الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العنوان: الاستغلال الرأسمالي لم يعد موضوع احتجاج الحركات الجديدة ، بل الاستبعاد من هذا الاستغلال )

جورج طرابيشي

2002 / 4 / 29
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


الكاتب: جورج طرابيشي )
(ت.م: 28-04-2002 )
(ت.هـ: 15-02-1423 )
(جهة المصدر: )
(العدد: 14283 )
(الصفحة: 18 - ملحق تيارات )
الحياة

Isabelle Sommier.
Les Nouveaux Mouvements Contestataires a LHeure de la Mondialisation.
(الحركات الاحتجاجية الجيدة في زمن العولمة).
Flammarion, Paris.
2002.
728 pages.
اول ما يلفت النظر في الحركات الاحتجاجية الجديدة طابعها اللامنتظر. فالعقد الذي رأت فيه النور، عقد التسعينات من القرن العشرين، كان قابلاً للوصف بحق بأنه عقد التسطيح الاجتماعي فقد كانت الطبقة العاملة، الركيزة الكلاسيكية لظاهرة الاحتجاج، قد شرعت بالانطفاء مقابل تضخم الطبقات الوسطي غير المعنية، بحكم وسطيتها بالذات، بالصراع الاجتماعي.
وكانت المنظمات النقابية التقليدية، حاضنة الصراع الطبقي، قد شرعت بالافول اذ فقدت في الربع الاخير من القرن العشرين اكثر من نصف الاعضاء المنتمين اليها، وتقلصت نسبة المنتسبين من العمال الي النقابات الي اقل من 10 في المئة من جملة اليد العاملة في نهاية القرن. كما تراجعت في الوقت نفسه حركات الاضراب، فتقلص عدد المضربين، في بلد متقدم صناعياً مثل فرنسا، من مليوني مضرب في السنة في السبعينات الي مئتي الف مضرب في التسعينات.
لكن مقابل خبو الطبقة العاملة وتنظيماتها النقابية كانت شرعت بالتطور ركائز جديدة للنقد الاجتماعي تتمثل بـ الاقليات الناشطة الجديدة التي تضم اشتاتاً غير قابلة للحصر من البيئويين والنسويين والجنسيين والمثليين وانصار حقوق الانسان ومناهضي العولمة، فضلاً عن تضخم غير مسبوق اليه في عدد الرابطات والجمعيات الناشطة في حقول هامشية وجزئية، حتي بلغ تعدادها في بلد مثل فرنسا نحواً من 900 الف رابطة وجمعية، مما يعني ان واحداً من كل ستة فرنسيين بات ينتظم - بصورة طوعية - في اطارها.
وبالتوازي مع هذا التحول في بنية الطبقة العاملة وتنظيماتها النقابية حدث تحول انقلابي في الاتجاه الاجتماعي الجديد. فموضوع هذا الاحتجاج لم يعد الاستغلال الرأسمالي، بل الاستبعاد من هذا الاستغلال.
فالضحايا الذين تنشط باسمهم الحركات الاحتجاجية الجديدة هم الذين صاروا يعرفون باسم البدون اي الذين هم بدون عمل او بدون منزل ثابت او بدون اوراق من المهاجرين اللاشرعيين. ففي فرنسا وحدها ارتفع عدد العاطلين عن العمل في آخر عقود القرن العشرين الي اكثر من ثلاثة ملايين كما ارتفع عدد الذين لا يتمتعون بعمل ثابت الي نحو من اربعة ملايين، علي حين ان تعداد الطبقة العاملة، بالمعني الصناعي الكلاسيكي للكلمة، ما عاد يتجاوز 6.3 مليون عامل، اي نحواً من 27 في المئة من جملة قوة العمل. كما ان عدد الذين لا يعيشون تحت سقف منزل ثابت قد زاد في عام 1999 علي 700 الف شخص، بالاضافة الي اربعة ملايين شخص آخر لا يعيشون تحت سقف منزل لائق .
اما من هم بدون اوراق او يعملون بصورة لامشروعة من المهاجرين فقد قدرت تقارير وزارتي الداخلية والعمل الفرنسيتين تعدادهم بما لا يقل عن 300 الف. ومن هنا التحول في الحركة المطلبية وتبني الحركات الاحتجاجية الجديدة لشعارات انسانية اكثر منها طبقية : الحق في العمل، الحق في المسكن، الحق في الكرامة الانسانية… الخ.
وقد اقترن ذلك كله بتحول في تقنية الاحتجاج. فخلافاً لمنطق الكرامة الطبقية الذي ميز الحركات الاحتجاجية القديمة ذات المنزع العمالي، فان الاحتجاجيين الجدد لا يترددون في ان يعرضوا الضحايا الذين ينشطون باسمهم، وفي ان يعرضوا آلامهم وعذاباهم وينشروها علي الملأ من خلال وسائل الاعلام. فما دامت الحركات الاحتجاجية الجديدة تخاطب الرأي العام مباشرة، وليس البرلمان او قادة الاحزاب السياسية، فليس امامها من خيار آخر سوي عرض بؤس الضحايا الي حد استثارة الشعور بالفضيحة. فلم يعد المطلوب التوعية كما في ازمنة النضال الطبقي والنقابي بل تحريك الضمائر . فغائية الحركات الاحتجاجية الجديدة اخلاقية اكثر منها سياسية. وهي تسعي الي اثارة الانفعال اكثر منها الي تكوين الوعي الايديولوجي، والي استثارة الشفقة اكثر منها الي بناء التضامن الطبقي.
ومن هنا اصلاً الطابع الاستعراضي او حتي النجومي، لتظاهراتها. فخلافاً لمنطق الغفلية الطبقية لحركات الاحتجاج القديمة التي كانت تقدم الجماهير علي الاشخاص ، فان حركات الاحتجاج الجديدة، التي تضع رهانها التكتيكي علي الصورة المتلفزة اكثر منها علي الشارع تفسح مكاناً واسعاً في صفوفها للنجومية. وعلي هذا النحو فان من يتصدر التظاهرات الاحتاجية ليس القادة الحزبيين وزعماء النقابات، بل مشاهير من نجوم السينما والاعلام والادب.
بل ان الحركات الاحتجاجية الجديدة باتت تفرز هي نفسها نجوميين خاصين بها، نظير الأب بيار مؤسس حركة عمواس، او جوزيه بوفيه مؤسس الاتحادية الفلاحية ، اضف الي ذلك ان التظاهرات الاحتجاجية غالباً ما تتخذ طابعاً استعراضياً بهدف ممارسة الإغراء لا علي الرأي العام وحده، بل كذلك واساساً علي وسائل الاعلام السمعية - البصرية. فمنظمة آكت آب ACT UP علي سبيل المثال، وهي منظمة تضم في عضويتها الحاملين الايجابيين لجرثومة الايدز ، خلقت حدثاً مشهدياً حقيقياً برسم الصحافة المتلفزة عندما جلّلت المسلّة الفرعونية المنتصبة في ساحة الكونكورد في العاصمة الفرنسية بواقٍ (كابوت) عملاق للوقاية من الامراض التناسية. وكذلك فعل اعضاء الاتحادية الفلاحية عندما قاموا بتحطيم سلمي لمبني كان قيد الانشاء لسلسلة مطاعم ماكدونالدز . اما انصار منظمة الحق في السكن فلم يترددوا في احتلال مجموعة من المساكن الخاوية في حي سان جيرمان الانيق وأسكنوا فيها عشرين عائلة من الفقراء والمهاجرين الافريقيين.
ومن دون ان تقاطع الحركات الاحتجاجية الجديدة الاشكال التقليدية للاحتجاج من قبيل العرائض والتظاهرات والسلاسل البشرية، فانها تخترع اشكالاً جديدة تتعدي حدود الشرعية، ولكن من دون ان تخرقها خرقاً فاضحاً. وعلي هذا النحو تكرر اكثر من مرة احتلال الاحتجاجيين لمداخل المترو او لبوابات العبور في الاوتوسترادات لتمكين الركاب او سائقي السيارات من المرور بدون دفع الرسوم، كذلك فان المتضررين من المزارعين او من مربي المواشي يلجأون بشكل دوري الي اعتراض سبيل الشاحنات الناقلة للفواكه او اللحوم من اقطار مجاورة رخيصة التكلفة ويفرغون حمولتها في عرض الطرقات العامة. وقد ابتكرت منظمة أبيس المعنية بالدفاع عن حق العمل للعاطلين عنه، شكلاً جديداً للاحتجاج علي غلاء الاسعار وزهادة الاجور بتنظيم غزوات للسوبرماركت والايعاز لانصارها بملء عربات اليد بالبضائع والخروج بها بدون دفع الثمن.
ولئن تكن حركات الاحتجاج القديمة قد عرفت ساعة مجدها مع تطور الصحافة المطبوعة والمناشير التي توزع باليد فان الاداة التقنية الاولي لحركات الاحتجاج الجديدة هي، بلا أدني شك، الانترنت.
فقد عرف الاحتجاجيون الجدد كيف يحولون هذا الجهاز الي اداة نضالية ممتازة تتيح لهم التواصل والتعبئة واختراق جميع حواجز الرقابة. ومشهورة هي، من هذا المنظور، الحملة الانترنتية التي نظمتها الاميركية جودي وليامز عام 1992 من اجل تحريم الالغام المضادة للافراد والتي كان من نتيجتها تعبئة الف منظمة غير حكومية عبر العالم بأسره واقرار هيئة الامم المتحدة لمعاهدة دولية بهذا الخصوص والفوز بجائزة نوبل للسلام عام 1997.
ومنذ هذه البادرة غدا الانترنت الناطق العالمي بلسان حركات الاحتجاج الجديدة. فميزة هذا الجهاز الاعلامي انه عديم الكلفة وفوري النتائج وله، فضلاً عن ذلك، ميزة اخري: فهو يساعد علي تنمية الديموقراطية الداخلية في العلاقات بين المتحاورين من خلاله. فهو يعمل عن طريق الشبكة الافقية، لا عن طريق التسلسل الهرمي العمودي، ومن ثم فهو يغني عن وجود قيادة مركزية تحتكر القرار كما يغني عن وجود مفوضين يمثلون غيرهم، ويتكلمون باسمهم. وبتخطّيه الحدود القومية والرقابية فان قدرته التعبوية تبدو لامحدودة. فحملة يوبيل العام 2000 استطاعت تجميع 18 مليون توقيع علي عريضة تطالب بالغاء ديون العالم الثالث. وقد تجلت هذه القدرة التعبوية اللامحدودة في تظاهرات مناهضة العولمة التي تمكنت من حشد 40 ألف متظاهر في قمة سياتل عام 1999 و200 ألف متظاهر في قمة جنوي عام 2001.
وعن طريق الانترنت دوماً امكن لحركة مناهضة العولمة ان تنظم قمماً مضادة علي نحو ما جري في مدينة نيس في كانون الاول (ديسمبر) 2000، وفي مدينة دافوس في كانون الثاني (يناير) 2001 حيث امكن لاربعة آلاف مندوب قدموا من 120 بلداً في العالم ان يجتمعوا في اطار الندوة الاجتماعية العالمية ليتداولوا ويبحثوا من خلال ورشات العمل في المصائب الاخلاقية للعالم المعاصر ولتوزيع اكثر عدلاً لثرواته ولفتح المنافد امام بلدان الجنوب للمشاركة في انتاج هذه الثروات واستهلاكلها.
الحركات الاحتجاجية الجديدة تمثل، إذاً، في برامج وطرائق عملها وتظاهراتها المهرجانية دينامية مبتكرة. فلس وراء هذه الحركات كتل بشرية هائلة، بل اقليات قابلة للوصف بأنها نخبوية. ولكنها لهذا السبب بالضبط شديدة الفاعلية. وبصرف النظر عن الانتصارات او الاخفاقات الجزئية في كل مجال علي حدة، استطاعت الحركات الاحتجاجية في جملتها، في مطلع القرن الحادي والعشرين هذا، ان تثبت كذب نبوءات بعض المتفلسفين الاعلاميين عن نهاية التاريخ وعن نهاية الصراع الاجتماعي. ومهما قيل عن التشنج الايديولوجي لهذه الحركات وعن طوباوية برامجها، فلا مجال للشك في انها استطاعت ان ُتحدث قلقلة في المؤسسات العالمية وان تخرق الحواجز المتكلسة لليسار الحزبي والنقابي التقليدي وتوفر اقنية تعبير جديدة للمجتمع المدني وتؤسس نوعاً من اممية ضميرية للعالم المعاصر، مُحضرةً الي مسرحه الغائبين الكبار عنه: المستضعفين في بلدان الجنوب، والمهمشين والاقلويين في مجتمعات الشمال. ورغم عدائها المعلن للعولمة، فانها تبقي من افراز العولمة ذاتها، ولعل طموحها الحقيقي هو ان تمثل الوجه الاخلاقي لهذه العولمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحوثيون يستهدفون سفنا جديدة في البحر الأحمر • فرانس 24


.. الشرطة القضائية تستمع إلى نائبة فرنسية بتهمة -تمجيد الإرهاب-




.. نتنياهو: بدأنا عملية إخلاء السكان من رفح تمهيدا لاجتياحها قر


.. استشهاد الصحفي سالم أبو طيور في قصف إسرائيلي على مخيم النصير




.. كتائب القسام تستهدف جرافة إسرائيلية في بيت حانون شمال غزة