الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


احتلال صغير.. احتلال كبير

علي ديوب

2008 / 2 / 3
الادب والفن


هل تدخل عبارات النصح و التحذير و المناشدة التي وجّهت إلى السيدة فيروز، في باب الحفاظ على أيقونيتها، و الرأفة بقيمتها و تاريخها، و صون قدسية صورتها( سفيرتنا إلى النجوم)؟
و برغم أن الحب الخالص هو ما دفع النائب أكرم شهيب إلى مقايسة بائسة( لا تبددي احلامنا فيه كما يبدد طغاة دمشق احلامنا بالوطن والدولة والديموقراطية والحرية والحياة)، و استخدامه لغة استنكارية، تجعل من عدم امتثال الفنانة للموقف السياسي يخرجها من دائرة حب الوطن(من يحب لبنان الوطن لا يغني أمام سجانيه)؛ لكن القول الأكثر استقامة و جدوى يلحق الفعل، و لا يسبقه- كما تسق الإدانة الاتهام- و إلا استنسخنا عقلية المصادرة التي أورثَناها نظام الوصاية نفسه.
ما سبق و لا رافق زيارات محمود درويش المتعددة( و القادمة منها) أي نوع من التوجسات؛ و هو رمز لا يقل عن فيروز، بالمعنى الواسع في الزمن؛ مع أن فيروز لم تخاطب أبا على الأرض؟
و ما توقعت أن يغفل ملحق النهار، قبل سواه، أن مثل هذا الموقف المسبق، سينعكس عليه سلبا.. يعني هل سأل المناشدون أنفسهم سؤالا جادا، فيما إذا كان سؤالهم سيلقى تقديرا، خاصة أن القرار قد اتخذ.. بجد: هل كان الزملاء يعتقدون أن فيروز ستغير رأيها، و تعلن على الناس ما يشبه أنها ستلغي قرارا متسرعا بدر منها، في لحظة حرج، تحت ثقل واجب الوفاء للصداقة الشخصية.. أو ما يشبه، أو لا يشبه ذلك؟؟
في جل الكتابات التي هولت قرار فيروز المشاركة في احتفالية دمشق عاصمة للثقافة، أظنني لمست نوعا من الثقافة القبلية، التي ترى أن فيروز منا و فينا، و مش معقولة تعملها؟ و هي ثقافة نظام الوصاية المستبد( و لكن الأخوي) نفسه: و كل استبداد يرتكز على أسطورة مسك الأرض من أن تميد!
و بالمقابل فالخوف من أن( تعملها) ينبع من أنها التحقت بالخصوم؛ هل تساءل المثقف هنا عن الحدود بين الرأي و الوصاية، و بالتالي عن تحرره الحقيقي من ثقافة النظام القمعي؛ و هو ما أفضل تسميته بالتحرر الأكبر. فالتحرر الجغرافي من الجيوش و الحواجز و السجون و المراكز السرية إنجاز عظيم، لكنه لا يرقى البتة إلى سوية التحرر الذهني، الروحي و الشعوري، أو يتحلى برسوخه، و هذا ما يصح في رأيي أن يسمى بالتحرر الأكبر.
لكان عبر منتقدوها عن حصافة و حكمة و بعد نظر، إضافة لفضيلة يتغنون بها- الديمقراطيية- لو أنهم قطعوا الطريق على النظام السوري، في سعيه الطبيعي لتجيير المناسبة، و المناسبات قاطبة، لخدمة موقفه السياسي. و هذا، بحسب فن الممكن الذي يرتضيه كل عقل متمدن، من حقه- فهو في الحد الأدنى يدخل في باب الصراع السلمي. و في رأيي أن الهجوم على هذا الحق، هو نوع من العمل في الجهة الخطأ، يمكن أن يضعف مقاومة النظام السوري، في أشكال الصراع القذر و التدخل العسفي ضد حرية و استقلال بلد جار، يدعي الوقوف إلى جانبه. و عليه كانوا سيقرأون في زيارة فيروز الوجه الآخر، المقاوم للظلم و الاضطهاد و العسف الذي يتفنن به الحكام، و يباركون الدلالات التحررية التي ستنطق بها المسرحية، في وجه حاكم لا يحتاج لقراءة كف. و كانوا يحيّون عظمة سفيرتنا إلى الشعوب، و ليس إلى النجوم- حيث لا نعرف من ستخدم هناك، و في وجه من ستقف؟

شهدت منظمة التحريرالفلسطينية، في مقاومتها الاحتلال الإسرائيلي، تحولا سلميا. لقد أنضجها صراع من نوع خاص، ضد عدو ذكي، و مؤسسي، كالاحتلال الإسرائيلي- مهما قلنا في بشاعته و جرائمه- فجعلها تراجع ماضيها، و تصوغ اعتذارا رسميا، غير مشروط بمثله، لدولة و شعب لبنان، على ما ألحقته بهما من أضرار جراء سلوكيات مؤذية( كانت تسمى ثورية، في حينها، و يخوّن مناهضوها!)؛ بينما لا يزال يقدم الأخ الأكبر نفسه بوصفه النموذج الأسوأ. و بدل الاعتذار من لبنان و شعبه، و التعويض و المشاركة مع دول المحيط، و الجامعة العربية، لتسهيل معافاته و إعماره.. نجده يكاد يجعل من نفسه عدو الجميع- يعاند مسيرة استقلال لبنان، و يعاند مؤيديها، بل و يسجنهم، إذا ما وجد إليهم سبيلا- كما فعل مع صفوة العقول و الخبرات من مواطني سورية- كما لو أنهم هم أعداء الوطن، أو رهط لصوص في هرمه القبلي.
لكن، هل نحمّل سلطة السيطرة الهمجية على لبنان، لأكثر من عقدين، مسؤولية مطلقة في خلق ذهنية تتماهى مع شموليتها و تستنسخ صورتها الربانية، التي تتمثل بالوصاية على الآخر، و نهب و تصريف ثرواته و مقدراته( كونه قاصرا)، و حبسه في زنزانة الاستئذان حتى في شؤون المطبخ؛ مقابل سلامته، و العفو عنه؛ لتتولى هي الأمور العظام، متحملة رسالتها القومية، الداخلة في نطاق الأمن الاستراتيحي، و محاولة تأبيد الحال بسلوكها الذي لم تقبل له تبديلا، لا في الداخل و لا في لبنان المجاور: الإدانة المسبقة، سبيلا للتخويف، و العقاب، و الاستبداد؟
لا أظن الأمر بات خافيا، حتى على المواطن العمومي، أن الشمولية المسيطرة عندنا هي نوع من مسخ ما له سابق مثال. فهي تجميع فظيع للتشوهات، استحصلته باستعارة الأعضاء المشوهة من كل نظام حكم، شمولي أو غير شمولي، أمكن لها أن تستفيد منه، و استخدمت لتكوينه أحدث تقنيات العصر، ثم ركبت كل ذلك بتشوهاتها النادرة و شذوذاتها الفظيعة، لتخرج على العالم على صورة مركبة، تكاد تستعصي على التحسين. بل و عملت على تعميم جنونها، فتعولمت- فقط بالمعاني السالبة- قبل كل عولمة، و هي شاهدة اليوم على تواضع نصيبها نفسها من الحرية بالقياس إلى المرجعيات العديدة، في بلاد المنشأ.
لكن العقلانية، التي ننشدها في البديل، تقتضي أن نستخدم النقد، أداة العقل الأولى، في طريقين. فنحفر ذاتيا، و نبحث في أنصبة شموليات عديدة أخرى( دينية، قومية، و يسارية..)، من تصميم ذهنية عامة، لم ينج منها جل المثقفين.. و إلا كان دورنا مجرد روافد لبحر الطغيان، دون أن يغير في الأمر تغنينا بالحرية.
لم يغب، و لا يمكن أن يغيب، عن الشمولية العسكرية المخابراتية، أنّ للترعيب أهمية حاسمة في تأبيد صورتها الكابوسية. فكرست بفطرتها الوحشية خبرة، و صاغت مدرسة أمكن لهما- و قد فعلت- أن تصدرهما إقليميا و ربما قاريّا. و مدرستها تقول أن للترعيب منافع لا تعد؛ فعلى الصعيد الداخلي يؤمن سيطرة سهلة و مديدة للنظام القهري، كما يوفر هدوءا، ترفل في سلامه ضباع المقابر، و أيضا يضع حدا لتوالد الشخصية الحرة المتحررة. و على الصعيد الخارجي يجعل من نفسه عصابة تخويف و تدمير، و تخريب، تتعذر المعادلات من دونه.
تحدثت البحوث الاجتماعية عن التماهي مع المتسلط، و أشارت لاستنساخنا- نحن المثقفين- الاستبداد، نظام حياة. مع أطفالنا و زوجاتنا و أزواجنا. و يكرره بعضنا اتجاه البعض الآخر. كما يكرره الشارع بصور شتى و جوهر واحد: الكبير و القوي و المتحكم، ضد الصغير و الضعيف و المعدم.
قوة الصدم، الناجم عن الترعيب تصدّع الشخصية، تخرق أعماقها، و تستقر في مركز السيطرة( العقل الباطن)، لتصير جزءا لا يتجزأ منا- نحن المستحاثات- كما رسم الحيوان الأحفوري داخل المادة المتكلسة.
لست شغوفا بمزيد من الكتابة، بل إني أكتب بإلحاح من شعور آسف- إن لم يكن يائسا- لم ينجم عن السبب الذي دعاني لكتابة هذه الكلمات، فحسب، بل عن مرحلة بكاملها، مرحلة حصاد القمع المديد. حالة موات حقيقي. مظاهر الحياة فيه ليست سوى خلجات آلية في العضلات، قد تستمر لما بعد الذبح و السلخ و التقطيع. لربما يضطر الحاكم إلى شوائنا، لضبط الاختلاجات اللاإرادية.
مؤخرا قام النظام السوري بحملة تخوين للمناضل العجوز- الشاب رياض الترك، الذي قلما تعرف على الحياة خارج السجن، و الذي حمل لقب" مانديلا سوريا"، و جند النقابات لإصدار بيانات تخوينية له، و اتهامه جنبا إلى جنب مع المعارضة بالعمالة لأمريكا.. الخ. و و بالتوازي مع ذلك جند نقاباته الملحقة في لبنان بحملة مشابهة، و لكن لتخوين البطريرك صفير هذه المرة، صاحب الصوت المستقل، و النفس الوطني، و المواقف الأخلاقية الرفيعة.
و ما وجدت في هذا غرابة، و لا فيما سبقه، أو حتى في أضعاف ما يمكن أن يلحق به، و بنا.. فالأسطورة تصور جهنم لا تشبع من شوائنا.. و لكني استغربت، أسفت، بل و أحسست أني مستفز على نحو شخصي مبهم؛ و ذلك بفعل الضجة التي رافقت قرار السيدة فيروز إحياء حفلة، في مكان ما- بصرف النظر عن أن هذا المكان هو دمشق الشام، بما له من موقع خاص في وجدان فيروز؛ و لا يمكن، و لا ينبغي السماح له أن يتحول مع النظام- العابر- إلى دلالة واحدة!
ليس غير الحرية أداة لمناهضة القهر و السيطرة و القوة. و فيروز حرة.. و بحريتها يستقوي شعبنا السوري على الطغيان الذي يرخم على الصدور، و يرمي مخلفاته.
فيروز، و أمثالها من مبدعي و عظماء أمتنا طاقات، بل هي طاقاتنا الوحيدة التي بقيت خميرة لنهوض محتمل؛ و التي يجب أن ندافع عنها و ندفعها، و نحميها من أي تقييد أو تقعيد: حتى بالقيود و القواعد الوطنية أو الأخلاقية أو المجتمعية، أو سواها.
هي طاقات تقاس بذاتها، و سواها يقاس عليها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كواليس أخطر مشهد لـ #عمرو_يوسف في فيلم #شقو ????


.. فيلم زهايمر يعود لدور العرض بعد 14 سنة.. ما القصة؟




.. سكرين شوت | خلاف على استخدام الكمبيوتر في صناعة الموسيقى.. ت


.. سكرين شوت | نزاع الأغاني التراثية والـAI.. من المصنفات الفني




.. تعمير - هل يمكن تحويل المنزل العادي إلى منزل ذكي؟ .. المعمار