الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فليتَ طالعة َ الشمسين ِ غائبة ٌ ...( ذكرى ورثاء )

عدنان الظاهر

2008 / 2 / 8
سيرة ذاتية


فليتَ طالعة َ الشمسين ِ غائبة ٌ ...

(( إلى روح الفقيد المهندس نوري عبد الرضا جوير ))

قال يا حافظ ويا ساتر ! ما خطبك صاحبي في هذا اليوم الصاحي المشمس الجميل ؟ علامك تتمنى غياب هذه الشمس النادرة الوقوع في فصل الشتاء خاصةً واليوم هو يوم ثلاثاء كرنفالات الأردية الذي يسبق ويمهد لأعياد الحب ( الفالنتاين ) ؟ علام سوداويتك يا هذا وما عرفتك إلا جذلاً متفائلاً ضاحكاً بعالي صوتك مغرّداً مع أغاني فريد وعهدي أن كاسيت أغنية الربيع لهذا الرجل لا يكف عن الحركة ؟ ماذا ـ بإختصار ـ بك وماذا جرى ، قل لي ولا تخفِ عني شيئاً . معك حق يا متنبي . معك كل الحق ولكنْ ، مَن يحترق بالناريا متنبي ليس كمن يراها تستعر في جسد غيره أمام ناظريه . قال أعرف ذلك ، أعرفه حقَّ المعرفة . قل لي ما سبب نارك وإشتعالك في لهبها وأوارها ويا نارُ كوني برداً وسلاماً على صاحبي المسكين هذا . ظللتُ ألازم صمتي وأداري عميق حزني وظلَّ صاحبي يُلح أنْ يعرف سر هذا الحزن الذي لم يره فيَّ طوال فترة صداقتنا التي جاوزت الستين عاماً . تنهدّتُ عميقاً ثم قلتُ بصعوبة يخالطها دمعٌ شديد السخونة : إنها وفاة قريب ٍ عزيز فارق الحياةَ فجر اليوم الثالث من شهر شباط الجاري . قال الرحمة لفقيدكم وإنّا لله وإنا إليه راجعون . الفاتحة .
دخن صاحبي سيجارة سريعاً أعقبها بثانية مردداً الحوقلة المعروفة . كان مثلي حزيناً حين سألني متى إلتقينا آخر مرة . كان ذلك فجر التاسع من شهر تموز عام 1978 إذ جاء الفقيد بغدادَ من مدينته البصرة لكي يودعني في سفرتي الأخيرة وغيابي عن العراق الذي طال حتى اللحظة الراهنة . لم نلتق ِ بعد ذلك أبداً كما هو الحال مع الباقين من أفراد عائلتي أحياءً . فرك عقب سيجارته بعصبية ثم قال : أي أنكما لم تلتقيا لقرابة الثلاثين عاماً . أجل يا متنبي . قال هذا عمر ، عمر طويل ولكن كيف إحتملتما هذا الفراق ؟ إحتملناه كما إحتمله غيرنا من ملايين العراقيين . لسنا وحدنا يا متنبي في المحنة . قال ألم تتبادلا خلال كل هذه الفترة الرسائل أو الأحاديث التلفونية وغير ذلك من وسائل الإتصال ؟ بلى يا أبا الطيّب ، كان يحدث ذلك بين الفينة والفينة . لم تنقطع أحاديث التلفونات بيننا ولم تنقطع الرسائل بل وخابرنا مرةً من باريس إذ كان في إيفاد حكومي أواسط ثمانينيات القرن المنصرم . ثم زارتنا في ألمانيا كبرى كريماته ثم زارتهم إبنتي شهر تموز 2003 بعد سقوط نظام البعث في بغداد وحملت لي منه سلامه وأشواقه . رؤية العين يا أيها الشاعر شئ بينما الرسالة أو سماع الصوت عَبرَ التلفون شئ آخر ، شئ مختلف تمام الإختلاف . ردد صاحبي لا حول ولا قوة إلا بالله . قال حدثني أكثر عنه . مَن كان وما سبب إقامته وعائلته في بغداد وهو بصراوي أصيل ؟ كان مهندس كهرباء درس على حسابه الخاص في بريطانيا وعاد للعراق إذ أكمل دراسته أوائل ثورة تموز 1958 وعمل في منظومة خطوط ومحطات كهرباء البصرة والجنوب عقوداً طويلة . تعرّض بيتهم في البصرة للدمار زمن الحرب العراقية الإيرانية ولما غدت بصرته خراباً قررالإنتقال وعائلته إلى بغداد حيث أكملت بناته الثلاث دراساتهنَّ في الجامعات العراقية وواصل عمله في بغداد مهندسَ كهرباء لدى الحكومة حتى حان موعد إحالته على التقاعد. الرحمة لك يا أبا ميساء ، عشتَ رجلاً أميناً مستقيماً وأباً فاضلاً وقريباً وفياً وصديقاً مخلصاً نقي الضمير بريء الذمة طاهر الذيل عفيف اللسان . هكذا عرفك الأبعدون قبل الأقربين ، وهكذا عرفك زملاؤك في العمل مهندسا ً كفوءاً نظيف اليد عالي الرأس لم تشبْ حياتك خلة ٌ ولا منقصة ٌ وظلَّ معدنك نقياً يقاوم الصدأ والإنجرافات وكل ما في الحياة من مغريات كان نظام البعث يغدقها دون حساب على باقي زملائك وعلى الكثيرين ممن لا يستحقون الحياة . نمْ أبا ميساء قريرَ العين فبقيتك ممن خلّفتَ مثلك طاهرة تترسم خطاك وتحمل مبادءك الخلقية ومُثلك العليا وكنتَ على حد علمي مؤمناً بالقدر فتقبلْ قدرك المرسوم وكل ُّ مَن عليها فان ٍ . ردد المتنبي لا حول ولا قوةَ إلا بالله . الآن فهمتُ سبب حزنك هذا اليوم . الآن وقفتُ على السر . أحسنتَ إذ ْ ذكرتَ صدر بيتيَ الشعري في هذه المناسبة ولا يسعني إلا تكملة هذا البيت ، سأقوله كاملاً :

فليتَ طالعة َ الشمسين غائبة ٌ
وليتَ غائبة َ الشمسين لم تغبِ

نعم ، غاب أبو ميساء عنا ، نعم ، قد غاب لكنها غيبة الجسد لا غير . ذكراه لا تغيب . أجده حيا ً يُرزق في إبنتيه الباقيتين ميساء وبان . بل وأجده في صغرى كريماته الشهيدة القتيلة المظلومة إسراء . دأب الفقيد قبل وفاته على زيارة قبر إسراء ويخاطبها واعداً إياها أنْ سوف يأتيها قريباً ليرقد معها في نفس قبرها ويشاركها لحدها وترابها فالوالد لا يفارق بناته وبنيه .
كان يبكي طويلاً والرجال تبكي . سلامٌ عليك أخي نوري يومَ وُلدتَ ويوم فارقتنا ويومَ تُبعث ُ حيا . سلام ٌ عليك وقد عشتَ المحن جميعاً قبل وبعد سقوط نظام صدام وحزب البعث . فقدتَ إسراء بعد السقوط وتشردتْ عائلتك بين دمشق وعمان تبحث عن الأمان في الدنيا وليس في الدنيا من أمان .
رأيتُ المتنبي يبكي بمرارة . ظل يبكي وينتحب ثم إعتذر فقال : ذكرني مقتل الشابة إسراء بمصرع ولدي الوحيد ( محسَّد ) ... قتلوه أمامي قبل أن يجهزوا غدرا ً عليَّ في تلك الليلة الظلماء على أرض العراق .
قبل أن نفترقَ سمعتُ المتنبي يردد بيته الشعري :

يدفِّن ُ بعضُنا بعضا ً وتمشي
أواخرُنا على هام ِ الأوال ِ










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا: السجن 42 عاما بحق الزعيم الكردي والمرشح السابق لانتخا


.. جنوب أفريقيا تقول لمحكمة العدل الدولية إن -الإبادة- الإسرائي




.. تكثيف العمليات البرية في رفح: هل هي بداية الهجوم الإسرائيلي


.. وول ستريت جورنال: عملية رفح تعرض حياة الجنود الإسرائيليين لل




.. كيف تدير فصائل المقاومة المعركة ضد قوات الاحتلال في جباليا؟