الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دور العامل الخارجي في إدخال العرب إلى الحداثة

العفيف الأخضر

2003 / 12 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


ثلاث عوائق هائلة للحداثة السياسية، الإنسانية والعلمية في المجتمعات العربية هي عدم الفصل بين الديني والسياسي، وبين قيمتي الحلال والحرام وقيم حقوق الإنسان وبين الدين والعلم.
فصل الدين عن السياسة مازال غير مقبول من الوعي الإسلامي لأنه منذ تحول الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة إلى دين ودولة قيد التكون تواصيا بأن تكون الدولة الإسلامية يد الدين الضاربة والدين ضمانة شرعيتها. فصلها مدخل إلى الحداثة السياسية، بما هي تعددية سياسية وإعلامية أي تنظيم عقلاني للاختلاف، يصطدم بالوعي الإسلامي المسكون، كأي وعي تقليدي، بثقافة الإجماع التي زادها جرح الفتنة الكبرى تشنجاً فلم تعد ترى الأمة إلا كالبنيان المرصوص. . كما أن الحداثة السياسة بما هي دولة مؤسسات، تعطي لهذه الأخيرة سلطات غير مسبوقة علي إرادة الحاكم وتختزل هذا الأخير إلى مجرد دور قابل للاستبدال، تصطدم بثقافة العلاقات الشخصية بين الحاكم والمحكوم. أيضاً الحداثة السياسية بما هي تداول النخب والأجيال سلمياً علي الحكم تصطدم بثقافة سياسية أبوية مهووسة بعبادة البطل المنقذ و ب "الأب الاجتماعي"، الذي يشتد عليه الطلب خاصة في الأزمات و ب "الخليفة الذي لا يعزله إلا الكفر البواح [=الصريح]".
باستثناء عبد الإلاه بنكيران في المغرب مازال زعماء ومرشدو حركات الإسلام المعادي للعقل، كالخلفاء، لا يعزلهم إلا الموت، وباستثناء أحمد المستيري، مؤسس حركة الاشتراكيين الديمقراطيين" ومحمد بلحاج عمر، مؤسس "حزب الوحدة الشعبية" في تونس ومحمد بوستة، زعيم "حزب الاستقلال في المغرب"، ووعد جميل من عبد الرحمن اليوسفي، زعيم "الاتحاد الاشتراكي" المغربي بالانسحاب من زعامة الحزب في المؤتمر القادم، لم يدخل تقليد التداول الديمقراطي على الاضطلاع بالمهام إلى أحزاب المعارضة الديمقراطية التي ما انفكت تطالب بالتداول على الحكم دونما تفكير في تقديم البرهان على إمكانيته ومصداقيته داخلها هي نفسها.
كل من ذاق مخدر الحكم يطلب منه المزيد. فالرغبة في السيطرة على الآخرين وتطويعهم وإخضاع إرادتهم لإرادته المطلقة ترضي ساديته وجنون عظمته وعقدة اضطهاده. هذه الرغبة التسلطية شبه عامة إذ نلاحظها حتى لدي الأطفال الذين يسعون إلى السيطرة على من هم أصغر منهم. في البلدان الديمقراطية تشكل المؤسسات، سيادة القانون، حرية الإعلام، ثقافة نقد الحكومة وتقاليد التداول المستبطنة من الجمهور ضوابط جدية تحد من الظمأ الذي لا يرتوي إلى السلطة والرغبة في الطغيان المتأصلين في النفس _ أو على الأقل في بعض النفوس _ البشرية. أما في العالم العربي حيث لا وجود لمثل هذه الضوابط، فإن الرغبة في سيطرة الإنسان على الإنسان وقسوة الإنسان على الإنسان كثيراً ما تتحول إلى هذيان دموي لا يبالي بآلام الآخرين كما في عراق صدام ومقابره الجماعية.
الحداثة بما هي حداثة قيم العقل تثير أيضاً مشاكل للوعي الإسلامي الذي مازال، بعنصره السائد، مغلقاً على الحداثة القيمية التي قدمت العقل علي النقل. وهكذا تصدم فيه البنية السحرية التي تقبل بأن يأتي الشيء من لا شيء "كن فيكون" وبأن ‘يعطي الواقع نتائج مخالفة لقوانينه. تقاوم هذه البنية اللاعقلانية كل نداء عقلاني حتى ولو كان نداء العقلانية الدينية، كعقلانية المعتزلة والفلاسفة المسلمين، التي صالحت بين الإيمان والعقل بواسطة التأويل العقلي للنص الديني. هذا الوعي الإسلامي التقليدي يعبر عن نفسه في التعليم والإعلام وعلي لسان قادة الإسلام المحارب للعقل :"لقد تشكلت، يقول راشد الغنوشي، أجهزة التلقي في أمتنا على نحو يجعلها لا تستجيب إلا لنداء العلماء الذين نثق في دينهم ويخاطبونها باللغة التي تفهمها، لغة الحلال والحرام (. . ) لغة الجنة والنار" (الفصلية الباريسية "مرايا" خريف 2002). مثل هذا الوعي لا يتسع إلا لدولة دينية خمينية، ترابية أو طالبانية تطبق العقوبات البدنية كعربون عن شرعيتها.
حقوق الإنسان التي لا حداثة سياسية منذ الآن بدونها تصطدم بهذا الوعي الإسلامي المنكمش على نفسه الذي لا يعرف ولا يعترف إلا بقيمتي الحلال والحرام والذي مازال التعليم والإعلام والدعاة والوعاظ وخطباء الجمعة يعيدون، منذ قرون، إنتاجه الموسع دون معارضة بعد هزيمة العقلانية الدينية الاعتزالية والفلسفية التي سجلت بداية انحطاط الحضارة العربية الإسلامية.
ساد وعي ديني مماثل في كاثوليكية القرون الوسطي عارضة فلسفة الأنوار. في الواقع هذه الفلسفة لم تغلغل في الوعي الجمعي لتوليد وعي بديل إلا بواسطة الصحافة التي عممتها على جمهور القراء وبسطتها لهم. وهو دور يمكن أن تقوم به اليوم فضائية تنويرية ترد على ظلاميات "الجزيرة" القطرية و"اقرأ" السعودية اللتين تتنافسان على تغبية القارئ. الفضائية الأخيرة أسسها رجل أعمال سعودي. ألا يوجد في العالم العربي كله ثري أو ثريان يتعاونان على إنشاء فضائية تنويرية واحدة ؟.
ضرورة الفصل بين الدين والعلم وبين الدين والإبداع الأدبي والفني لا تقل أهمية عن ضرورة الفصل بين الدين والدولة وبين القيم الدينية والقيم الإنسانية. التفسير الديني للظواهر مسكون دائماً بالخوف من منافسة التفسير العلمي لها. نعرف ماذا فعلت محاكم التفتيش بالعلماء. لكن "حلف" فلاسفة التنوير وملوك"الاستبداد المستنير" والصحافة الحرة فرض أخيراً الوعي بضرورة الفصل بين البحث العلمي والمؤسسة الدينية. وهكذا استطاع شارل داروين، في ظل الملكة فيكتوريا المتزمتة والمتسلطة، أن ينشر أبحاثه العلمية عن تطور الأنواع وخاصة مأثرة حياته "عن أصل التطور بواسطة الانتخاب الطبيعي" (1859) دون أدني مضايقة قضائية أو فتوى دينية بقتله أو محاولة قتله كما فعلها الإسلاميون مع فرج فوده ونجيب محفوظ! أما في "دار الإسلام" فقد حكم شيوخ بانجلادش بالموت على تسلية نصرين من أجل رواية وأصدر الأزهر في 2000 قراراً بمنع الكتابة، تحت طائلة المصادرة أو المحاكمة، عن نظرية التطور!.
خوف الدين من منافسة التفسير العلمي للظواهر يتحول في الإسلام إلى ‘رهاب. لماذا؟ لأن نبينا لم يجترح معجزة تضاهي معجزتي عيسى وموسى، شق البحر بعصا وإحياء الموتى، كما رواها القرآن نفسه. مما دفع جزء من الفقهاء إلى التعويض عن شعورهم بالدونية الدينية أمام اليهود والمسيحيين إلى الادعاء بأن معجزة محمد هي تطابق الحقيقة العلمية دائماً مع الحقيقة القرآنية المطلقة. وهكذا ادعى ابن القيم الجوزية، تلميذ ابن تيمية، في "الودود في أحكام المولود" بأن "علم الأجنة" القرآني مطابق لعلم الأجنة عند جالينوس، ومازال أطباء إسلاميون ينشرون كتباً لإثبات اتفاق القرآن مع علم الأجنة المعاصر! بالمثل ادعى طنطاوي جوهري في تفسيره أن القرآن سبق الفيزياء الحديثة إلى اكتشاف الذرة. أما منذ السبعينات فقد غدا التأكيد على التطابق بين القرآن والعلم فكرة ثابتة لدى النخبة الإسلامية كدفاع لا شعوري ضد شكها في دينها. منذ هذا التاريخ ‘يعقد في القاهرة دورياً "مؤتمر الإعجاز العلماني للقرآن". كما تخصص الإعلام الديني في نشر أكاذيب بيضاء عن تطابق القرآن والعلم. لم يتمالك الصيدلاني التونسي، صلاح الدين كشريد، نفسه، في ترجمته القرآن إلى الفرنسية، عن الأخذ بها لتأكيد "الإعجاز العلمي في القرآن" مثلاً يعلق على:"وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا" (3 الرعد) :"نعلم دور الجبال الجوهري في تثبيت القارات وتوازن الكرة الأرضية" وعلي:"فإن خلقناكم من تراب، ثم من نطفة ثم من علقة":"الجنين ملتصق بمشيمة الرحم التصاق العلقة بالجلد"! ويعلق على:" وخلقناكم من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب" (7 الطارق)، "من بين الصلب [للرجال] ومن بين الترائب [للنساء]. لكنه يمر مر الكرام على آيات "علم الأجنة القرآني"في سورة المؤمنين، الآيات 11، 12، 13، 14 التي قال ابن القيم الجوزية أنها متطابقة مع علم الأجنة في طب جالينوس الذي لم يعد متطابقاً مع العلم الحديث!
لو أن صلاح كشريد ومن لف لفه من المهووسين ب "الإعجاز العلمي للقرآن" تعقلوا قليلاً لأخذوا باقتراح بنت الشاطئ بالفصل بين القرآن والعلم، لأن القرآن ليس موسوعة طبية ولا تاريخية أو فيزيائية. . بل هو، كما قالت:"كتاب روحي" حصراً لا يحاسب على أخطائه التاريخية أو الطبية لأنه ليس كتاب تاريخ ولا طب بل يحاسب فقط على أخطائه الروحية وتضيف بنت الشاطئ:"فهل فيه خطأ روحي واحد؟". لو استمعوا لبنت الشاطئ لقدموا خدمة للقرآن والعلم معاً ولخلصوا الوعي الإسلامي من الحرج والتناقض اللذين يكابدهما أمام كل اكتشاف علمي لا يتطابق بالضرورة مع "حقائق" القرآن العلمية. وهكذا فالاستنساخ أدخل الوعي الإسلامي في أزمة هاذية: المؤرخ التونسي الإسلامي محمد الطالبي كتب أمام صدمة الحدث العلمي التي أفقدته توازنه: نعم "الاستنساخ جاء به القرآن"! أما رئيس علماء السعودية، العثمانيين، فقد أصدر فتوى في مستنسخي "دولي" :"تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقيل ‘يقتلون" لماذا؟ لأنهم كذبوا حقيقة إسلامية "علمية" مطلقة: الخلق من ذكر وأنثي ! أما الإعلام الديني المنفلت من عقاله فقد واصل كعادته الكذب علي جمهوره لمدة سنوات قائلاً لهم:"وأخيراً اتضح أن استنساخ النعجة دولي لم يكن سوى كذبة فالله خلقنا من ذكر وأنثي ولا يستطيع العلم تحدى إرادته"!
لا مخرج للوعي الإسلامي من محنته القاسية مع العلم إلا إذا قبل اقتراح بنت الشاطئ بالفصل بين القرآن والعلم. وهكذا يحرر العلم من رقابة الدين التي ‘تعد اليوم جريمة ضد العلم ويسعى انطلاقاً من القرآن المحصور في بعده الروحي إلى تأسيس أخلاق إسلامية تقوم على التضامن مع المستضعفين في كل مكان، في عالم فاقد لتوازنه يزداد فيه الأغنياء غني والفقراء فقراً؛ وعلى الرحمة، هذه الأناقة الروحية، هذا الحنان الأخلاقي الذي يشمل بعنايته الإنسان حيث كان على غرار الأخلاق المسيحية المعاصرة التي يرمز لها بامتياز "الصليب الأحمر" الذي يساهم في تخفيف آلام الإنسان المعذب بقطع النظر عن معتقداته. لن تكون الأخلاق الإسلامية أخلاقاً حقاً إلا إذا تجاوزت ثنائية الكفر والإيمان التي تدينها مواثيق حقوق الإنسان وتجاوزها الوعي الإنساني الجمعي. تفسير الإمام الرازي لآية:"وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" (117 هود)يصلح مرجعية لتجاوز هذه الثنائية التي لم تعد من هذا العالم:" أن الله، يقول الرازي، يعذب القرية لا على كفرها بل على ظلمها فالله ‘يثيب القرية الكافرة العادلة و‘يعذب القرية المسلمة الظالمة". وهكذا تغدو ثنائية مكافحة الظلم حيث كان والعمل من أجل العدل في كل مكان هي إحدى ركائز الإنسانية الإسلامية الجديدة.
أتمني إحلال هذه الآية مع تفسير الرازي لها في كتب التعليم الديني محل آيات التكفير والجهاد والاستشهاد.
تاريخياً لم تدخل الحداثة بلداً إلا بواسطة نخبته، أي الاقليات السياسية، والفكرية والثقافية الشجاعة والمؤثرة في الوعي العام. هذه الشجاعة هي ما تفتقر إليه معظم نخب العالم العربي.
إحجام النخب أو عجزها عن الإصلاح يعطي بدور العامل الخارجي في إدخال الحداثة إلى العالم العربي أهمية وتأكداً. مما يجعل هذه المهمة أقل إثارة للمانعة هو وجود طلب داخلي على الحداثة خاصة لدى القطاع المتعلم من الشباب والنساء والأقليات المضطهدة في العالم العربي.
الشراكات الاقتصادية والثقافية والعلمية والقيمية والسياسية مع الغرب حكومات ومجتمعات مدنية واعدة بأن تكون بوتقة تلاقح ثقافي وحداثة عبر مساعدة العالم العربي بذكاء ونجاعة على نزع فتيل قنبلة الانفجار السكاني ومكافحة التمييز ضد المرأة والأقليات وإصلاح التعليم وتعزيز المجتمع المدني بمكوناته الاقتصادية والإنسانية [جمعيات حقوق الإنسان والدفاع عن المرأة والأقليات] والإعلامية والثقافية ودعم التنمية الاقتصادية التي تشكل رافعة الحداثة ومفتاح الأمل للشباب اليائس من المستقبل(= الحصول على عمل، وسكن وأسرة) فينقل انتماءه من نخب بلده التي أحبطته إلى الحركات الشعبوية الدينية لتدمير المجتمع الذي دمر مستقبله الخاص.
تلعب الشراكات بين المجتمع المدني في العالم العربي والغربي دوراً تحديثياً بامتياز. لأنها تشكل بوتقة للتلاقح الثقافي الطوعي الذي هو من أكثر عوامل إدخال الحداثة نجاعة، في هذا المنظور يشكل التنسيق واللقاءات الدورية والمؤتمرات والندوات المشتركة والجامعات الصيفية الحرة مكاناً مثالياً للدفاع عن القيم المشتركة والمثل الإنسانية.
استطاعت النخبة التونسية الشجاعة تحديث قوانين الحالة الشخصية في بداية الاستقلال(1956) وتحديث التعليم الديني في بدايات التسعينات بلا تدخل خارجي لأنها كانت تمتلك مشروعاً مجتمعياً عقلانياً وحديثاً. أما معظم النخب العربية اليوم فتحتاج إلى تدخل خارجي مدروس لإخراجها من خوفها الأسطوري من المواجهة مع إسلامييها المستنفرين وخلق ديناميك يساعد على تخليص المجتمعات العربية من قدامتها وانسداداتها وعجزها المزمن عن تحديث قوانينها الشخصية التي عمرها 15 قرناً وتعليمها الديني ودساتيرها الطائفية التي تجعل شريعة العقوبات البدنية مصدراً من مصادر التشريع !.
"الاستثناء العربي الإسلامي" من الدخول إلى الحداثة العالمية، بذريعة "خصوصيتنا الدينية" المغلقة أمام مؤسسات وعلوم وقيم وسلوكيات القرن الحادي والعشرين، لم يعد مقبولاً عالمياً وحتى محلياً لأنه غدا كارثة مزدوجة عالمية ومحلية. 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التبوريدة: فن من الفروسية يعود إلى القرن السادس عشر


.. كريم بنزيمة يزور مسقط رأس والده في الجزائر لأول مرة




.. بعد إدانة ترامب.. هل تتأثر فرص فوزه في الانتخابات الرئاسية ا


.. لابيد يحث نتنياهو على الاستجابة لمقترح بايدن بخصوص اتفاق غزة




.. الوسطاء يحثون إسرائيل وحماس على التوصل لاتفاق هدنة في غزة