الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايات في واقع الحال - 2 -

غريب عسقلاني

2008 / 1 / 26
الادب والفن


1 - الطيارات والطائرات

عندما بلغ طفلي الخامسة نظر إلى السماء, رأى غيمة صيف بيضاء, سألني:
- ماذا بعد الغيمة يا أبي؟
قلت له:
- بعد الغيمة فضاء, ثم سماء.
- ومن يسكن الفضاء ويلامس صدر السماء, يا أبي؟
- الملائكة الذين يحبون الأطفال
في السماء مرت فوق الغيمة طائرة حربية, تطلق ذيلا من دخان أسود يتحلل إلى آلاف الكتل الشيطانية, فزع طفلي واستنجد طفلي:
- الطائرة أطلقت الشياطين لمطاردة الملائكة يا أبي!
أخذته إلى حضني..هدأ قلبه, واستراح صدره ونام نوما ملائكيا, بكى وهو نائم ثم كركر وضحك في النوم, تفصد عرقه وغسل وجهه الوديع.أفاق نشيطا وأحضر الورق الملون والقصبات والخيوط وصمغ اللصق والمقص, انشغلت وإياه في صناعة طيارة ورقية بديعة, ذات ذيل ملون..
صار الوقت عصرا وتحرك تيار هواء لطيف قلت له:
- هيا نطلق الطيارة نحو الغيمة..
ثبت طفلي حمامات ورقية ملونة عند زوايا الطيارة, وأطلقها حتى استقرت أسفل الغيمة, وأخذت تتمايل وتُرقِص شراشيبها مثل عروس فاتنة.
ظل ممسكا بخيط الطائرة بانتظار طيران الحمامات إلى صدر الموجة, قلت:
- الحمامات الورقية لا تطير ماذا تنتظر ؟
- ربما تمتد ذراع ملاك أبيض تنفخ فيها الروح, وتكسوها ريشا لتطير وتبني أعشاشها في بطن الغيمة.
------------
------------
2 - زغرودة مؤجلة

عاد الفرسان من الثغور القريبة والمنافي البعيدة, وزغردت النساء على امتداد الطريق, أما هي فقد غصت بالمرارة وابتلعت ريقا جافا, وانكسر بصرها عند ولدها الشاب.. سحبته وأغلقت بابها يتناهى إليها صوت رصاص الفرح يلعلع في الهواء.. إجترت ذكرى رصاصات مكتومة كومت رجلها على باب الدار, فقضى دون أن تصدر عنه آهة أو صرخة..
في ذلك النهار مشى الناس خلف نعش يهزجون"لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله", فيما سارت هي وولدها وأعمامه وأخواله خلف النعش صامتين, دفنوا القتيل وتفرقوا صامتين, واحد من أبناء عمه صرخ في وجهها:
- إغلقي عليكِ بابكِ فأنا برئ منه ومنكم إلى يوم الدين.
خرج الولد إلى الشارع, وسرعان ما رجع فقد وجد أباه مصلوبا على الجدران في الحواري والأزقة, ورأى عيون الناس ترمقه شزرا.
ظللت على ولدها في وقت ضاقت فيه السبل وصدور الناس, تهرب إلى سجادة الصلاة, تنهمر دموعها وتردد "ولا تزر وازرة وزر أخرى" لم يسألها عن الوازرة الأولى فهو متأكد أنها فوجئت بالأمر مثله.
وفي يوم قال لها:
- أُريد الالتحاق بالشرطة.
بلعت ريقها:
- وتحمل سلاحا؟
- ولِمَ لا!
وقعت في الصمت, ماذا يريد الولد الذي صار شابا قال:
- الشرطة والسلطة والوطن للجميع يا أمي.
- وهل ينسى الناس يا ولدي!
- ولماذا أحمل وزره على كتفي وكتف ولدي, ربما كان ضحية البلبلة, وربما كان ضحية نفسه, يرحمنا الله جميعا.
ومضى يحرس الناس والشوارع, يحدق في شمس النهار لا يطرف له رمش, لا تفارقه صورة أمه التي حفظته في السنوات العجاف.
وفي يوم وقف وجها لوجه أمام عمه الذي هاج يوما, سأله:
- أنتَ عمي؟
- ومن قال غير ذلك!
- وابن عم أبي..
وضع الرجل يده على فم الشاب, وأخذه إلى حضنه, وفي البيت قبلته أمه قالت:
- في عينيكَ حكاية
- هل تعجبكِ بنت عمي؟
- أي عم؟
- الذي هاج يوما
صمتت قليلا, أطلقت زغرودة مؤجلة..وبكت.
-----------
-----------
3 - عند المفترق

عند المفترق, ومع الإشارة الخضراء دهست السيارة طفل, هرست قصبات عظامه وعجنتها مع لحمه القليل, لم تتريث الإشارة عند الدم النازف فانقلبت إلى الحمراء, اختفت الجثة في صندوق سيارة الإسعاف التي أخرجت لسان زامورها للإشارات والناس والشرطة, فهي البيضاء التي لا تحمل خبرا أبيض.
في المستشفى, شهق الإخصائي وغطى الوجه الحليبي الصامت, رشقته الممرضة المرافقة وقلبت شفتيها مرتين,مرة لتداري ضحكتها من صوته الناعم الذي لا يتناغم مع بوزه النكد "اللي يسمع غير اللي بيشوف", ومرة لتداري دمعة على جارتها وأطفالها الخمسة بعد أن احتج أبوهم على إغلاق البوبات القريبة والبعيدة وانتحر بالسكتة القلبية أو الجلطة الدماغية سيان, وسيان هذه أطلقها الإخصائي لفض خلاف نشب بين طبيبين متدربين حول سبب وفاة الرجل.
- الرجل مات بالجلطة أو السكتة سيان
في مركز الشرطة, قدم السائق رخصة السيارة ورخصة القيادة وبطاقة التأمين ضد الحوادث وتلا إفادته بهدوء:
- عند الإشارة الخضراء انطلقت سيارة حمراء تقودها سيدة شقراء, وفجأة تمدد الطفل على الإسفلت فلم أتمكن من تفاديه رغم سلامة الفرامل..
وشهد على الحادث طفل يتأبط كيس مناديل ورقية أفاد:
- مسح زجاج السيارة فنفحته السيدة خمسة شواقل, لوح بها متباهيا فرحا برزقه, ورقص مزهوا فانزلقت قدمه على الرصيف ووقع.
سأل المحقق:
- هل كانت الإشارة حمراء أم خضراء..تذكر..
رد الطفل ببراءة:
- هي دائما خضراء لهم وحمراء علينا.
في المنزل, حدث الإخصائي زوجته عن طفل هرسته سيارة, واسترسل في محاضرة عن لين العظام وفوائد الحليب والبيض في بناء العظام..تسللت الزوجة تعالج مكياجها في محاولة لتغيير جو الأمسية, وعندما عادت كان زوجها قد وصل إلى أسباب هشاشة العظم وتساقط الأسنان, فتشت في التلفزيون, فأطل ضابط الشرطة يتحدث عن أهمية شبكة الإشارات الضوئية في تنظيم المرور, اختفى الضابط وظهر مسئول الشؤون الاجتماعية وتطرق لظاهرة التسول والمسلكيات المتحايلة للأطفال مثل بيع المناديل الورقية والعلكة وكتب الأدعية عند المفترقات..اهتزت الشاشة وأضاءت عن خبيرة حقوق الإنسان التي اعتذرت عن التأخير بسبب الازدحام واختناق الطرق, وتحدثت عن القوانين التي تحظر عمل الأطفال..
في المخيم, شوهدت سيارة حمراء تقودها سيدة شقراء,توقفت عند فوهة الزقاق, هبطت السيدة وأوصت طفلا بحراسة السيارة ومسح الزجاج.. في بيت العزاء اتجهت نحو امرأة عجفاء جف الماء في مآقيها, أخرجت من حقيبة يدها ورقة نقدية ورقية دستها في يد العجفاء وغادرت صامتة..
عند رأس الزقاق كان الطفل الحارس قد مسح زجاج السيارة, لكنه لم يمد يده لأخذ القطعة النقدية التي أخرجتها من حقيبتها الأنيقة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصيدة الشاعر عمر غصاب راشد بعنوان - يا قومي غزة لن تركع - بص


.. هل الأدب الشعبي اليمني مهدد بسبب الحرب؟




.. الشباب الإيراني يطالب بمعالجة القضايا الاقتصادية والثقافية و


.. كاظم الساهر يفتتح حفله الغنائي بالقاهرة الجديدة بأغنية عيد ا




.. حفل خطوبة هايا كتكت بنت الفنانة أمل رزق علي أدم العربي في ف