الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حبل سري في يوم مطير (*)

عبدالحسين الساعدي

2008 / 1 / 31
الادب والفن


لم تَشهدْ بغدادُ موسِماً شَتَوياً متأخرِاً مثلَ الموسمِ الحالي ، فبعدَ إنْ أجَدبتِ السماءُ وتأخَّر المطرُ بشَكلٍ لافتٍ للنظر ، اليومَ بدأتْ حَبّاتُ الرَذاذِ تتحولُ تدريجياً الى قَطَراتٍ من المطرِ لتتساقطَ على البيوتاتِ والأشجارِ معلنةً بدايةَ موسمٍ شَتَويٍ جاءَ متأخِراً نسبياً ، وأخَذتْ رائحةُ الترابِ والأشجارِ تملأ ُ أنفي و تُعيدُ صوراً عن طفولتي عندما كنتُ أركضُ في الزُقاقِ مع أولِ نزولٍ للمطرِ لأَشَمَّ رائحةَ التراب ، حيثُ جُلَّ أزقتِنا غيرُ مبلّطة ، و كانت هذه الرائحةُ تُسكرُني ، في حينَ كان الصِبيةُ من الأولادِ والبناتِ يتقافزون وهم يغنّون
مطر مطر شاشا ............ عَبرَ بناتِ الباشا
مطر مطر حلَبي ............. عَبرَ بناتِ الجلَبي
رُحْتُ أُطيلُ التحديقَ في زجاجِ السيارةِ التي تُقلُّني ، بينما راحَ ذِراعُ الماسحةِ يتمايلُ يَمنةً ويَسْرةً ، وهو يُزيحُ الحبّاتِ المتساقطةَ على البلّورِ ، والسائقُ يحُاول جاهداً الإسراعَ في قيادةِ السيارةِ لكي يصلَ الى المَرْأَبِ الرئيسيّ
قلتُ في نفسي : بالرغمِ من وجودِ وقتٍ كافٍ للوصولِ الى مكانِ عملي ، ولكن فقد رجوْتُ أنْ أصلَ قبلَ أنْ يسقطَ المطرُ بشَكلٍ غزير، وعندَها سيكونُ وضعي مُزْرياً وتبتّلُ ملابسي وسأُصابُ بوعكةٍ صحيةٍ جديدةٍ بعدَ إنْ شُفيتْ وعادتْ عافيتي إثْرَ وَعْكةٍ صحيةٍ ألّمت بيَّ نتيجةَ سفري الأخيرِ لتصويرِ أحدِ الأفلام .
ترجلتُ من السيارةِ عندَ ناصيةِ الشارع ، وأنا قلقٌ جداً خَشيةَ أنْ يُفاجئنَي المطرُ ، وبينَما أنا أحُثُّ السيْرَ بأتجاهِ عملي أستوقفَني كالمعتادِ بائعُ الصحفِ الصباحية ، الذي أحتمى من المطرِ تحت سقفِ أحدِ المحالِّ الموجودةِ في الصفِ المواجهِ للشارعِ العام ، وقد أبتلّتْ ملابسُه وأخذَ يرتجفُ من البردِ ، كنتُ أسمّيهِ ( أبا جاسم ) ، ولا أدري هل كان له ولدٌ بهذا الأسم ؟ ، لكنّ سكوتَه كان يُشجعُني على الأستمرارِ في أنْ أكنّيهِ بهذه الكُنْية ، أماّ هو فكانَ يُحييّني يومياً ويُكنّيني بـ ( أبي حيدر ) في حينِ لم يكنْ لي ولدٌ بهذا الأسم ، وكنت أسكُتُ كيما لا أخدُشُ شعورَه .
دس ( أبو جاسم ) بيدي الصحيفةَ اليسارية َالمفضَّلةَ عندي دونَ سواها ، وهو يقولُ مبتسِماً وكاشِفاً عن فمٍ أَدْردٍ : إنّها ( دسمةٌ ) هذا اليوم َلا تتُركْها تفوتُكَ !!!
أبتسمُ في وجهِه علامةً عن الرضا والأستحسان
وتَمتمْتُ بصوتٍ خفيضٍ: رائعٌ رائع
نَقَدْتُهُ النقودَ في يدهِ فأحسَسْتُ ببرودتِها بسببِ الجوِ البارد ، و مضيْتُ في طريقي المعتاد.
أخذ َالمطرُ يسقطُ فوقَ البيوتِ المتراصّةِ على جانبيْ الشارعْ فراحت تغتسلُ من الترابِ الذي كسا جُدرانَها طَوالَ موسمٍ صيفيٍ قائظٍ مغبّرٍ وأحالَ ألوانَها البهيةَ الى لونٍ رماديٍ يوحي بأنّ المكانَ مهجورًٌ .
بدأتُ السماءُ تَزيدُ من زخّاتِها ، وصارت ْحباتُ المطرِ هذه المرةَ أكبرَ وأسرع ، أخذتُ ألوم نفسي لأني تماهلتُ في عدمِ جلبِ مِظلّتي المَطَريةِ التي أحملُها عادةً في مثلِ هذه الأيام ، وأنا أتبخترُ بها وكأني المحقِّقُ الأنجليزي ( شارلوك هومز ) ، فما كان مني وأنا في هذه الحالةِ إلاّ أنْ أستعينَ بالصحيفةِ اليوميةِ المشتراةِ قبل ثوانٍ كيما أحتمي بها وَرددْتُ مع نفسي قولَ اللّه تبارك َ وتعالى على لسان النبي موسى ( عليه السلام ) قالَ
(هيَ عَصَايَ أَتَوكّأُ عَلَيهَا وَأَهُشُّ بِِهََا عَلَى غَنمَيْ وَلِيَ فيَها مآرِبُ أُخَرى )
بدتْ لي المسافةُ بينَ بدايةِ الشارعِ ومكانِ عملي بعيدةً جداً ، بعدَ إنْ كنتُ أقطَعُها يومياً بأربعِ دقائقَ ، وجعلتُها بمنزلةِ الرياضةِ الصباحيةِ التي تبعثُ السرورَ والنَشوةَ والحيويةَ عندي ، وهذه الوجوهُ التي أراها الآنَ وقد بدتْ عليها علاماتُ الذُهول والتجّهم ، وبعضُها الآخرُ منها يخَالُ لي أنيّ آراهُ سعيداً وهو يمشي تحتَ المطر.
لا أعرِفُ لماذا بدأتُ أنظرُ بعينِ الشَفقةِ والحُزْنِ على هولاءِ المارّةِ وهم يُسرعَون في المَشْيِ وبعضُهم يهروُل ، لأنّهم لا يملِكونَ صحيفةً مثلي لِيقَوْا أنفسَهم من المطر ، كمْ تمنّيتُ أنْ يحصُلوا على واحدةٍ منها ، وعسى أنْ تكونَ لهم فيها مئآربُ أخرى ، قلت:
قد لايُحبونَ القراءةَ ، وقد لا تكونُ لهم القدرةُ على شرائِها يومياً ، أو ربِّما هي غيرُ متوافرةٍ في طريقِهم .
أخذَ المطرُ يشتُّد أكثرَ فأكثرَ ، مرّتْ بجانبي الفتاةُ ذاتُ الشعرِِ الداكنِ السَوادِ ، سوادٍ كأشجارِ الأَبنْوسِ والبَشَرةِ البيضاءِ المغطّاةِ بالنَمَشِ ، وقد أحمرّتْ وجَنتاها من البردِ ، لم أَعَبأْ في هذا اليومِ بِرائحةِ عِطرِها الممَّيزِ الطاغي على المكانِ الذي تَمرُ فيه ، كانتْ ذاتَ قَوامٍ رشيقٍ أهيفَ وصدرٍ ناهدٍ ، تمشي الخُيَلاءَ وبغرورٍ واضح ، تحاولُ أنْ تَسْتَرقَ النظرَ للآخرينَ دونَ أن تلفِتَ النظرَ ولكنّني كنتُ أرصُدُها بطريقتي الخاصةِ حتى عَرفتُ عنها ذلك .
شدَّتنْي رائحةُ المطرِ والترابِ الملتصقِ بالأسفلتِ و رائحةُ أشجارِ الرارنجِ والزيتون ، التي تمُدُ عُنقََها بفضولٍ من خلفِ أسوارِ البيوتِ فأستَعيدُ الصورةَ نفسَها والموجودةَ في عقلي الباطن .
تحتَ سقيفةِ أحدِ أبوابِ البيوتِ يقفُ صبّيٌ في السادسةِ من عمرِه ، يعتمرُ فوقَ رأسهِ قبّعةً من الصوفِ معمولةً في البيتِ وعلامةُ الفرحِ والرضا باديةٌ عليه ، وقد مدَّ يدَه في جيبِه ، وأخذَ يزَفِرُ بشدةٍ ليُشاهدَ البخارَ المنبعثَ من جوفِه وهو يضحكَ ، قلتُ في داخلي وأنا أنظرُ إليه :
آهٍ يا صغيري يا عبدَالحسينِ أينَ أقرانُكَ وأتَرابُك في مثلِ هذا اليومِ لتُغنّوُا وتُنشدوا
مطر مطر شاشا ....... عَبر بناتِ الباشا
مطر مطر حلَبي ....... عَبر بناتِ الجلَبي
توقّفَ الصبيُّ عندَما شاهدَني وأَنا أرمُقهُ بنظرةِ فضولٍ ، أنسحبَ على إثَرِها الى داخلِ الدارِ مسرعاً وهو يضحكُ مُدارياً خَجَله .
لم أستطِعْ منعَ ساقيَّ من الأسراعِ حدَّ الهرَولةِ لكيْ أصل البابَ الرئيسيَ ، الحراسُ مسمَّرونَ في البابِ غيرَ مبالينَ بزَخّاتِ المطرِ الذي بدأ يَشتدُ وكأنّه آنبَجَسَ من عيونٍ حبيسة ، ألقي تحيةَ الصباحِ على عَجَلةٍ ، فأسمعَ الردَّ بارداً ببرودةِ الجو .
وما إنْ وصلتْ حتى دخلتُ مكتبي الخاص لأَرميَ بالصحيفةِ على الطاولةِ بعدَ إنْ تشرّبتْ بماءِ المطر ، أخذتُ أنظُر في المِرآةِ وأنا أنفضُ شَعَراتِ رأسي الأشيبِ الفِضّي الذي ورِثْتهُ مبكِّراً عن والدي وقد أصابهَ البلَلُ نتيجةَ تخلِّله بحبّاتِ المطر .
كانَ جوُ الغرفةِ دافئاً الى حدٍ مّا ، أحسسْتُ بشيءٍ من الأمانِ والراحةِ والرضا لأنّني كنتُ أحتمي بالصحيفةِ وإلا ّلكَان ما كان ، أخذتُ أستعيدُ وضعي الطبيعي ، ألقيتُ بنفسي فوقَ الكرسيِ الموجودِ خلفَ المكتب ، أمتّدتْ يداي الباردتانِ بشَكلٍ تَلقائي الى جهازِ الحاسوب ، وهما تداعبانِ الأزرارَ وكأنهما تعزِفانِ فوقَ مفاتيحِ البيانو لِتُعلنا بدءَ يوميَّ التقليديِ في الكتابةِ والقراءة .
بدأتُ أتصّفحُ بريدي الألِكتروني ، كانتْ هناكَ رسالةٌ قد وصلتْ من زميلةٍ كاتبةٍ صَحفيةٍ وقاصّة ، وقد بَعثتْ لي بقصةٍ عنوانُها ( الرِضا ) وهي تَحكي عن أمٍ أرملةٍ فقيرةٍ ضّلتْ طفلَها الصغيرَ الوحيدَ بعدْ إنْ خلَعتْ بابَ الغرفةِ الخاليةِ من السقفِ لِتقيه من زَخّاتِ المطرِ التساقطِ، ليقولَ الطفلُ لأمِه بعدَ إنْ عَلتْ على وجهِه إبتسامةُ الرضا ، وكأنه ينتمي الى طبقةِ الأثرياء
(ماذا ياترى يفعلُ الناسُ الفقراءُ الذين ليس عندَهم بابٌ حينَ يسقطُ عليهم المطر )
هالَني ما قراتُ في هذه القصةِ ، حدثتُ نفسي قائلاً :
كيفَ عَرفتْ زميلتي بقصةِ المطرِ والصحيفةِ اليوميةِ التي باعَها ( أبو جاسم ) وأحَتمى بها الطفلُ عبدالحسين وقد غَمرتْه الشفقةُ والحزنُ على الآخرينَ والرضى والقناعةُ على كلِ شيء ، أدركتُ شيئاً مّا يحدثُ الآنَ وإنّ سلاماً وتناغماً داخلياً قد تملّكاني ، وراودَني شعورٌ بأنّ حبلاً سرياً يربِطُني مع كاتبةِ القصةِ ربما كانتْ بدايتُه في عالمِ الذرِ وإمتدادهُ الى هذا اليومِ المَطير .
راقَني أنْ أُغمضَ عيني لأَغِطَّ في وَسَنٍ جميل ، أحسسْتُ حينَها كأنَّ المطرَ بدأ يتساقطَ داخلَ الغرفةِ وفوقَ رأسي مباشرةً ، ولكن هذه المرةَ لم أكنْ راغباً في أن أهرُبَ منه أو أضعَ فوقَ رأسي ما يقيني منه ، كنتُ بحاجةٍ لهذا الشعورِ اللذيذِ بالرِضى ليُخفّفَ عني الضغظَ النفسيَ والمِزاجَ العصبيَ ، اللذْينِ عِشتُهما ليلةَ أمسِ مضطرباً و زاداني أَرقا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) مهداة للزميلة الفاضلة راندا شوقي الحمامصي كاتبة قصة ( الرضا )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أون سيت - هل يوجد جزء ثالث لـ مسلسل وبينا ميعاد؟..الفنان صبر


.. حكاية بكاء أحمد السبكي بعد نجاح ابنه كريم السبكي في فيلم #شق




.. خناقة الدخان.. مشهد حصري من فيلم #شقو ??


.. وفاة والدة الفنانة يسرا اللوزي وتشييع جثمانها من مسجد عمر مك




.. يا ترى فيلم #شقو هيتعمل منه جزء تاني؟ ??