمراض. وبتعبير غرامشي نفسه: لا الجديد يولد ولا القديم يموت.
إنه طلق بلا ميلاد.
أو عاصفة بلا هبوب.

ومن أعراض حقبة التشوه هو ما كتبه هذا العبقري الذي لا شك عنده بأنه سجل فتحا كبيرا في تاريخ وطن ملئ بالهزائم. وهذا النوع من الاستحمار العلني المكشوف هو قرين الجهل ومع الجهل عمى القلب.

ترى كم من الوقت أستغرق وهو يبحث بين السطور عن عدد القتلى في مقال واحد لي ولم يخصص ربع هذا الوقت في إحصاء عدد القتلى من شعبه الذين يتساقطون علنا يوميا أمام الشاشات وقبلهم قتلى الحصار؟!

وكذلك لماذا يكون استخدامي المفرط لواو العطف جريمة لغوية، مع انه أمر صحيح، ولا يكون الاستخدام المفرط للرصاص من قبل المحتلين وغير المحتلين جريمة إنسانية هي الأخرى في الأقل مساوية لجريمة واو العطف؟!

واحدة من علامات الخرف هي أن المصاب لا يستطيع التمييز بين البول على حائط أو على نصب تذكاري لبطل وطني أو قومي، ولا بين ركوب قطار أو نافذة، ولا بين فتح أزرار البنطلون أو فتح أزرار القميص.

فليس مهما خراب العراق اليوم مادام حرف العطف سالما معافى وبخير، وكذلك ليس مهما قتلى الشوارع، ليس مهما الدم العراقي الذي يسيل، رخيصا، في الشوارع،  لكن الأهم هو قتلى الورق وسلامة الواو!

كم هي رخيصة هذه الشعوب حين يكون حرف العطف أهم من الدم، وسعر الورق أهم من الجرح العلني المفتوح، وكم هو ضحل المثقف الذي لا يرى هذا الإفراط العلني المفتوح للرصاص على أجساد العراقيين لكنه يرى الإفراط في حرف الواو!

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ريم بسيوني: الرواية التاريخية تحررني والصوفية ساهمت بانتشار


.. قبل انطلاق نهائيات اليوروفيجن.. الآلاف يتظاهرون ضد المشاركة




.. سكرين شوت | الـAI في الإنتاج الموسيقي والقانون: تنظيم وتوازن


.. سلمى أبو ضيف قلدت نفسها في التمثيل مع منى الشاذلي .. شوفوا ع




.. سكرين شوت | الترند الذي يسبب انقساماً في مصر: استخدام أصوات