الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفران والكلب - قصة قصيرة -

إبراهيم الحسيني

2008 / 2 / 7
الادب والفن


مطرود ذليل مهان , غادر زينهم الفرن , مضطرب ومشوش الذهن , يشعر بالاختناق , ينزف حزنا وخجلا ومرارة , تترسب في حلقه , وتكاد تسد منافذ الهواء عن رئتيه , تتردد في رأسه الكلمات التي هوت , بمثابة صفعة قوية , شملته برعدة ورجفة :
- الفجر ادن يا عبد , قوم بقى هوينا .
عندما مال صبري العجان عليه , رماه بنظرة غاضبة , وكانت حادة ونافذة .
- مش عيب كده يا عبد , دلوقت المعلم يبيع ويشتري فينا .
تلعثم وثأثُا كالعيال أثناء بحثه عن كلمات مناسبة , لم يجد ما ينطق به , دفس بصره في الأرض , ولم يرد .
تلاحقه نظرات الخبازين باللوم والتأنيب والشفقة والغيظ , الذي يكاد يفترسه ويفتك به , وهو ينحدر بقدمين حائرتين متعثرتين , يهبط مرتفع عطفة الدراويش , وموجة برد ثقيلة تندفع في أحشائه , تقلصها وتلويها , يتحسس ربع الجنيه , الذي ضل طريقه إلي سيالة الجلابية , يتحداه , يسخر منه , ومن كبريائه الذي أبي , وهو يكاد ينفجر في بكاء حاد , أن يأخذه من صاحب الفرن , أول الأمر , وهو يحدث نفسه " فاكره يا مه , كنت دايما تقوليلي : البندر خيره كتير يا زينهم "
كان زينهم يدور في الفرن, يلقي نظرة هنا , ونظرة هناك , يتفحص الزان بين أيدي الخبازين , والمكن خلفهم , والسنة النار يطول وتقصر , في بيت النار , فأشار له صاحب الفرن من وراء مكتبه , عندما خلع الجلابية التركلين البيضاء , وهم يتناول ملابس العمل من كيس الفاكهة , وهو
يقول لنفسه " استعنا علي الشقا بالله "
ثم سار إلي صاحب الفرن متوجسا مرتابا , يقول لنفسه " لو كان المعلم يرضى يشغلني علي طول , كان الواحد يلاقي نومه كويسة ومريحة , بدل النوم في الشوارع والقهاوي والجناين "
تلقفه الشارع الكبير , ببردته , وصمته , ونسماته المرتعشة , وأعمدة الكهرباء , وضوء النهار , الذي يتسلل ببطء مبللا بندى الصباح , خاويا إلا من : زجاجات فارغة , أعواد ثقاب , أوراق جرايد مطوية , أعقاب سجاير ,قشر موز وبرتقال ,طبق صاج قديم ,مصاصة قصب , إطار دراجة صدئ , عربة يد محملة بأقفاص خاوية , شخصية سياسية بارزة علي غلاف مجلة ,بجوار صورة نصف عارية لفنانة صاعدة , تشق طريقها إلي القمة , جرو ينتقل خلف أمه بين النفايات وبقايا الطعام , سيارات قليلة متباعدة , أقدام رجال يتباعدون , ثمة مقهى وبعض المطاعم – هناك – يخرجون أحشاءهم علي الرصيف .
أحكم ينهم لف " التلفيعة " حول رقبته , أخرج بيده المرتعشة سيجارة فرط من جيبه , أشعلها , وأطلق نفثة دخان, وتأمل تلك المدينة الكبيرة , ورمى نظرة أخيرة علي الفرن , ولا يزال يشعر بوطأة الكلمات جاثمة علي صدره :
- الفجر ادن يا عبد قوم بقى هوينا .
كان واقفا أمام صاحب الفرن , يرهف السمع إلي كلمات الأغنية , التي تأتيه مهشمة الحروف والمعاني , يتأمل نتيجة الحائط والآية القرآنية , المعلقتين أسفل صورة رجل ملتح , يستند علي عصى , في برواز مزخرف , خلف صاحب الفرن , الذي لم أطراف تشعثه , ونهض من كرسيه , يزيح الطاقية عند مؤخرة رأسه , ابتسم , وأخذ زينهم تحت إبطه , وسار به بعيدا عن عيون الصنايعية , ربت علي كتفه , وقد فارقته الربكة والحيرة , التي تعلو وجهه , وتضرج كلماته بالتلعثم والتعثر , وقال :
- تشرب شاي يا عبد ؟ّ!
- ربنا يجعله عامر يا معلم .
- اللا انت اسمك ايه يا عبد ؟
- خدامك زينهم .
- مرة تانية يكون ليك نصيب عندنا .
- أنا جاي من القهوة اشتغل يا معلم .
- اعمل ايه يا بني الراجل بتاعنا جه .
- طب اشوف شغل ازاى دلوقت ؟
- ارجع القهوة والمواصلات علي حسابي .
- الدنيا ليلت وعلي ما ارجع تكون سكت .
- افرشلك شوالين , ونام في البورة , لحد النهار ما يطلع .
سار علي الإسفلت , قلقا متوترا كسيرا محطما , يقول لنفسه " زمان كان لينا دار , صحيح بالطين , لكن دار , بس وقعت , اتهدت وبقت كوم تراب "
يلفه الصمت , وشظايا النهار , يداهمه حلم ظل يقتحمه , كلما غفا أو أغمض عينيه : ثيران من النار , طويلة اللسان والذراعين , تحاصره , تركض حوله, تطارده , تلاحقه , تخنقه بالدخان والرماد والهشيم .
عندما أشار صاحب الفرن ناحية المخزن المعتم , ذهب زينهم إلي هناك , وعاد بجوالين فارغين , فرشيهما تحت أقدام زملائه , وتمدد متوسدا ذراعيه , طول الليل , يحاول جلب النوم , الذي يجئ علي فترات قصيرة متباعدة , تطالعه سخرية زملائه وتهكمهم , وهم يلقون النظرات الشرسة حينا , والابتسامات والتعليقات المريرة حينا :
- هو مافيش رصيف فاضي يا عبد ؟!
- هما بتوع القهوة دول كده !!
- الواحد هناك تشوفه ولا أبو زيد الهلالي !!
- تلاقي الحمامات اللي في البلد خلصت !!
- يا با دول عالم صيع !!
- لزومه ايه يشمتوا فينا المعلمين !!
- يا عم النومة في الأقسام أحلى !!
يحاول الفرار من عيونهم , التي ترجفه , تربكه , توتره , تؤلمه , تطير النوم من عيونه , توقد بداخله إحساسا بالجبن والغباء والتفاهة , تضرم النيران في جسده , وهو يقول لنفسه " لو يسألوني , يا خوانا الدنيا برد قوي , أنا زميلكم , وزي أخوكم , وإحنا في شهر طوبة , وجسمي ما يستحملش النوم الليلادي في الشوارع "
مال زينهم , دون أن يدري , بلا أدنى إرادة , قادته قدماه إلي جرو ضعيف نحيل , يداعبه , يملس ظهره , ويقول لنفسه " أروح القهوة , أشرب شاي , يمكن يدفيني , ويخلصني من البرد اللي جوايا "
وحمل الجرو بين ذراعيه , يضمه إلي صدره , وسار يتسمع وقع خطواته علي الطريق .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -الفن ضربة حظ-... هذا ما قاله الفنان علي جاسم عن -المشاهدات


.. إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها بالجيزة




.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها


.. الممثلة ستورمي دانييلز تدعو إلى تحويل ترمب لـ-كيس ملاكمة-




.. عاجل.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق