الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-كي لا تموتوا وأنتم نيام-

عماد الدين رائف

2008 / 1 / 26
الارهاب, الحرب والسلام


كانت سوسو التي تجاوزت عامها الأول قد ألقت برأسها الصغير على ركبتي. بدت مرتاحة لسباتها بعد أن أتعبتني. أجبرت نفسي على عدم الحراك كي لا أوقظها فأبدأ رحلة جديدة من الهزهزة والغناء قد تمتد لساعة أخرى من هذه الليلة الهادئة. وفجأة دوّى صوت انفجار رفعني عن الكنبة مع الطفلة. إنه الانفجار غير المرقوم في سلسلة لن تنتهي.
اهتز الكوب في يدي.. وجدتني جامداً جمود الموتى، أغمض عيني بقوة مقلصاً عضلات وجهي إلى حدها الأقصى، محاولا بذلك عدم سماع شيء آخر. وجدتني أعود إلى تلك العادة القديمة السيئة التي ظننت نفسي قد تخلصت منها. كنت على يقين في لاوعيي من أن إغماض عيني بهذه القوة كفيل بأن يخرجني من كل ما هو حولي ويدخلني في عالم داخلي أكثر هدوءاً. لا أدري من أخبرني لأول مرة أن إغماض العينين بقوة لا يجدي نفعاً مع الأصوات. ثم من قال لك إن الانفجار لا بد وأن يليه انفجار آخر فقد تبقى على هذه الحالة لساعات. لا أدري من أخبرني بكل ذلك ولا أدري لمَ لم أصدقه. لاحظت أن لساني الحائر بين جدران أسناني المضغوطة قد وجد منفذا.. أدركت أنني لم أعد ذلك الطفل الصغير، الذي يعصر رجليه المطويتين بذراعيه مسنداً ظهره إلى جدار رطب، في ليالي القصف المجنون بين "الشرقية" و"الغربية". لقد كبرت فجأة وها هي ابنتي تعود إلى سباتها بعد أن تململت ولم تجد يدي تضمها. فضممتها.

كانت الغرفة النصّانية، كما كنا نسميها، في بيتنا الأرضي القديم تجمعنا في ليالي القصف العشوائي. ولما كانت أكثرية بيوت المنطقة مؤلفة من طبقة واحدة، فقد منَّ الله علينا أن استأجرنا هذا البيت "المركوب". كانت الغرفة تجمع ما تيسر من الجيران الخائفين الذين يهرعون إلى بيتنا المفتوح لهم دائما في تلك الأيام. يحشرون أنفسهم بالقرب من الفرشات الإسفنجية التي كنا ننام عليها نحن الأطفال. يحمل الجيران أطفالهم بين أيديهم يقومون بكل ود بحشرهم بيني وبين إخوتي، ويحاولون بين الفينة والأخرى أن يأتوا بحاجياتهم الضرورية من منازلهم المشرعة الأبواب والنوافذ محافظين بذلك على ما تبقى من زجاجها. كانت أمي تقوم بواجب الضيافة المفاجئة فتنتشر رائحة القهوة المغلية والسجائر ويختلط الدعاء والصلوات بالنكات.. وتوقظنا.

بعد ليال طويلة من القصف والرد ووقف إطلاق النار. نمَت لدينا ثقافة القذائف الصاروخية والانفجارات. وصرنا نميز بين الأصوات المتنافرة، بين نوعيات مختلفة من الأصوات من حيث الرنّة والجِرس والقوة والحجم. كان باستطاعتنا أن نميز بين ما هو متجه إلينا وبين ما هو ذاهب إلى "الآخرين". أن نعرف إن كانت القذيفة تتجه نحونا أو ستتخطانا إلى أحياء أخرى. أكثر ما كان ينهك أعصابي هو ذلك الصمت المطبق الذي يلي صوت اختراق القذيفة المتجهة إلينا للهواء. ذلك الصمت الذي يدوم لثوان تسبق صوت الانفجار. أجمد مكاني، أنتظر الصوت المريع. أكون قد بلغت الحالة القصوى من الكزّ على الأسنان، وبدأت عضلات الأجفان بالتعب فتضيء حلقات من تدرجات البياض متلاعبة بأعصاب البصر. وبعد الدوي يعود كل شيء إلى حاله من انتظار لدوي آخر.

لكن، في تلك الليلة من ليالي الثمانينات الحارة لم أسمع الدويّ المنتظر. كانت المقدمات كلها قد تمّت. شقت القذيفة الهواء "ششش" وتحوّلت الشين التي لا تنتهي إلى خاء جوفاء. حل الصمت المعهود. جمدت مكاني.. لا دوي! كانت القذيفة قد اخترقت الطبقة الثانية من المنزل وارتطمت بسقف شقتنا الأرضية ولم تنفجر. كانت أمي تقرأ صلواتها بصوت خفيض، لكنه مسموع مع انعدام أصوات رديفة. أحسست بقيمة الدعاء المستجاب. تتالت الانفجارات صغيرة وكبيرة بعد ذلك حتى عانقت أشعة الشمس ألسنة اللهب.
"ليش كنتِ تفيقينا؟" ما السبب الذي كان يدفعك لإيقاظنا يا أماه؟ بعد كل تلك السنين التي مرت.. صار بإمكاني أن أعرف أن أمي كانت خائفة علينا. خائفة علينا خوفي على سوسو. كانت لا تدري ما الذي يمكنها أن تفعله لتدفع كرات اللهب عن أجسادنا الطرية. كانت توقظنا وتلجأ إلى الله "منشان ما تموتوا إنتو ونايمين".
أعادني من حديث الذاكرة شعوري بالألم لعصري ليد الكوب. كانت الشاشات قد قطعت برامجها وبدأت تنقل صور السيارات المشتعلة والمتفحمة. كنت أدفع عن تفكيري احتمال انفجار آخر سأسمعه قبل أن أصل إلى غرفة النوم. حملت سوسو إلى تختها الصغير. وتركتها لتنام.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جامعة برشلونة تقطع علاقتها مع المؤسسات الإسرائيلية


.. البنتاغون: لا يوجد قرار نهائي بشأن شحنة الأسلحة الأمريكية ال




.. مستوطنون يهتفون فرحا بحريق محيط مبنى الأنروا بالقدس المحتلة


.. بايدن وإسرائيل.. خلاف ينعكس على الداخل الأميركي| #أميركا_الي




.. قصف إسرائيلي عنيف شرقي رفح واستمرار توغل الاحتلال في حي الزي