الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صديق قديم وحميم يشعل نار الذكرى من جديد في أكواخ الزمن المتآكلة . .

أحمد الشحماني

2008 / 1 / 29
الادب والفن


عائلة السيد الغالبي في الشطرة تعتبر من العوائل العملاقة في الأدب والثقافة والوعي والذوق. . . تعرفت على الأخ العزيز جميل مزهر الغالبي في البصرة في كلية الآداب عام 1985 قبل تخرجه بسنة واحدة , وكان من دواعي سروري أن أصادف إنسان رائع مثله , فهو إنسان طيب القلب , مهذب و ضليع في الأدب والشعر والثقافة ولكنه سريالي إلى حد البكاء . . قال عنه بعض الأصدقاء والأدباء في ذلك الوقت لو أن جميل يمتلك لغة انكليزية لأصبح ناقد معترف في الأوساط الأدبية المحلية والعالمية لقوة ملاحظته وبلاغة تعبيره ونشاط أدبياته وتمكنه في تقمص المفردات ومتابعة الهفوات والإيماءة في تحليل النصوص الأدبية.
جميل الغالبي – كان هفوة من هفوات الزمن ألا انه كان مسحوقا يتيما مشلولا – اعني به يتيما لأنه لا أحدا كان يهتم بطاقاته الأدبية والفكرية , ومشلولا, لأنه لا يستطيع القفز من سلمّ الواقع المهين المزري المتجسد بحماقات من كانت بيدهم الأمور , أضف إلى ذلك أن جميل الغالبي كان يعاني من إفرازات مرحلة مؤلمة جعلته يعلن يأسه للواقع المأساوي المؤلم والتقوقع في مدرج السريالية العقيمة.

كان القسم الداخلي هو نافذتنا الوحيدة التي من خلالها نستطيع أن نتنفس أوكسجين التأملات ونبوح بأسرارنا بعفوية تامة ونمارس طقوس أحلامنا البريئة , ففي الليل نكتب القصائد ونبني قصورا من أوهام خيالنا , نتمرد مرة ونعلن تصالحنا وتصافينا مرات أخر- القسم الداخلي كان بالنسبة لنا البيت والوطن والأهل والأصدقاء والذكريات. وكان جميل بالنسبة لي المثال الرائع للإنسان البسيط الوديع والمثقف , فكنت أحيانا ألوذ به إذا خيم الظلام وجنّ جنون أهاتي واستباحني الشوق المعربد بالحنين , لا أجد شخصا اقرب إلى نفسي من جميل مزهر الغالبي لأنه جميل في كل شيء حتى سرياليته لها جمالية خاصة وطقوس خاصة, وهدوءه وثقافته وجمال قلبه المشظى بالهموم , عندما أزوره يقدم لي جميل سيكارة مع كوب شاي لم تصنعه يداه الخاوية , كان بقايا من شاي قديم أو ربما قدمه أحد الأصدقاء إلى جميل لقاء قصيدة أو نكته أو تعليق حاد , أحيانا أسأله متى تقرأ ياجميل الغالبي – يقول لي عند الساعة الثالثة بعد منتصف الليل , طريقته في القراءة في مكتبة القسم الداخلي رقم (1) واعني به كلية القانون اليوم في ساحة سعد , عادة تتمثل طقوس السيد الغالبي في مكتبة القسم الداخلي بإطفاء الأنوار وقيامه بإشعال شمعة لكي تحترق وتحرق معها كل آهاته وهمومه فيلفظ القلم أنفاسه المكبوتة ويلقى من مداده كتابات جميل الغالبي الحبلى بالألم والهموم على شكل قصائد ومذكرات وأفكار مشتته هي اقرب إلى أساطير سومرية جنوبية التكوين. عندما يشرب الخمرة يكون أكثر جمالية وانشراح من باقي الأيام , في حادثة رواها لي صديق حميم للأخ العزيز جميل الغالي , يقول فيها أن جميل جاء أحد الأيام الى قاعة المحاضرة منتشي وهو يرتدي ملابسه الاعتيادية , فقال له الأستاذ المحاضر ـــــ ماذا بك يا جميل لما لا ترتدي لباس الزى الموحد الجامعي ( بالمناسبة كل شيء كان جميل في ذلك الزمان – تصور حتى اللباس الجامعي كان جميلا لأنه موحد لايعرف التفرقة العنصرية , الفقير والغني يشتركون في لون البزة المشتركة) , قفز جميل كما يروي لي الصديق الحميم من مقعد القاعة متجها إلى القسم الداخلي , وفي الطريق صادفته إحدى الفتيات الزميلات قائلة له : كيف حالك يا سيد جميل , أجابها الغالبي – هلو أبو جواد .

سألته يوما هل أنت متزوج ياجميل – قال لا اعرف بإمكانك أن تسأل أخي!.

كان جميلا سرياليا في كل شيء حتى في طريقة مأكله وملبسه وطريقة سلامه وهلوساته – أحيانا يرد عليك السلام وأحيانا يشعر بالضيق عندما تحييه , أتذكر ولمرات عديدة عندما كنت أحييه صباحا أو مساءا يرد عليّ التحية ولكن بأشكال متعددة , فمرة يقول لي هلو حسين , ومرة هلو علاوي , ومرة هلو صادق , ومرة هلو أحمد , ومرة هلو كامل , ومرة هلو أبو مصطفى, ومرة يستوقف ويقول عفوا نسيت أسمك مو انته عقيل , وأحيانا يزجرني بأسلوب جاف قائلا ليش تسلم عليّ , وعند المساء يأتي ويعتذر ويقبلني وكأنه يشعر بذنب اقترفه ويدعوني لتناول الشاي معه.

كنت كثيرا ما أصادفه في أروقة الكلية وادعوه لتناول وجبة طعام الغداء معي وفي أثناء الجلسة القصيرة يسمعني بعض من قصائد السياب أو بعض من الشعر الشعبي لعريان السيد خلف , أضافه إلى بعض النكت المثيرة التي يسكبها على مسامعي بجمالية سرياليته المحببة ويجعلني أتناسي أوجاع الزمن لبرهة قصيرة.

صادفته بعد زمن طويل وبعدما تصافحنا وتعانقنا, سألته كيف حالك يا صديقي وكيف تسير الأمور معك في ظل الحصار الاقتصادي الجائر على الشعب العراقي – قال بكل هدوء: الحمد لله مازلت أقضم الخبز اليابس.

افترقنا وافترقت خطواتنا وابتعدنا وتباعدت محطات لقاءاتنا ولكن بقى للذكرى والذكريات صدى وحنين كأنه حنين مسافر أتعبته المحطات , انه زوادة الأصدقاء في زمن يشح به الأصدقاء فتبقى الذكرى عالقة في الضمير تعزف نغماتها مدى الزمان كأنها غذاء الأيام مثلما تبقى الموسيقى غذاء الروح.

November, 2007
السويــــــــــــــــــــــــــد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء


.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق




.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش


.. -إيقاعات الحرية-.. احتفال عالمي بموسيقى الجاز




.. موسيقى الجاز.. جسر لنشر السلام وتقريب الثقافات بين الشعوب