الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جيوسياسة التاريخ المديد لليوم الراهن

رحيم العراقي

2008 / 2 / 9
الادارة و الاقتصاد


إيف لاكوست،مؤلف كتاب«جيوسياسة: التاريخ المديد لليوم الراهن» جغرافي ومؤرخ، وهو مؤسس ومدير مجلة«هيرودوت» الشهيرة وأستاذ في الجامعات الفرنسية، وأحد أهم الاختصاصيين الفرنسيين في ميدان الجيوسياسة -الجيوبوليتيكا-. وإيف لاكوست هو أيضا مؤلف العديد من الكتب التي أصبح بعضها مرجعا في ميدانه مثل «قاموس الجيوسياسة» و«قصة أسطورة الأرض» وله كتاب شهير يحمل عنوان: «الجغرافية تخدم أولا في صنع الحرب». وتجدر الإشارة أيضا إلى أن «لاكوست» قد قدّم العديد من الدراسات حول منطقة المغرب العربي من بينها كتاب تحت عنوان: (المغرب، شعوب وحضارات)، وكتاب أيضا عنوانه:«ابن خلدون»
أثار كتاب «الجغرافية تخدم أولا في صنع الحرب» المنشور في نهاية عقد السبعينات الماضي، الكثير من الاهتمام والنقاشات. ولا بد لعمل جديد لنفس المؤلف «إيف لاكوست» عن رهانات الزمن الحاضر الجيوسياسية أن يكون «حدثا» أيضا، لاسيما وأنه يتعرض للرهانات «الساخنة» في عالم اليوم مثل طرق البترول وحروب المياه ونزاعات الشرق الأوسط والدور التركي في الغد المنظور ومكانة الصين بين القوى العظمى خلال القرن الحادي والعشرين.
هذه الرهانات كلها يحاول «إيف لاكوست» إلقاء الضوء عليها وتحليلها من خلال مسيرتها التاريخية المتطورة وصولا إلى المرحلة الراهنة. ويقدم لقارئه عشرات الخرائط والجداول الإحصائية التي استقاها من الهيئات المختصة.يقوم «إيف لاكوست» في البداية بمحاولة رسم لوحة عيانية للواقع الجيوسياسي العالمي اليوم وتحديد رهاناته الأساسية.
إنه يؤكد على أن مسألة الطاقة لا تزال ذات اهمية كبيرة بالنسبة لليوم وللغد القريب وليس فقط من زاوية الحاجة المتزايدة لهذه الطاقة بفعل تعاظم حركة التصنيع، ولكن أيضا من زاوية مشكلة التلوث وأخطارها على البيئة. ومهما يكن من امر الأخطار المهددة للبيئة فإن مؤلف هذا الكتاب يرى أن منطقة إنتاج البترول ستبقى مسرحا لتوترات كبيرة وأرض نزاعات محتملة، خاصة في منطقة الخليج التي تحتوي على أكبر احتياطي لمصادر الطاقة في العالم.
ويشير المؤلف في هذا السياق إلى الأهمية الجيوسياسية لمنطقة بحر قزوين، وحتى لو لم يكن أكيدا، حسب رأيه، أنها تمتلك من الاحتياطي البترولي الكميات التي كان جرى الإعلان عنها في نهاية عقد التسعينات الماضي. مع ذلك تبقى أهمية هذه المنطقة كبيرة بالنسبة للصين خاصة انها لا تمتلك ما يكفي طلبها من الطاقة.
من هنا يقام اليوم في منطقة قزوين مشروعان كبيران لأنابيب الغاز والبترول، المشروع الأول في شرق المنطقة حيث يوجد الممر المعروف باسم «باب زنغاري» الذي اكتسب شهرة طويلة منذ القرون الوسطى، إذ من خلال هذا الممر انطلق جنود المغول بخيولهم كي يجتاحوا مناطق واسعة ويهدموا إمبراطوريات قائمة.
ويشير المؤلف، المؤرخ والجغرافي، إلى أن الاسكندر الأكبر كان قد تحدث كثيرا عن ذلك الممر لكنه تخلّى عن فكرة دفع جنوده للمرور عبره وتوقف عند مدينة «سمرقند». ولو أنه لم يتوقف فلربما أن أبواب الصين كانت مفتوحة أمامه؛ وهذا يعني أن «باب زنغاري» كان يمثل رهانا استراتيجيا كبيرا في الماضي ولا يزال كذلك حتى اليوم، وبالتأكيد حتى الغد، كما يرى مؤلف هذا الكتاب.
أما المشروع الاستراتيجي الآخر الذي تشهده منطقة بحر قزوين فإنه يتعلق بتصدير منتوجات الطاقة إلى الصين عبر الطريق البحري. وهذا يتطلب المرور جنوب باكستان وبعد ذلك يتجه نحو بحر عُمان. هذه المنطقة يرى بها مؤلف الكتاب مسرح نزاع ومواجهات مسلّحة محتملة بين الغربيين والصينيين، هذا إلى جانب منطقة أخرى تتمثل في مضيق تايوان الذي يمثل ممرا إجباريا لنفط الشرق الأوسط وغازه نحو اليابان التي تعتمد أساسا في مصادر طاقتها على هذه المنطقة من العالم.
إن البترول والغاز مادتان أوليتان إستراتيجيتان تدور حولهما ومن أجلهما رهانات كثيرة. ولكنهما ليستا الوحيدتين، إذ هناك مادة أولية أخرى أصبحت لا تقل «إستراتيجية» عنهما وتتمثل في الماء؛ فمشكلة المياه زاد تهديدها، كما يشرح إيف لاكوست، بالنسبة للعالم على مستويين. الأول كمّي نظرا للزيادة السكانية الكبيرة في العالم وتعاظم الصناعات والزراعات، وهذا كله يترتب عليه زيادة كبيرة في الطلب على المياه بينما بقي العرض على حاله ولم يتغير.
والمستوى الآخر هو نوعي، إذ أن المياه تشكل في مناطق كثيرة من العالم، لاسيما في القارة الإفريقية وبدرجة أقل في بقية مناطق العالم الثالث، مشكلة صحة عامة حقيقية.ويركز المؤلف في تحليلاته لرهان المياه على واقع أن الشح بهذه المادة الحيوية التي كانت قبل عدة عقود قليلة من الزمن فقط متاعا عاما، إنما يعود - أي الشح- إلى مستجدات مناخية شهدتها الكرة الأرضية.
وإذا كانت هناك بلدان عديدة تعاني من أزمة مياه حقيقية فإن بعضها تتوصل إلى حلّها دون عناء كبير إذ أنها تمتلك كل الإمكانيات التقنية والمالية لجلب المياه من مسافات قد تصل أحيانا إلى آلاف الكيلومترات. وهذا ما هو قائم فعليا في الولايات المتحدة الأميركية، وفي ليبيا أيضا. ولكن في جميع هذه الحالات تطرح مشكلة نوعية المواد المستخدمة في صناعة الأنابيب والتي قد يكون لها تأثيراتها السيئة على نوعية المياه ذاتها.
أما المشاكل الكبرى المتعلقة بالمياه اليوم فإنها تخص المدن والتجمعات السكانية الكبرى. هذا إلى جانب مفارقة أن «ثمن» الماء في الأحياء الفقيرة هو عامة بعدة أضعاف عن ثمنه في الأحياء الغنية. وهذا يطرح نفسه مشكلة حقيقية لها تاريخيتها أيضا، إذ يبيّن المؤلف في هذا الإطار كيف أن شركات المياه في أوروبا كانت قد أبرمت في أواسط القرن التاسع عشر اتفاقيات مع البلديات باعتبارها هي المستهلكة للمياه.
لم يكن الأمر يتعلق آنذاك بالربح المادي وإنما بإجراء يرمي إلى مكافحة وباء الكوليرا. ويشير المؤلف هنا إلى أن نابليون الثالث كان قد اتخذ قرارات بشأن مكافحة ذلك الوباء، وهي لا تزال سارية المفعول حتى الحقبة الحاضرة. وكان تهديد «الكوليرا» هو الدافع الأساسي لبناء مجارير في المدن. و«المجارير التي بنيت في ظل عهد نابليون الثالث لا تزال تعمل بشكل جيد حتى الآن»، كما يؤكد مؤلف هذا الكتاب قبل أن يشير إلى استحالة الفصل بين مشكلة المياه ومشكلة المجارير. وحيث إن الوضع الصحي في الأغلبية العظمى لمدن العالم الثالث هو «مثير للرعب» اليوم.
ولكن هل حرب المياه ممكنة؟ العديد من المراقبين لا يرون أنها ممكنة فحسب، وإنما هي «واقعة» بالفعل، وذلك على أساس أنها ليست بعيدة عن مطامع إسرائيل في جنوب لبنان. وهناك أيضا النزاعات الكامنة حول مياه نهر الفرات وحيث يشير المؤلف إلى المشروع الكبير الخاص بإنشاء خط أنابيب لاستقدام المياه انطلاقا من السدود التركية على الفرات وصولا إلى الرياض في المملكة العربية السعودية؛ والذي يتم التخطيط له منذ فترة طويلة ولكنه لا يزال يلاقي حتى الآن معارضة سورية له.
ويلحّ المؤلف أيضا في موضوع المياه على أنه ستكون هناك آثار سلبية كبيرة لارتفاع درجة حرارة الأرض، وذلك على المستويين الجغرافي والجيوسياسي. هذا لاسيما بسبب النتائج المترتبة على ارتفاع مستوى البحار والزيادات الكبيرة في الأمطار الهاطلة على منطقة جنوب شرق آسيا حيث توجد أنهار كبيرة ومرتفعة الغزارة وقد تهدد بحدوث فيضانات على مناطق سهلية واسعة ذات كثافة سكانية كبيرة أحيانا.
وفي معرض الحديث عن الحرب الأخيرة في العراق ونتائجها الإقليمية والدولية القريبة والبعيدة، وحيث يبدو الخطر الأول هو على صعيد العراق نفسه حيث تتضاءل فاعلية العناصر التي تشكل وحدته. بل على العكس يبدو أن المعطيات الاثنية والقبلية والدينية كلها تذهب في اتجاه آخر، ومع تأكيد المؤلف على أن الحرب الأميركية ـ البريطانية قد خلقت حالة من الفوضى يبدو أنه قد أصبح من الصعب معها توقع العودة إلى الاستقرار الدائم بسرعة. كما أن مسألة الانسحاب الأميركي من العراق، رغم أنه مرغوب من قبل الكونغرس حسب تحليلات المؤلف.قد أصبحت إشكالية بحد ذاتها. ذلك أنها في السياق الحالي ستبدو بمثابة انتصار للمجموعات المتطرفة. الأمر الذي سوف تكون له نتائجه الخطيرة، حسب تحليلات المؤلف دائما، في مجمل العالم الإسلامي؛ وخاصة في بلدان المغرب العربي ولكن أيضا في ضواحي المدن الأوروبية الكبرى التي تقطنها أعداد كبيرة من المهاجرين ذوي الأصول الإسلامية.وفي المحصلة يؤكد المؤلف على أهمية الجغرافية دائما ويرى أن المبدأ الذي قال به دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأميركي، ومفاده أن الحرب الإلكترونية والفضائية سوف تحل جميع المشاكل على الأرض إنما هو مبدأ خاطئ، وإنه ينطبق تحديدا على أوضاع «عابرة» لن تدوم.
«جيوسياسة: التاريخ المديد لليوم الراهن» هو كتاب واضح ويقدم رؤية شاملة ومفصلة لأوضاع العالم الذي نعيش فيه ولرهاناته المستقبلية بعيدا عن جميع التفسيرات والمقولات الرسمية، فالمهم هنا هو التاريخ والجغرافيا وكيف يتفاعلان من أجل صياغة الواقع في سياق معيّن وفي لحظة معيّنة. إن هذا الكتاب الجدّي والحيوي بنفس الوقت تمكن قراءته «مثل رواية» كما يقال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أزمة غلاء المعيشة في بريطانيا تجعل الناس أكثر قلقا بشأن أداء


.. أخبار الساعة | رئيس الصين يزور فرنسا وسط توترات اقتصادية وتج




.. الاقتصاد أولاً ثم السياسة .. مفتاح زيارة الرئيس الصيني الى ب


.. أسعار الذهب اليوم الأحد 05 مايو 2024




.. رئيس مجلس النواب الأميركي: سنطرح إلغاء الإعفاءات الضريبية عن