الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أصالة العبودية

سعدون محسن ضمد

2008 / 1 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


للمثقف وظائف كثيرة يؤديها، أكثرها خطورة على الناس هي تلك التي يفكر فيها بالنيابة عنهم. وذلك عندما يكتسب شرعية مركبة (سوبر شرعية) كأن يكون على قمة المؤسسة الدينية أو على قمة المؤسسة السياسية.
المهم في هذا الموضوع أن الرأي الخاص والفردي الذي يخرج به هذا الصنف من المثقفين يتحول ـ بفعل التقديس ـ إلى رأي ناجز يقبله ويعمل وفقه جمع هائل من الناس. وهنا تكمن المفارقة، فعندما يخطئ هذا المثقف تنقلب معادلة النيابة بينه وبين الناس، فالناس هم الذين ينوبون عنه هذه المرة لكن بدفع ضريبة خطئه هو.
هناك قاعدتان فقهيتان تحكمان عمليات استنباط الأحكام الشرعية، قاعدة قديمة يُعبر عنها بعبارة: (أصالة البراءة) وقاعدة حديثة يُعبر عنها بعبارة (أصالة الاحتياط). القاعدة الأولى تقول بأن الأصل في السلوك البشري والحياة أنهما مباحتان، ولا يجب على الإنسان أن يشكَّ بحلية سلوكه. إلا عندما يقع تحت ملاحظته دليل متين يشير إلى الحرمة. على أساس هذه القاعدة لا نكون مطالبين بأن نبحث عن حرمة الأشياء، لأن الله أباح لنا كل ما لم يحرمه بنص ثابت منه. والجزء الأهم بموضوع هذه القاعدة أنها تجعل العلاقة بين الإنسان وربه علاقة حرة ومفتوحة وخالية من المحاسبات التي تبدأ بلحظة البلوغ ولا تنتهي بلحظة الموت، الله ومن خلال الثقافة التي تبثها هذه القاعدة متسامح لهذه الدرجة، بمعنى أنه لم يخلق الإنسان من أجل أن يتشفى بشيه على نار لا يخمد لهيبها أبداً، بل خلقه ليمنحه الفضاء الكافي لبنا حياته والتحكم بخياراته.
أما القاعدة الثانية فتقول بأن الأصل في السلوك البشري والحياة أنهما حرام. ويجب على الإنسان والحال هذه أنه لا ينقل قدم عن موطئ قبل أن يتحرى عن حرمة الموطئ الجديد. الثقافة التي تبنيها هذه القاعدة ثقافة مرتابة شكاكة سلبية وغير قادرة على البناء الحضاري. لأنها تنظر للغاية من خلق الإنسان من منطق الخطيئة والعقاب. والرب الذي ترسمه، رب لا يعنيه شيء أكثر من عدِّ هفوات الإنسان ومتابعة أخطائه. اللافت في موضوع هذه القاعدة أن المثقف الذي أسس لها انطلق من دليل يقول بأن العلاقة بين الله والإنسان تشبه العلاقة بين العبد وسيده، وكما أن على العبد أن لا يتصرف أي تصرف قبل أن يتأكد من موافقته لرضا سيده، فعلى الإنسان أن لا يفعل أي شيء قبل أن يتأكد من موافقته لرضا الله. والخطأ الذي وقع فيه هذا المثقف يقلب معادلة العلاقة بين الله والإنسان من كونها علاقة بين خالق ومخلوق إلى كونها علاقة بين مالك ومملوك. والفرق كبير، ذلك أن الله لم يشتر الإنسان، بل خلقه، السيد لا يشتري العبد إلا عندما يكون محتاجاً إليه، بمعنى أن الأصل في علاقة المالك بالمملوك هو حاجة المالك، ما يدفعه لأن يفرض على العبد منظومة سلوك مليئة بالممنوعات ومنسجمة مع رفاهيته على حساب نكد العبد. أما الأصل في علاقة الخالق بالمخلوق فهي الغنى المطلق ما يجعل الخالق يشرع لحياة مباحة، مؤسسة على منطق أن الله خلق الأشياء ليتمتع بها الإنسان، لا ليتحسر عليها. الغريب في الموضوع أن المشكلة لم تتوقف عند حدّ أن القاعدة الثانية مهدت الطريق أمام عملية تحريم جميع الأشياء، بل هي أيضاً كرَّست لثقافة العبودية التي تعاني منها ثقافتنا أصلاً. وليس غريبا بعد ذلك على ثقافة تتأسس على مثل هذه القاعدة الفكرية أنها تجعل العبودية نموذجاً يحكم كل نسق العلاقات الاجتماعية. فالأبن عبد لأبيه والجماهير عبيدة لقائدها والمكلفون عبيد لمراجعهم والشعب كل الشعب عبيد بحضرة الرئيس.
الذي أخطأ بإنتاج هذه القاعدة مثقف واحد، لكنها تُتَرجم الآن لسيل دافق من الأخطاء. وهذا لا يعني بأن علينا مطالبة المثقف بالكف عن التفكير، بل مطالبة الجماهير بأن تكف عن التعامل بمنطق أنها عبيد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أول مناظرة في فرنسا بين الكتل الانتخابية الرئيسية في خضم حمل


.. وساطة إماراتية تنجح بتبادل 180 أسيرا بين موسكو وكييف




.. استطلاع: ارتفاع نسبة تأييد بايدن إلى 37% | #أميركا_اليوم


.. ترامب يطرح خطة سلام لأوكرانيا في حال فوزه بالانتخابات | #أمي




.. -أنت ترتكب إبادة-.. داعمون لغزة يطوقون مقر إقامة وزير الدفاع