الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الضعف المؤسساتي والحالة الفلسطينية

رولا سرحان

2008 / 2 / 11
القضية الفلسطينية


إن ما تشهده الأراضي الفلسطينية اليوم من حالة انقسام غير مسبوقة بين الأشقاء الفلسطينيين، وصلت إلى حد القطيعة المعلنة، وتوجيه الاتهامات المتبادلة من كل طرف إلى الطرف الآخر، إنما تعود إلى حالة الضعف المؤسساتي الذي تُعاني منه السلطة الفلسطينية منذ تأسيسها، وفشل الفلسطينيين في بناء مؤسسات قادرة على احتواء التوترات السياسية المصاحبة لعملية التحولات المجتمعية- السياسية. وهذا الأمر هو الركيزة الأهم الذي افتقرت له السلطة منذ البدايات الأولى لتأسيسها، والذي جاء نتيجة عدة أسباب رئيسة أبرزها؛ التركيبة التي أُنشئت على أساسها السلطة بموجب اتفاقيات أوسلو، إلى جانب الكرزماتية العالية التي كان يتحلى بها الرئيس الراحل ياسر عرفات وأسلوبه في إدارة السلطة، فضلاً عن السياسة الإسرائيلية الممنهجة في تدمير البنى التحتية للمؤسسات الفلسطينية، وفشل الفلسطينيين في زرع ثقافة الديموقراطية كجزء أساس من بنية وتركيبة مؤسساتهم السياسية والمجتمعية.
هذه الأسباب مجتمعة، إلى جانب أسباب أخرى سيرد ذكرها لاحقاً، قوضت إمكانيات قيام لبنات مؤسساتية حقيقية بإمكانها الصمود أمام التفاعلات والصراعات السياسية، بحيث تقوم بمهمة توفير الحلول لأزماتِ عمليةِ صناعة القرار والتنافس بين الفصائل والأحزاب السياسية الفلسطينية، ما كانت نتيجته سيطرة حركة "حماس" على قطاع غزة عبر الحسم العسكري، والذي سبقه حالة الاقتتال الفلسطيني- الفلسطيني بين الأشقاء من حركتي "فتح" و"حماس"، ما أوشك جميعه أن يُضيع ما تبقى للفلسطينيين من مكتسبات وطنية، وزاد من عوامل التفكك الفلسطيني وإضعافه لصالح عدوه الإسرائيلي، وأدى إلى إحداث شرخ عامودي في العلاقات السياسية بين أطراف اللعبة السياسية الفلسطينية، وبالنتيجة تحويل جزء من الشعب الفلسطيني إلى خارج عن الشرعية- بحسب تعبير فتح، وآخر فاقد للأهلية الدستورية- بحسب تعبير حركة "حماس".

خلفية إنشاء المؤسسات الفلسطينية
تأسست المؤسسات الفلسطينية كنتيجة لإنشاء السلطة الفلسطينية عام 1994، وفق الصلاحيات التي مُنحت لها بموجب اتفاقية أوسلو. ورغم تجاوز النظام السياسي الفلسطيني الحالي بنصوصه الدستورية وبنيته القانونية النظام السياسي المحدد بموجب اتفاقيات أوسلو، إلاّ أن الصلاحيات الممنوحة لإدارة الحكم الذاتي الفلسطيني بقيت إلى حد كبير هي ذاتها. غير أنه يجوز القول في هذا المقام، إن صلاحيات إدارة الحكم في المناطق الفلسطينية وآلياته كانت سلطوية (Authoritarian) واقتربت في كثير من الأحيان لأن تكون شمولية (Totalitarian)، بحيث كانت شبيهة بآلية ممارسة الحكم في الكثير من الدول العربية، إذ كان يتم تهميش المؤسسات السياسية أو إضعافها لتكون مجرد هياكل بلا فاعلية حقيقية.
بلا شك، كانت لحظة إنشاء المؤسسات الفلسطينية لحظة تاريخية في حياة الفلسطينيين الذين استقبلوها بحفاوة شعبية وهالة من التفاؤل العارمين، بحيث حصلت هذه المؤسسات على شرعيتها من الشرعية الشعبية التي صاحبت التحوّل والمنعطف السياسي في تاريخ القضية الفلسطينية مع توقيع اتفاق أوسلو. إلاّ أنه، ومع مرور الوقت بدأت تفقد المؤسسات الفلسطينية هالتها وبدأ ضعفها وهشاشتها يظهران للعيان، بل أخذت شيئاً فشيئاً تفقد شرعيتها الشعبية لعدة أسباب أبرزها:

أولاً: ارتباط المؤسسات الفلسطينية باتفاق أوسلو
استقبل الفلسطينيون عودة قيادتهم السياسية من المنافي إلى أرض الوطن على إثر توقيع اتفاق أوسلو بحفاوة عارمة، وعلّقوا آمالا كبيرة على الاتفاق نتيجة الوعود المتضخمة التي أحاطت بمجريات وحيثيات عملية التوقيع. غير أن هذا الدعم والتأييد الشعبيين للاتفاق لم يستمرا طويلاً، خاصة في ظل الفشل في التوصل إلى مقاربة منطقية بين ما وُعد الفلسطينيون به من نتائج لهذا الاتفاق وبين ما طُبق على الأرض، إذ تخطت الوعود بكثير ما تم التوقيع عليه. بالتالي بدأت شرعية الاتفاق تنهار شيئاً فشيئاً، وكذلك شرعية كل ما تمخض عنه من مؤسسات وهيئات سياسية. خاصة، مع إدراك الفلسطينيين أن ما تم تأسيسه من مؤسسات لا يتعدى كونه مجرد هياكل فارغة لا تملك أن تكون صاحبة قرار فعلي في إدارة الأمور الحياتية الأساسية للفلسطينيين أو في توفير الأمن لهم والتدليل على أنه بإمكانها بسط سيادة فلسطينية على أرض الواقع.

ثانياً: انقسام الموقف السياسي الفلسطيني حيال اتفاق أوسلو وما تمخض عنه
بينما نظر البعض إلى اتفاق أوسلو على أساس كونه إنجازاً تاريخياً للشعب الفلسطيني، نظرت إليه الفصائل الفلسطينية الأخرى على أنه دون الحقوق والثوابت الفلسطينية، ما حدا بها إلى مقاطعة الانتخابات التي أجريت على أساسه عام 1996، في محاولة أولى للطعن في شرعية المؤسسات التي نتجت عنه، والتي كان أهمها المجلس التشريعي الفلسطيني الأول. وما حدا بفصائل أخرى؛ أبرزها حركة حماس والجهاد الإسلامي، إلى تبني سياسة تهدف إلى إفشال هذا الاتفاق، وبالتالي سحب الشرعية عنه وعن نتائجه. وقد زاد الانقسام في المواقف الفلسطينية من إضعاف شرعية المؤسسات الفلسطينية، خاصة بعد أن أصبحت الأخيرة وسيلة وأداة تستخدم لضرب المعارضين لاتفاقات أوسلو.

ثالثاً: آلية البناء البشري المؤسساتي
قامت مؤسسات السلطة على آلية رفد بشري مؤسساتي مشوهة وتقوم على المحاباة، وافتقارها إلى آلية تعيينات مهنية واضحة وتستند إلى الكفاءة معياراً للقبول في الوظيفة العامة. بل كانت الوساطة والمحسوبية إلى جانب الانتماء الحزبي هي عوامل التنسيب للوظيفة العمومية. فكانت عملية التعيينات تتم بالاستناد إلى درجة القرابة العائلية أو الجهوية أو الفصائلية، وبعد اجتياز اختبار أمني (اختبار السلامة الأمنية) للتأكد من الانتماء السياسي، وبما يضمن في نهاية المطاف عدم اختراق هذه المؤسسات فصائلياً عبر شراء الذمم والولاء السياسي.
فكانت النتيجة مؤسسات ضعيفة تفتقر إلى الكفاءات البشرية المهنية المؤهلة، ومؤسسات بيروقراطية مسيسة خلقت جيشاً من البطالة المقنعة وحجم تضخم وظيفي هائل.

رابعاً: آلية الإدارة المؤسساتية
تفتقر المؤسسات الفلسطينية إلى آليات إدارة مؤسساتية واضحة. ورغم إقرار بعض القوانين الهامة في هذا المجال، مثل قانون الخدمة المدنية، وقانون الخدمة في قوى الأمن، إلاّ أن هذه القوانين تفتقر إلى أنظمة ولوائح تنفيذية تفسيرية، بحيث بقيت في مجملها مجرد قواعد عامة، خاضعة للتفسيرات الذاتية. ومن جانب آخر فإن المؤسسات الفلسطينية أخذت تدار بطريقة مركزية وهرمية شديدتين، وتستند في الأساس إلى الشخصانية والتفرد في عملية صناعة القرار المؤسساتي الداخلي، هذا فضلاً عن ارتباطها الشديد بهرم السلطة الفلسطينية، بحيث كانت عملية اتخاذ القرار عملية عامودية من قمة الهرم إلى قاعدته. وبالتالي، فشلت هذه المؤسسات في تقديم نموذج مهني حقيقي مؤهل لأن يقوم بإدارة كفؤة للشؤون اليومية للفلسطينيين.

خامساً: مُعامل الفساد وغياب جهاز رقابي فاعل
إن علاقة الفساد وضعف مؤسسات السلطة السياسية هي علاقة في اتجاهين تبادليين، فكلما استشرى الفساد كلما قلت فعالية المؤسسات العامة، وكلما ضعفت المؤسسات العامة كلما زاد الفساد استشراءً والعكس صحيح. والملاحظ أن أحد أسباب ضعف مؤسسات السلطة الفلسطينية ووصولها إبان الحصار الذي فُرض على الفلسطينيين خلال العام 2006 إثر فوز حركة "حماس" بالانتخابات التشريعية إلى مرحلة الانهيار شبه التام، هو الفساد الذي كان مستشرياً في معظم مؤسساتها السياسية، نتيجة غياب جسم رقابي حقيقي يُمارس مهمة محاسبية ذات فعالية. إذ تم إضعاف المجلس التشريعي الأول لصالح السلطة التنفيذية، وجرى تقويض كافة الجهود الهادفة إلى إصلاح المؤسسات الفلسطينية، ولم تجر متابعة جادة وحقيقية للتقارير التي كانت تصدرها مؤسسات دولية، ومؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني في هذا الشأن، فتم إغلاق التقرير الرسمي الوحيد الذي أصدرته هيئة الرقابة العامة في عام 1995، ولم يقدم أي تقرير بعده، وجرى التعامل بلا مبالاة مع المطالبات المحلية بإصلاح الأجهزة الأمنية وتفعيل السلطة القضائية والحرص على استقلاليتها.
كما كان لتسييس الجهاز البيروقراطي، المستند إلى التعيين العشوائي وعبر الوساطة والمحسوبية وبأعداد خرافية بالغ الأثر في تقويض صمود الفلسطينيين في وجه الضغوطات الدولية خلال العام ونصف العام الماضيين. فبحسب استطلاع الرأي الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في أواخر عام 2004 لصالح ائتلاف (أمان)، لقياس أحد مصادر الرئيسة لانتشار الفساد في السلطة الفلسطينية، فقد أشار الاستطلاع إلى أن الوساطة هي الشكل الصارخ والأكثر شيوعاً من أشكال الفساد في السلطة يليها كلٌ من الرشوة واستغلال الموارد العامة للمصلحة الشخصية. إن ضعف المؤسسات الفلسطينية، وغياب رقابة مالية وإدارية حقيقية، بل وغياب جهاز إداري يستطيع متابعة شكاوى المواطنين، تجاه الممارسات المالية والإدارية غير السليمة في أروقة السلطة، أدى كانت نتيجته ما تجلى من ضعف في المؤسسات العامة الفلسطينية خلال العام ونصف العام الماضيين، نتيجة الحصار والمقاطعة الدوليين الذين فرضا على الشعب الفلسطيني.

سادساً: غياب ثقافة سياسية مؤسساتية
ربما باستطاعتنا القول في هذا المقام أن الفلسطينيين كانوا مهيئين أكثر من غيرهم من شعوب الدول العربية لتقبل ثقافة سياسية ديمقراطية مؤسساتية حقيقية. إذ كان الفلسطينيون متعطشين فعلاً لبناء دولة مؤسسات تُقارب الدول الغربية في أنموذجيتها، وتقوم على مبادئ الممارسة الديموقراطية الحقيقية. فسنوات القهر والاحتلال علمت الفلسطينيين معنى الحرية والاستقلال والكرامة، وأهمية أن يكون لهم كيان دولي يُمارسون من خلاله قيم المجتمع المدني المتحضر المستقل. إلاّ أنه وللأسف الشديد، لم تدرك القيادة الفلسطينية أهمية الاستفادة من هذه اللحظة الحساسة في التاريخ الفلسطيني، والإمكانيات والطاقات المتفجرة المصاحبة لها، والكيفية المثلى لاستثمارها، بل على العكس من ذلك، قامت بممارسات أدت إلى استشراء الفساد، وغياب العمل المؤسسي. فاشتُريت الذمم، واُستسهلت الممارسات غير السليمة سبيلاً للوصول إلى مبتغياته. فدُمرت البذرة النقية التي احتضنها الفلسطينيون طويلاً تمهيداً لممارستها في ظل قيادة فلسطينية شرعية، فغابت عنهم، وهي اليوم تحتاج إلى فترة طويلة من الزمن كي يتم غرسها فيهم من جديد، والتخلص من ممارسات التي تعودوا عليها.

سابعاً: تأثير الراحل عرفات وإرث منظمة التحرير
لا ينكر أحدٌ، حجم ما قدمه الراحل ياسر عرفات للقضية وللشعب الفلسطيني، غير أنه وعلى الرغم من المكاسب الكبيرة التي حققها للفلسطينيين بفضل حنكته السياسية وكرزماتيته العالية، إلاّ أنها كانت على حساب تدعيم البنى المؤسساتية لكينونة الدولة الفلسطينية المستقبلية، خاصة في ظل نهج وأسلوب إدارته للحكم.
لقد كانت المؤسسات الفلسطينية التي تم إنشاؤها مع تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994، تدار بشخصانية عالية، استندت بالأساس إلى حجم الصلاحيات التي منحت لرئيس السلطة الفلسطينية حينها بموجب اتفاقات أوسلو أولاً، وحجم الصلاحيات التي منحها الراحل ياسر عرفات لنفسه ثانياً، وثالثاً، بموجب الآليات التي ورثتها السلطة عن المنظمة. فقد نجم عن غموض العلاقة بين منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية إفراز قيادة غير خاضعة لرقابة المجلس التشريعي عُرفت حينها بـ "القيادة الفلسطينية" والتي كانت تتضمن خليطاً من أعضاء منظمة التحرير وفريق المفاوضات وأعضاء في المجلس التشريعي، فكانت منبراً يتخذ قرارات مصيرية ولا يخضع للمساءلة. الأمر الذي انعكس سلباً على آلية ممارسة العمل السياسي وأضعف المؤسسات السياسية المنبثقة عن اتفاقيات أوسلو والتابعة للسلطة.

النتيجة
إن الحالة الفلسطينية لجهة شكل عملية صناعة القرار، لا تختلف في جوهرها عن الحالة السائدة في العالم العربي، بل هي انعكاسٌ لها لكن بطريقة أخرى. فالسمة الغالبة على المؤسسات السياسية في الدول العربية هي بيروقراطيتها السلطوية القوية والتي هي امتداد لشخصية القائد السياسي، وامتداد لتوجهاته ومشيئته. إذ اعتمدت الدول العربية أسلوب تعزيز مؤسسات الدولة لتدعيم سلطتها السياسية في ممارسة الحكم، بحيث يظل الانضباط قائماً، حتى في ظل غياب شرعية سياسية حقيقية تؤطر الممارسة السياسية. أمّا في الحالة الفلسطينية، فإن مركزية العمل السياسي في يد الراحل عرفات، أدت إلى إضعاف المؤسسات السياسية، إذ كان يجري التعويل على شبكة العلاقات الشخصية المباشرة بدلاً من شبكة العلاقات المؤسساتية. والضعف الشديد الذي وصلت إليه المؤسسات السياسية الفلسطينية، بدأت نتائجها تتجلى للعيان في الوقت الراهن، فوصل الأمر إلى حالة الانقسام الفلسطيني والتنكر إلى أهمية الوحدة الوطنية.

لقد كانت النتيجة الرئيسة للأسباب آنفة الذكر، أن أصبح يُصار إلى حسم عملية صناعة القرار السياسي الفلسطيني في داخل المجتمع وفي الميدان وليس في أروقة المؤسسات السياسية العامة، إذ أخذ ينعدم التعويل على المؤسسة السياسية كأداة لصناعة القرار، بل بدأ يتبلور توجه جديد ينحو باتجاه تهميش المؤسسات القائمة، ما لم يكن بالإمكان السيطرة عليها. فكانت الحسابات الفصائلية المشخصنة هي المعيار الذي تتحدد بموجبه عملية صناعة القرار، وكان الشارع ساحة لتنفيذه، والانقسام الفلسطيني-الفلسطيني نتيجة هذا التنفيذ.

باحثة فلسطينية-طالبة دكتوراه في العلوم السياسية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشيف عمر.. طريقة أشهى ا?كلات يوم الجمعة من كبسة ومندي وبريا


.. المغرب.. تطبيق -المعقول- للزواج يثير جدلا واسعا




.. حزب الله ينفي تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي بالقضاء على نصف


.. بودكاست بداية الحكاية: قصة التوقيت الصيفي وحب الحشرات




.. وزارة الدفاع الأميركية تعلن بدء تشييد رصيف بحري قبالة قطاع غ