الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانتفاضة والسياسة

سلامة كيلة

2003 / 12 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


ربما نكون متفرجين، لكن علينا أن نتعلم لكي نكون قادرين على اتخاذ موقع فيما يجري. ربما كانت السنوات العشر الماضية قد همشتنا، أو جعلتنا نضلّ الطريق، لكن علينا الآن أن نكتشف الضلال الذي أمعنّا فيه. في الفكر كما في السياسة يبدو الميل لقبول “الواقع” عنصراً كامناً، لهذا حالما يبدأ الانهيار يميل الفكر للتخلّي عن مبادئه، وتميل السياسة إلى “المصالحة” والقبول بالأمر الواقع، فتطفو التسويات ويخفّ وزن التنازل، وتنتصر هلامية الأفكار والمواقف والسياسات. تتسيّد نعم وتخبو لا، وتصبح الإشارة إلى الـ “لا” هذه رجس من عمل الشيطان. لكن يمكن أن يقلب حجر كل المعادلة، فماذا يحدث لمشوار صاغته ميول كامنة، وأوهام معلنة؟
ربما كنت أوصّف مآل الصراع العربي الصهيوني، حيث بدا وكأن الفكر كما السياسة ضلّا بعيداً فأصبحا بعيدين عما يجري في الواقع، أو أن حجراً إبان هذا البعد. هل يعني ذلك بأن المثقف والسياسي قد تنحيّا جانباً؟ ربما، لكن يمكن القول بأن الانهيار قد جرفهما فأصبحا “واقعيين”، لينقلب دورهما ويصبحا بوق تبرير، و”مدحلة” تسوية، ورهط استسلام. لهذا كان إنفجار الانتفاضة لحظة فكفكة، ولوح ختام لمنطق ومناطقة. فالانتفاضة توضح بأن الجماهير لازالت قادرة على المواجهة وعلى القتال، وأنها مصممة على ذلك، وأنها كذلك تزداد جرأة وقوة، وأن كل الانهيارات التي حدثت في العقود الماضية وكل أيديولوجيا التيئيس التي تعممت بأبواق متعددة وكل الحديث عن “اختلال موازين القوى” وعن “العجز عن مواجهة العولمة والدور الأميركي المتفرّد”، كل ذلك لم يثن طفلاً عن أن يخوض معركته بحجر، وأن يصمم على خوضها حتى التراب/ الوطن. ما أشير إليه هنا هو هذا الانهيار في الحركة السياسية وذاك التراجع في دور المثقف، أشير إلى حالة الاحباط التي وصلنا إليها والتي تتعرى الآن أمام اندفاعة أطفال وشبان وشيوخ، أمام إصرارهم على مقارعة الاحتلال الصهيوني من أجل فلسطين، التي كدنا نخطئ تهجئتها لأننا أحللنا محلها كيان آخر، والتي تهنا في متاهات الحدود التي قُز›مت فيها، وعجزنا عن لمحها ونحن نحدّق في متاهات الطريق.
لهذا توضّح الانتفاضة الجديدة بأن “منطق التسوية” هش، وبأن القبول بالكيان الصهيوني ككيان “طبيعي” أمر مشكوك فيه، وبالتالي فإن منطق الصراع هو الأساس حيث لا إمكانية لحلœ ينهي التناقض إلا الحل الذي ينهي الكيان الصهيوني ذاته، لأن هذا الكيان لم يؤسس لحلّ مشكلة يهود مشردين أو مضطهدين، لكي تقنع القيادة الصهيونية بأرض يمكن أن نرضى نحن بالتخلّي عنها، إنه ليس مأوى عجزة لكي يقبل التقاسم والتعايش و”حسن الجوار” إنه مركز سيطرة تأسيس في سياق مشروع إمبريالي يهدف الهيمنة على الوطن العربي عبر إلغاء الطابع القومي له، لتعاد صياغته بالارتكاز إلى هذا “المولود” الجديد. ليصبح هو العنصر المهيمن فيه، وهو “الحاكم” له. هذه المسألة هي جوهر المشكلة، هي العنصر المحدّد للسياسة الصهيونية وأي زيغات عنها يقود إلى الضلال، إلى التيه، وبالتالي إلى الإسهام في تحققها، من هنا نحن معنيون بالتمسك بمسألتين: الطابع العربي للصراع وبضرورة الصراع، وأي زيغان لن يقود سوى إلى أن تكتمل الهيمنة ويتحقق المشروع.
المسألة تتعلق بمشروع هيمنة ومشروع إخضاع، وعلينا أن نختار بين القبول وبالتالي التحوّل إلى شراذم ملحقة، أو الرفض وبالتالي المواجهة. ولدق انجرف السياسي والمثقف في طريق بدأت بالقبول، وكما نلاحظ كانت نتيجتها الوصول إلى اختبار دقيق بين الهامشية أو التخلي عن سياسة سادت منذ السبعينات، وإذا كان الانهيار العالمي قد أسهم في هذا الانجراف ـ منذ مؤتمر مدريد ـ عبر فقدان الثقة بقيم وأفكار، وبالتالي التخلي عنها و”الانقلاب” عليها لاعتناق نقيضها التي كان ممثلوها يتسيّدون العالم، فإن لحظة الانتفاضة فجرّت “منطقاً”‚كان يعطى كل أبعاده، وأطاحت بأحلام صغيرة ومُرة، وأبانت العمق: بأن المسألة ليست مسألة أمتار نقبلها أو نتنازل عنها، وليست مسألة بشر يبحثون عن مأوى، بل هي مسألة أيّ المشاريع ينتصر، ومن هو سيّد المنطقة وأين موقعها في هذا العالم؟ هذا هو دور المثقف والسياسي، دورهما في الفهم وفي الممارسة.
الطفل يتقدم، والبسطاء الذي اعتبرنا أنهم خارج معادلة السياسة، هم الذين يصنعون السياسة الآن، وهم الذين يهدمون أكواماً من الأفكار تراكمت طيلة عقود، دون أن يلجأوا إلى تنظير أو ثرثرة، وهم الذين يؤكدون على المقدرة على تغيير معادلة الصراع دون جنرالات. فهل يؤسس ذلك إلى تجاوز القبول بالواقع، وشطب ميل السياسة نحو “المصالحة”، وميل الثقافة للتخلي عن المبادئ؟ هذا ما يجب أن يحدث لكي يعود للسياسة دور، وللسياسي فعل، ولكي يمارس المثقف مهمة هو صاحبها افتراضاً ـ والآن يجب أن نعيد النظر بمسار مرحلة كسرها حجر طفل، لكي يصبح ممكناً البدء من جديد، ولكي يشق الحجر طريقاً، فلقد انفتح الصراع من جديد، وتوضحت طبيعته، وتهدمت كل السياقات التي ابتدأ بالأوهام. انفتح الصراع وبقي أن يتوضّح دور المثقف والسياسي، /دور المثقف/ السياسي، أو السياسي/ المثقف، فالمبادئ بحاجة لأن يعاد الاعتبار لها، كما يجب إعادة الاعتبار للسياسة، للفعل السياسي. بقي أن يزال ركام الأوهام التي ملأت فضاء مرحلة وقادت إلى دمار نمط من الوعي، ونمط من العمل السياسي، بالتالي قادت إلى ترك الجماهير عارية. بقي أن يزال وهم “الواقعية”، ووهم القبول من الطرف الآخر ووهم التعايش و… الخ، ليعاد تأسيس الوعي والدور بما يطابق واقع الصراع وطبيعته، وبالتالي ليعاد تأسيس السياسة بعد عقود من انحطاطها.
الانتفاضة إذن فتحت أفق السياسة، وبالتالي ربما كان الوطن العربي يبدأ مرحلة جديدة، توحي بإمكان أن يتحقق نهوض جديد.
* * * * * * * * * *








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحدي الثقة بين شيرين بيوتي و جلال عمارة ???? | Trust Me


.. حملة بايدن تعلن جمع 264 مليون دولار من المانحين في الربع الث




.. إسرائيل ترسل مدير الموساد فقط للدوحة بعد أن كانت أعلنت عزمها


.. بريطانيا.. كير ستارمر: التغيير يتطلب وقتا لكن عملية التغيير




.. تفاؤل حذر بشأن إحراز تقدم في المفاوضات بين إسرائيل وحماس للت