الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كلاب بافلوف والكلاب العراقية.الجزء الثالث

علي ثويني

2008 / 2 / 2
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


كلاب بافلوف والكلاب العراقية 3-5
د.علي ثويني
الجزء الثالث
الكلاب و التاريخ
لم يكن بافلوف رائد التجريب على الكلاب كما يشاع ويراد، فقد كان ثمة سرد غزير يخص الكلاب والغرائز في التراث الشرقي والإسلامي والعراقي الشعبي.و نجد قوانين العراق القديم قد راعت الكلب وأختصته من بين الحيوانات. وجدير أن ننقل ما جاء في محضر مباحثات الملك الآشوري آشور بانيبال مع مواطني مدينة بابل الخاضعة له: (أن بابل قلب المعمورة،وكل من يدخل إليها يحصل على امتيازات معينة. وحتى الكلب الداخل الى بابل يمنع قتله)( ).وهكذا أمسى عند العراقيين القدماء تكريم الكلب رمزا لسمو الحياة وقيمة البشر.
نجد وصفا للكلاب في الكتاب المقدس(العهد القديم) بأنه يهر ويدور في شوارع المدن ،و يأكل ما يرمى إليه ، ويلحس الدم المسفوك ، أو ينهش لحوم الأموات .ووصف بأنها تتجمع أحياناً وتهاجم الناس.وقد ورد إسهاب في ذكر مناقبها للرعاة حيث جل الأنبياء كانوا رعاة. ووصفت الكلاب بأنها تسكن مع الإنسان بيته و تلتقط الفتات الساقطة من مائدته. وقد لحست الكلاب قروح الفقراء المتسولين عند أبواب الأغنياء، الذين يستخدمونها في الصيد. وأعتبر الكلب نجس في الكتب المقدسة بسبب طعامها وفطرتها، وأثر الأمر في العقلية التي أتبعت نهج تراث الشرق القديم،وأمسى وصف "كلب" شتيمة كبرى أو حتى على من يأتون بتعاليم كاذبة. وورد في التوراة ، (مثل الكلب العائد إلى قيئه، يرجعون إلى الخطايا التي ادعوا ظاهرياً بأنهم تركوها إلى الأبد) ،أو الذين انحطوا إلى درجة اتباع الشهوات. وقد تعود اليهود المتأخرون أن يطلقوا اسم "كلب" على الأمم الأخرى سواهم، بسبب عدم طهارة هؤلاء بحسب شريعتهم ( ).
أما في القرآن فنقع على موقفا محاكيا للتوراة في وصفه لمن لايؤمن كما في قوله تعالى(وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ( ). وأهم ما ورد في القرآن هو ذكر كلب أهل الكهف الذين مكثوا راقدين ثلاثة قرون مع كلبهم بقدرة إعجازية، كما في قوله تعالى من سورة الكهف (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا)( ). ويوحي الكلب هنا الى صفة الرقم الزوجي أو المكمل للفردي،بما يرمزه تكامل لفردية الإنسان، (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا)( ).
ثمة صنف من الكلاب يستعمل في الصيد ممشوق وطويل وعالي الرأس والبوز يدعى (سلوقي)، ولا نعلم ما مدى علاقته مع أسم (سلوقيوس) ويعني العبد أو التابع وكذا الدولة السلوقية التي أنشأها ومكثت حتى حلول الدولة الفرثية و التي تبعتها الساسانية ثم الإسلامية.
. وسلوقس كان أحد قواد الأسكندر المقدوني الذي أكتفى بحصته في العراق والشام بعد وفات سيده المحتل في بابل عام 325 ق.م ،مثلما هي سلطة المتحاصصين اليوم على مبدأ (أنت لص وأني لص وأثنينا بالنص)، ومكثت (الكلاب السلوقية) تحمي سلطة الحصص.
ولا نعلم أن كانت الشعوب من غير العرب قد أطلقت أسم "كلب" على ذريتها في التاريخ، فلم نسمع في الثقافات الغربية ذكر لأسماء (دوك- هوند- كانه- شين) ..الخ. بينما تداول الغربيون أسماء حيوانات أخرى مثل: دب وثعلب وذئب وأسد وحتى خنزير..الخ. وتنغم مماليك مصر والشام بألقابهم الحيوانية القادمة من ثقافات تركية وتترية كما بيبرس ويعني الفهد، وقلاوون: ويعني البطة، ودوغان وشاهين ويعني الصقر.بيد اننا نجد العربي تداول تلك الأسماء وتنغم بأسم الكلب حصرا كما (كلب- كليب- جرو) وأطلقه على أعز أولاده ،حتى لنجد منهم ما صنف جد لقبائل عربية يعتد بنسلهم، مثل كلب بن ربيعة وكلاب بن ربيعة ومكلب بن ربيعة ابن نزار وكليب بن يربوع ومكالب بن ربيعة، ونعلم أن جد قريش يدعى(كليب) الذي جاء منه نبي الإسلام محمد(ص). وسمع الجميع عن بني هلال ومتاهتهم في الصحراء وتغريبتهم الى المغرب الإسلامي، ونتذكر بأن أحد أبطال تلك القصة كان أسمه(كليب) والآخر(مهلهل). ولدينا في العراق مازالت تتداول تسميه (صكبان) و أصلها فارسي،من مركب (سك) وتعني الكلب و (بان) الحافظ والصاحب، والصكبان هو المتولي أمر كلاب الصيد. وكانت الصكبانية في الدولة العثمانية بعد العام 1350م طبقة جند مستقلة عن الإنكشارية، ورافقوا السلطان في الحروب ورحلات الصيد.
ووجدنا من ضمن غزير ما كتب في التراث العربي الإسلامي كتاب الحيوان للجاحظ الذي جاء فيه الكثير من ذكر للكلاب،مسقطا إياها على الإنسان. وثمة من تطرف في تشيعه للكلاب،ووجدنا الأمر قد دون في كتاب يقرأ من عنوانه (فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب) ،و ينسب لـ(الإمام أبي بكر محمد بن خلف بن المرزبان المتوفى سنة ( 309 هـ-921م)، حيث يفاضل "الإمام" في حيثياته ثناءا وانحيازا للكلب على الإنسان، و يقول في إحداها(واعلم أعزك الله أن الكلب لمن يقتنيه أشفق من الوالد على ولده والأخ الشقيق على أخيه وذلك أنه يحرس ربه ويحمي حريمه شاهدا وغائبا ونائما ويقظانا ،لا يقصر عن ذلك وإن جفوه ولا يخذلهم وإن خذلوه) ويرشد الناس: (وانصح لله تعالى كنصح الكلب لأهله فإنهم يجيعونه ويضربونه ويأبى إلا أن يحوطهم نصحا). ونقل عن الشعبي قوله(خير خصلة في الكلب أنه لا ينافق في محبته)،وأخبرنا بأنه وجد يوما الفضل بن يحيى فصادفه يحتسي الخمر وبين يديه كلب فقلت له أتنادم كلبا قال:( نعم يمنعني أذاه ويكف عني أذى سواه ويشكر قليلي ويحرس مبيتي ومقيلي). وورد عن العرب مثل ينسب لأبن عباس نصه(كلب أمين خير من إنسان خؤون ) و هو ما نجده قد أنتقل بحذافيره للفرنسية حيث شاع لديهم : Un chien reconnaissant mieux un homme ingrat. ونجد في شعر أبو العلاء المعري مغزا مشابها :
لو أني كلب لاعترتني حمية.... لجروي أن يلقى كما يلقى الإنس
وقد أشار إبن خلف في التراث العربي الى الغرائز قبل بافلوف بألف عام ونيف،حينما أشار(كل ذلك يدل على وفاء طبعي و"إلف غريزي" ومحاباة شديدة وعلى معرفة وصبر وكرم وغناء ومنفعة تفوق المنافع ). وهنا نقف على أن العرب أعتزوا بالكلب في تراثهم عكس حاضرهم ،أكثر من بقية الشعوب التي تحترمه اليوم. ونجد الأعرابي الذي يأتمن الكلب على حلاله قد جسده قول الشاعر علي بن أبي الجهم وهو بين يدي المتوكل العباسي ،منشدا وخاطبا بفخر (أنت كالكلب في حفاظك للود). كل ذلك يدلل أن الشعوب الرعوية والبدوية، كما الترك والمغول والبربر وكذلك الفرس والكرد والعرب، أعتنوا بالكلاب ،والأمر وارد من جدوى تواجده وحمايته للراعي والقافلة والمضارب،بما وهبه قيمة أكثر من الحيوانات الأخرى. فالنفس البشرية ميالة لتبجيل أو حتى تقديس ما يسبغ ويهب المنفعة،و يدرء الضر.

الكلاب في السياسة
نتذكر في تلك الشجون مثل بدوي تردده الألسن يقول (جوع كلبك كي يتبعك). وهذا المثل يذكرنا بتطابقه مع سنن بافلوف وطبقته سلطة البعث بأمانة بدوية.والمقصود كان ترويض شعب كامل ليصبح عسس وحراس (كالكلاب) لقصورهم، التي كنّوها دلالا (قصور الشعب). ودليلنا أنهم تركوا ذلك الشعب تعصف به رياح الحروب والمجاعات ثم الإحتلال والاغتراب القسري دون إكتراث أو وخزة ضمير.
قرأت للكاتب جمال حافظ واعي، مقالا يعاتب فيه زميل دراسة له أصبح ضابط مخابرات في أجهزة القمع الصدامي ، ذاكرا بأن أحد الضباط فيها أكتشف بعد هزيمة الكويت أنه : (وحدة الوطن والأمن القومي وآلاف المسميات ومصطلحات الأمن و الأمان كلها تبدأ من أمن عائلة صدام وتنتهي إليها ؟!) وخاطب زميله القديم: (أنت إذن كلب حراسة لدى هذه العائلة – لا اقصد هنا العلاقة الحميمة بين الكلب والإنسان - والذي يرتضي مهنة الكلب عن طيب خاطر هو كلب مخلص لسلالته. بل أن طبيعة مهنته تتطابق مع مهنة الكلب من حيث استنفار الحواس .أنت مستنفر الحواس وحواسك ليست لك فهي مؤجرة ؟). وهكذا الحال حينما يتحول شعب برمته من بشر الى كلاب حراسة.
وسلطة البعث جوعت العراقيين ثم أشاعت أحجية (مكارم السيد الرئيس)التي كانت قشور وصدقات،ولاسيما إبان الحصار الكافر الذي مورس ضدهم وليس ضد سلطة البعث وصدام. وإيغالا بالإذلال فقد طفقت "القيادة الحكيمة" تشيد القصور والصروح ومساجد الضرار ، بما يوحي ان لديها المال الكافي للبذخ والخيلاء ،حيث كان الفائض الإحتياطي للدولة العراقي حوالي 40 مليار دولار. وما لعبة (الحصة التموينية) إلا واحدة من وسائل الترويض(البافلوفي)، من خلال تجويع الناس والتحكم بأرزاقهم ثم أعناقهم، ومن المهازل أن خمسة أعوام بعد غيابهم لم تزيح تلك المنظومة المخزية، بما يوحي أن اليوم مثل الأمس.
قرات خاطرة للدكتور عبدالخالق حسين في إحدى مقالاته السياسية قال فيها :( أتذكر أني كنت في أحد الأيام استقبل المرضى في العيادة الخارجية في إحدى المدن القريبة من بغداد، وفجأة جيء بمجموعة من الجرحى بينهم ثلاثة من الشرطة المصابين. ولما سألت عن سبب إصاباتهم قالوا أنهم اشتبكوا في معركة طاحنة إثناء التدافع على شراء علب الدهن، حيث جاءت شاحنة في ذلك اليوم توزع الدهن على المخازن الحكومية التي احتكرت بيع المواد الغذائية والتي خلقت حالة مستديمة من الأزمات الاقتصادية، والنقص في المواد الغذائية بحيث عندما تتوفر مادة معينة يهرع الناس أفواجاً إلى هذه المخازن وتتزاحم وتتشابك في معارك بالأيدي من أجل الحصول على حصتها. وقد أشيع في وقته عن صدام حسين الذي كان (السيد النائب) آنذاك أنه سئل مرة لماذا هذه الأزمات الغذائية في العراق فأجاب: (جوِّع كلبك حتى يركض وراك!) وذلك عملاً برأي القيادة البعثية أنه إذا شبع الناس فسيطالبونهم بالمشاركة في السلطة. ).
و نتذكر جميعا أن السياسة التجارية المركزية المهيمن عليها من قبل سلطة البعث، كانت تجلب المواد الغذائية تارة الى الأسواق وتقطعها أخرى،حتى حركت لدى الدهماء هواجس الجوع، فلعبت بغرائز الناس كما تشاء، وتداعى الأمر أن يقف العراقيون في طوابير مذلة لمادة استهلاكية مسكينة ومبتذلة، بما يندي الجبين. وبالنتيجة إنتزع من النفس التي ترتضي الوقوف في طابور من هذا النوع، جذوة الاعتداد والشموخ والفخر بالذات، وهي من أكثر الأخطار وقعا على السلطات.والأمر برمته كانت استعارة (بافلوفيه) طبقتها السلطات الشيوعية . فقد لمست بنفسي وكنت طالبا في رومانيا أيام سلطة شاوشيسكو هذه الأعراف الإبليسية. ومن الطريف أن ثمة عرفا اجتماعيا شاع في رومانيا موائمة مع مقتضيات تلك السياسة، بأن لجأ الرومانيون لحمل الحقائب، حتى نادرا ما تجد إنسانا يمشي في الشارع دون حقيبة والغرض منه كان هاجسهم بأنهم ربما يجدون سلعة مختفية من السوق في مكان منزو أو تنزل على عين غرة و تختفي بعدها ليقتنوها على الفور ودون أن يفكروا بماهيتها،وحتى لو أنهم لا يحتاجوها اليوم ، فالإحتياط لقادم الأيام واجب. وهنا تسابق الدهماء وتغالبوا على (غنائم المشتريات) وعدت من باب الخفة والشطارة،حتى على تفاهات الأمور وقشورها. وهكذا أفقدوا الإنسان إنسانيته،وجعلوه محاكيا للحيوان طبعا، والأهم أن هذا الإنسان فقد عزة نفسه أمام سطوة ترويض الغرائز.ولم نستغرب اليوم أن جل المتسولين في غرب أوربا هم مهاجرون هاربون من أوربا الشرقية ولاسيما رومانيا،كون فتيل الكرامة الرافض للذل والهوان قد نزع من القوم ،وكل ما حصل على يد شاوشيسكو جاء بتعليمة لبيبة من مدرسة بافلوف النفسية. وهنا ينطبق على القوم مقولة الإمام علي (ع):( إنما الجاهل من استعبدته المطالب).
تنائي لسمعي أن بعض العراقيين نادمين على أيام صدام،ويترحمون عليه،كونها أحسن من أيام الاحتلال (يدعوه البعض التحرير)، وهم محقين في الشق الثاني. فحنينهم الى صدام ينطبق عليه(القط الذي يحب خناقه)، والأمر عينه نجده عند الكلاب التي تتبع ظالمها و تبقى وفية له، وهي حالة مرضية والعياذ بالله، بأن الخوف من شئ يجعل الإنسان متشبث به ويخشاه، وهو نفس المبدأ النفسي الذي تداولته العقائد الدينية،حينما أخافت الناس من الآلهة، لتبرر الكثير من الغيب وخفي الطالع،حتى ظن البعض أن الله (ظلام للعبيد) . وعلى النقيض كانت (العرفانية) ذات الأصول العراقية قد أحلت المحبة محل الخوف في تلك العلاقة وتجسدت في المانوية والنصرانية،ثم جاءت جوهرية في التصوف الإسلامي ونموذجها رابعة العدوية البصرية. كل ذلك ناقض في الصميم مبدأ التكفير الذي لم يكن يوما من سياق و فطرة الثقافة والعقلية العراقية.
وللحديث بقية في( الكلاب ومضرب الأمثال العراقية) في الحلقة الرابعة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحذير دولي من كارثة إنسانية في مدينة الفاشر في السودان


.. أوكرانيا تنفذ أكبر هجوم بالمسيرات على مناطق روسية مختلفة




.. -نحن ممتنون لكم-.. سيناتور أسترالي يعلن دعم احتجاج الطلاب نص


.. ما قواعد المعركة التي رسخها الناطق باسم القسام في خطابه الأخ




.. صور أقمار صناعية تظهر تمهيد طرق إمداد لوجستي إسرائيلية لمعبر