الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المتعة الفلسطينية

خضر محجز

2008 / 1 / 29
القضية الفلسطينية


إن من الواجب النظر إلى فعل الإمتاع نظرة إشكالية، تضع المتعة، مع غيرها من الأفعال البشرية الأخرى، موضع الفحص وإعادة السؤال.
إن التساؤل الجوهري، الذي علينا اليوم فحصه، يدور حول عما إذا كان ما يمتعنا اليوم، هو إيجابي لمجتمعنا ومستقبلنا، ويدفع إلى حياة أفضل، أم أنه مجرد فعل يومي مخادع، ننساق من خلاله إلى الاستجابة لما يُملى علينا، نفسياً وموضوعياً؟. هل المتعة فعل حر مستقل ناتج عن اختيار متمعن وتفكير مسبق؟. وهل المتعة لدينا دال جميل، يحيل إلى مدلول جميل، وطنيا وثقافيا، أم أنه مجرد ضوضاء لفظية لا مدلول لها، إلا الضرر النفسي والعقلي والاجتماعي؟.
هل فرحنا مجرد ضوضاء؟. وهل أفعالنا مجرد استجابات لاعقلانية، ولاإرادية، لظواهر الطبيعة من حولنا؟. وهل متعتنا مجرد فعل يومي عادي نمارسه كما نتنفس؟.
إن فحص فعل المتعة هذا، سوف يتطلب منا الحفر المتأني، والعلمي، فيما وراء الظواهر الآنية، وعلاقات الهيمنة التي احتضنت، ولا تزال، أفعال رفضنا النمطية، وأفعال متعتنا النمطية كذلك. فلطالما تمتعنا سريعاً، ثم اكتشفنا ـ من بعدُ ـ أن متعتنا انقلبت علينا وبالاً.
إن واجب كل العقول النيرة، اليوم، أن تبحث عن تلك الأنساق الخفية، التي طالما نظمت فعل متعتنا الساذجة سابقاً، ثم ها هي تنظم اليوم استثمار متعتنا، بما يضر مصالحنا، الآنية منها والاستراتيجية.
إننا نعيش، اليوم، في عالم لسنا نحن الذين خلقنا علاقاته وقوى التحكم فيه. بل الآخرون هم من فعل ذلك، وعلى النقيض من مصالحنا. ولقد بدا واضحاً، لكل متمعن في هذا الشكل الجديد للعالم ـ الذي وُلد على أنقاض الحرب الباردة ـ أنه قد هجر أغلب قيمه الأصيلة، وقذف بالإنسان، من ثم، إلى بحث تائه عن قيم كانت له، ثم صار الآن يبكيها، كما يبكي الفطيم ثدي أم تاهت منه في زحمة الحياة.
يعيش الفلسطيني الآن حالة بحث عن مخرج له من هذا التيه. ويتوسل، في بحثه هذا، أدوات فات زمانها (النهوض العربي، الأمة الممتدة من المحيط إلى الخليج، حقوق الإنسان، قرارات الأمم المتحدة...إلخ) غير متنبهٍ إلى أن بحثه الضليل هذا مسربل، هو الآخر، بقدر غير قليل من الانحطاط، الذي أنتجته سنوات غير قليلة من اللجوء والبؤس وقهر النظام العربي. وإلا فمن منا يستطيع فهم كيف رفضت العديد من الفصائل، والشخصيات الفلسطينية، اتفاق أوسلو، ثم وجدت لها مندوحة في الهناء الماتع بكثير من أدواته؟. كيف كان يمكن لحماس أن تصبح قوة متنفذة ذات سلطة، لولا أوسلو التي رفضتها؟.
إن أدوات بحث الفلسطيني عن مخرج، من تيهه المعاصر، لم تعد متفقة مع أدوات المنطق، كما نرى. ومن هنا، فرحلته لا تصل إلى غايتها، بل تنتهي به إلى ما شاءه له العدو: سيناء!. أليس هذا هو التيه حقاً!.
يتمتع الفلسطيني بوهم القوة. ويغريه الوهم السابق بوهم متجدد، كلما سمع وسائل الإعلام تتحدث عن (صواريخه المنصبة على العدو)، وكأنه بات يملك قرار تغيير قوانين المعادلة. يغريه الوهم بالمتعة. ومثل الطفل، تغريه المتعة بالتكرار. وعندما تواجهه قوانين القوة بتجلياتها الجبارة، يفزع من الوهم إلى وهم آخر: يفزع إلى (أمة عربية ممتدة)، مع أنه مدرك مسبقاً أنها قد أصمت أذنيها عن ندائه، من يوم أن قررت أن تبحث عن متعها الخاصة.
تتمتع وسائل الإعلام، الموطوءة، باختراع مشاهد قوة كاذبة، يجترحها الفلسطيني نيابة عن الأمة العربية، حين يقذف بالصواريخ على نفسه، وحين يقتحم حدودا كانت، إلى عهد قريب، تمنعه من التيه المظلم، الذي تعرض له نقيضه في سيناء، قبل آلاف السنين.
حين يستبدل الفلسطيني الغزي اقتحام الحدود الشمالية، باقتحام مغاير للحدود الجنوبية، فهو يجترح معادلة جديدة بالفعل، قوامها تيه جديد، بديلاً عن العودة المؤصلة. وحين تصفق له القنوات التي فتحت ما بين ساقيها، وحين يصفق لنفسه كطفل، وهو يرى نفسه، على قناة الجزيرة، يقتحم الحدود الفارغة، فإنه يستبق السؤال الوجودي أو يلغيه: لماذا الجنوب بدل الشمال؟. ولماذا قناة الجزيرة المحاطة بأكبر قواعد القوة الأمريكية في العالم العربي المنكوب؟.
تقتحم الجماهير المنتشية الحدود الجنوبية، تحدوها هتافات بلاغية آتية من وراء حدود العقل. تفعل النشوة البلاغية هنا فعل نقاب، وضعته امرأة قبيحة على وجهها، فبدت من ورائه عينان مخادعتان، لا أجمل ولا أكثر احوراراً. حتى إذا ما انكشف الحجاب، بان القبح، وظهرت الحقيقة بكل تجاعيدها المختبئة من وراء الستر. ولكن من يكشف لنا حجاب عقولنا، الذي غطته بلاغة حاضرة، أوهمت الفلسطيني بأنه أقوى من كل آلات القتل الغربية؟!.
يستعيض الفلسطيني عن قوة السلاح بقوة البلاغة، وعن وضوح الهدف بشعارات فضفاضة، وعن قوة المنطق بديماغوجيا الخطابة. لذا فليس من الغريب بعد أن تنتج عن كل هذا متوالية من الهزائم، التي ينبري الخطباء لتحويلها إلى انتصارات.
كلنا سمع خطباء البلاغة يقسمون، بأن المقاومة قد قتلت خمسين جنديا صهيونيا.. أكثرنا صفق وهلل وتوقع حدوث المعجزات. وفي خضم هذا الهيجان البلاغي، كانوا قليلين هم الذين سألوا كيف. وأقل منهم من أعلن أنه غير مصدق.
لماذا حدث هذا؟. الجواب بسيط: لأننا نتمنى هذا. والشعوب في مراحل طفولتها تتوقع أن تتحول أمانيها إلى حقائق. فمتى نشب عن الطوق؟.
كلنا سمع من وعدنا بدعم عربي كاسح، يغنينا عن استجداء أموال الدول المانحة. أكثرنا صدق وفرح وانتظر. وخلال كل هذه التفاؤلية، كانوا قليلين هم الذين تساءلوا: هل يمكن؟. ثم كان هناك أقل منهم، من أعلن أن هذه الوعود كسحابة الصيف.
لماذا حدث هذا؟. الجواب بسيط: لأننا نتمنى هذا. والشعوب في مراحل طفولتها تكره أن ترى بأعينها. فمتى تتكامل عندنا أدوات الإدراك؟.
كلنا سمع الشعارات الكبرى، حول مسؤولية الحاكم عن عثرة البغلة على الطريق. ومع ذلك فلقد رأيتنا ما نزال نتعثر في برك الوحل، التي ملأت شوارع غزة. ورغم أننا لا نجرؤ على الاستفسار عن موضوع البغلة هذا، إلا أننا ما نزال نصدق أن دولة غزة ستحقق العدالة، لأن رجالها موثوقين وقديسين وصلحاء.
لماذا حدث هذا؟. الجواب بسيط: لأننا رأينا مظاهر الإسلام، فظنناها حقائقه. والشعوب في مراحل طفولتها تخدعها المظاهر عن الجواهر. فمتى نرى ما وراء الكلام؟.
اليوم اكتسح الغزيون حدود رفح، وانساحوا في بلاد الله الواسعة في سيناء.
المنطق الظاهر البسيط يبرر هذا بضغط الحاجة. لكن قليلاً من التأمل كفيل برفع راية التحذير الحمراء. فلأول مرة يرى الفلسطينيون وراءهم حدودا مفتوحة، مهيأة لاستقبالهم، في حالة حدوث ضغط أشد قوة. وإذا كان نقص المواد التموينية قد تكفل بإزالة جدار ضخم من الحديد والإسمنت، فإن هجوما إسرائيليا ذا كثافة نيرانية زائدة، كفيل بإزاحة نسبة كبيرة من سكان غزة، باتجاه حدود صارت الآن مفتوحة.
في الماضي كان ظهر الفلسطيني إلى الجدار. والآن صار ظهر الفلسطيني إلى الصحراء. فأي الطريقين أدعى للصمود، وأيهما أدعى للهجرة؟.
في الماضي كان لا مستقبل لغزة دون شقيقتها الضفة الغربية. والآن قد بدأ يظهر في الأفق أن غزة تستطيع أن تستقل بنفسها، لتصنع إمارتها الإسلامية، التي ستتعثر فيها كل البغال، دون أن تجد من يهتم لإقالتها.
في الماضي كانت إسرائيل مسؤولة، أخلاقيا وسياسيا، عن تأمين وسائل الحياة لسكان غزة، بصفتهم سكان منطقة محتلة. والآن تعلن غزة نفسها كيانا مستقلا. فلماذا تضطر إسرائيل إلى تلبية احتياجات (كيان مستقل) وجد طريقه نحو (الحرية)؟!.
والسؤال الآن هو:
إذا كان خيار غزة هو مصر، وإذا كان خيار مصر لغزة هو وحدتها مع الضفة، فماذا ستفعل مصر؟.
هل تسلم مصر لغزة بخيارها هذا، لتصبح مسؤولة، أمام المجتمع الدولي، عن منع صواريخ القسام من تحرير فلسطين؟. وهل سيكون مطلوبا من مصرـ تبعاً لذلك ـ أن تختار بين أمرين: إما أن توقف قذائف القسام، أو أن تتعرض لحصار أقسى من حصار غزة؟!.
فهل جاء الدور على مصر لتُحاصر، وتُمنع من ممارسة دورها العربي والإقليمي؟!. ثم ـ ووفق منطق التداعيات هذا ـ هل جاء الدور على دولة (قطر العظمى) لتتولى قيادة الأمة العربية بدل مصر المحاصرة؟!. سبحانك!.. هذا بهتان عظيم.
لقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل فلسطين بأنهم مرابطون، رجالا ونساء وأطفالا. وإذا كانت فلسطين هي أرض الرباط، فحري بنا أن نعلم الفرق بين الرباط والجهاد. ومن منا لا يعلم بأن الرباط هو الانتظار والتأهب والاستعداد للحظة المعركة.
هل أكون كافرا فيما لو قلت بأن المطلوب من الفلسطينيين ـ في مثل حالتهم التي هم فيها الآن ـ مجرد الانتظار والاستعداد، حتى يأتي أمر الله، وتتغير الظروف والموازين؟. أليس هذا خيرا من التيه في سيناء؟.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خبراء عسكريون أميركيون: ضغوط واشنطن ضد هجوم إسرائيلي واسع بر


.. غزة رمز العزة.. وقفات ليلية تضامنا مع غزة في فاس بالمغرب




.. مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة مدنية شمال غرب مدينة رفح جنوب ق


.. مدير مكتب الجزيرة في فلسطين يرصد تطورات المعارك في قطاع غزة




.. بايدن يصف ترمب بـ -الخاسر-