الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البحث عن أزمنة بيضاء - 1 -

غريب عسقلاني

2008 / 2 / 12
الادب والفن


اهداء إلى

فوزية مهران، التي تقرأ في قاموس البحر سيرة ربانها الذي رحل وشمس الغافية على ذراع البحر في ظل شراع شاخت ساريته.
امرأتان من عطش, تعيشان شهوات الأمكنة في أزمنة بيضاء
"غريب عسقلاني"

- 1-
عود ثقاب في ظلمة حالكة

القطار يأخذني إلى هناك، يحملني مع أسئلتي:
كيف تقطع امرأة زوادتها حفنة من أعواد ثقاب دروب العتمة، كم هي مساحة ضوء عود الثقاب،وكم هي العتمة التي تضاف الى كثافة الظلام بعد موت العود؟ وهل تنزع العتمة المكان عن أزمنته،أم أن المكان يغادر المكان،كما الزمن يترك أزمنة خلفه سيرة يتناقلها الناس، وتشهد عليها الآثار علامات واشارات، تطرح من الاختلاف أضعاف ما تكسبه من الاتفاق
التواريخ محطات تتحرك لكن الأمكنة حضور دائم. وعود الثقاب يذهب الى الموت قبل أن يرضع طعم الحقيقة.إلا من حقيقة لهب تمتصه اسفنجة العتمة.
الدروب باقية ترفع راياتها.
والعجوز أم بشير لم تدركني طفلاً, بكت عندما وضعت كفها على عين صدري وقالت:
- أنت مرجوم باللهاث يا ولد.احذر الذهاب مبكرا إلى الموت.
أدركت فيما بعد أن اللهاث يسوقني الى نهايات غير محددة، ويدفعني الى اسئلة معترضة. وها هو القطار لا يحيد عن سكتة، ولا يتوقف عند المحطات حتى يدرك محطته الوحيدة والأخيرة.
أم بشير التي بذلت شبابها في ارضاع الفقراء واليتامى، أنجبت ذرية لم تلدها, قالت وكانت على يقين :
- العشاق يسترشدون بقناديل قلوبهم في العتمة.
- كيف ذلك؟.
- فتيل القنديل يرضع من زيت القلب. يتوهج ولا يحترق.
أم بشير يسكن وجهها وهج دائم يذكرني بلطيفة، يذكرني بدقات قلبي التي هدأت عندما قبلت يدها الكريمة.
والآن يحملني القطار الى شمس.
في القطار أمارس اللهاث، وأشتاق لصدر أغفو عليه..وشمس نادتني عبر الهاتف، أيقظت فيّ كل نسائي اللواتي عرفت في الموانئ والمحطات والأسواق والأرصفة والمخيمات والشواطئ. نسائي قفزن الى عربة القطار وأخذن مقاعدهن. راجفات/ واجمات/ راغبات/ جافلات/ مبتورات الرعشات.
والمرأة شمس تنتظر.
هل كان ميعاد بيننا ؟هل يسكنها اللهاث مثلي...؟؟
القطار يقترب من محطته الأخيرة، تعبرني الدهشة. كيف سيكون الأمر مع امرأة تنام على ذراع البحر، وبحرها الذي يسكن رئتيها بعيد.بعيد
الهاتف النقال يصدر النداء:
- لا تتأخر يا غريب.
- أنا في الطريق اليك يا شمس.
نسائي يختبئن في زواياهن بانتظار لحظة حضور، وهج يشع من مقلتيكِ.
- كيف عرفتني والرصيف زحام ولا صور بيننا؟!.
- يزودني اللهاث بقدرة رسم المرأة من صوتها.
- كم أنت مثقل يا رجل؟
عبرتني مثل ضوء خاطف، وانكشفت لي قدرة أعواد الثقاب، وأنا الهارب الى محطة راحة حاملاً معي الإسكندرية. لعلني أعثر على صبية تعلقت بذراعي يوماً وتبادلنا القبل عند عتبة المسلة قبل ثلاثين سنة عندما كنت طالب علم في الجامعة .
مثقل أنا يا سيدتي/ أبحث عن فصولي، الملم بقاياها من الطرقات ومن أصداف الشواطئ أعيدها كائنات لها جغرافية خاصة بي أرسمها على الورق وأمارس جنون الخلق تملأني شهوة الرواية، أتلظى على جمرة مشتعلة.

* * *
الوقت ليل
والمكان مقهى صغير على الشاطئ
على فنجان شاي استرحنا، صوتها يصلني دون هاتف، وجع صوتها هو ذات الوجع الذي طالما سمعته في أحاديثها وقصصها.
غادرت المقهى وعدت بعلبة كبريت، فرغتُ الأعواد في طبق خزفي أشعلتها دفعة واحدة، دفقة ضوء، أضاءت وجوه رواد المقهى، وقبل أن يبدأ خوف النادل من كتلة اللهب، صمت الوهج وانطفأ على كتلة متفحمة لأعواد هشة تلوت على جفاف أسود.
انفجرت شمس بالضحك حتى البكاء. قالت:
- في رسائلك تطلبني الى الإشتعال، وتحذرني من الاحتراق. هل هو المستحيل أم في الأمر أحجية؟
- السرعند لطيفة يا شمس، أول برعمة حب في حياتكِ كما أخبرتني عبر الرسائل.
حط عليها السهوم، وراحت تراقب بقع ضوئية في قلب الماء، كان الماء يعكس صورة القناديل في سقف المقهى، قلت أبدد سكوناً تربع بيننا:
- هل تحترق مصابيح الماء يا شمس ؟
- إنها صور للمصابيح فكيف تحترق ؟
- هي براعم لطيفة.
بكت شمس وأخذتها بحةً قديمةً:
- غلبتني..
حاولت أن أدخل معها دوائر أخرى بادرتني:
- أنا لست سوداء، ولكنه الليل سودني بجناحيه.
- أنتِ لا تحفظينَ دروس الماء، أشعلي قناديلك، تمسكين بالأزمنة.
- كيف؟
- عندما يصبح الزمن مكاناً للإقامة.
- يحدث ذلك في الروايات فقط.
عدت إلى لهاثي فهجمت علىّ :
- صديقتي فوزية مهران كانت تبحث عن رجل يحمل اسمين، فوجدته في أسطورة فرعونية، في أي الأساطير أعثر عليكَ يا غريب؟.
وجدت طوق نجاة أتعلق به قلت:
- ذهب الفراعنة وبقيت الأسطورة تستدعي الأزمنة والأمكنة والأسماء.

* * *
ليل الإسكندرية يغري بالمشي..
تنقلنا الطرقات على أجنحة الحكايات، حدثتني عن أبيها وكيف كانت تقطع معه السوافي عند البحر حافية، يحكى لها. تستمع إليه بشغف، وتشاكسه، يأخذها باللين، ويصوم عن حكايات كي لا تكبر مشاعرها على حزن عميق وكبير تتسلل إلى مسامات وجنتيه فترى بحيرة دموع دفينة، ظلت الدموع حتى مات فسكنتها، همست شمس بسؤال يؤرقها:
- هل غابت الأمكنة مع موت أبي؟
يركبني الجنون..
- كيف تموت الأمكنة يا امرأة؟
إعترضتنا صبية بكوزين من ذرة مشوية، الذرة دافئةٌ، بخار النار يتصاعد من بين حبيباتها, البخار دعوة لألفة المشوار.
قضمت شمس حبيبات الذرة، وزمّت فمها، وأخذت تمضغ بهدوء..ضحكتُ نظرت نحوي مستفسرة..ضحكتُ، فالتهمت مزيداً من الذرة حتى انتفخ فمها، وأخذت تمضغ بسرعة، أعاقتها حشوة فمها عن الكلام قلت :
- لنأخذ راحة عن الكلام.
وواصلنا المشي وكنا صامتين ننهش لحم الذرة المشوية والربيع ينشر نسيماً لطيفاً، ألقت شمس بقايا الكوز في سلة نفايات وفركت كفيها تمسح بقايا سواد الشواء قالت :
- ماذا تكتب هذه الأيام يا غريب؟
- أبحث عن موضوع يا شمس.
شاكستني وفتحت بوابة أخرى :
- قد تكون شمس موضوعك الجديد.
- حدثيني اذن.
تأتأت..كانت تبحث عن حكايات محايدة قلت:
- في رسائلك تكوني أكثر جرأة.
- ربما..
- أنت حكاية.
- فلتكتب إذن.
امرأة تعيش الأرق..تحمل غربتها، تصبح أوسع من مساحات الأجندات والتواريخ، يومها يتوزع بين ابتسام وعبوس، هل يسكن الحلم في برزخ بين الفرحة والألم، وكيف يزهر والحياة جفاف في كنف رجل اختارته وليفا, فاكتشفت انه أصغر من نقطة على سطر في دفاترها.
أوراق دفاترها سهول وأنهار وجداول وصحارى, فكيف يختزلها رجلٌ طموحه أقصر من كيس معدته وكيس نقوده أطول من قامته، امرأةٌُ تدخل المذبح كل يوم وتخرج عفيةً تبحث عن نقاهةٍ من جور التفاهة.
انتبهتُ على صوتها وقد اصبحت مشاغبة :
- لنجلس قليلاً أيها العجوز، أخاف عليك من التعب.
على مقعد جلسنا، البحر أمامنا يلطم وجه الصخور قالت :
- هل تشعر بالتعب؟
- لم أبدأ المشوار بعد.
ارتجفت شحمة ذقنها، كان لحم وجهها ينبض، أدركت أن البوح سيقبض على روح الحقيقة، قالت وقد امتطى بحة صوتها طيف نزق:
- ماذا تريد مني؟
- أنا اسمع فقط..وقطاري يقترب من محطة العودة إلى الوطن.
- سأطّير رسائلي اليك.
- من أنت يا شمس؟
- أنا روح. يبدأ جسدي من يدي التي تكتب وينتهي عندها.

* * *

شدت على يدي..هل ضبطت دمعة ناء بها صدري فطفرت من عيني، لوحت يدها صوتها يعلوعلى ضجيج القطار:
- لم تحدثني عن عطش الندى.
- سأحدثك طويلاً عن العطش.
- متى ؟
- عندما أعود مصطحباً زوجتي للعلاج من آفة النسيان.
- كيف تنسى من تعاشر رجلٌ بضاعته الحكايات.
على جفاف تيبس حلقي، عدت إلى اللهاث بحثاً عن امرأة الفصول التي لم تأت بعد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لما تعزم الكراش على سينما الصبح ??


.. موسيقى وأجواء بهجة في أول أيام العام الدراسى بجامعة القاهرة




.. بتكلفة 22 مليون جنيه.. قصر ثقافة الزعيم جمال عبد الناصر يخلد


.. الكلب رامبو بقى نجم سينمائي بس عايز ينام ?? في استوديو #معكم




.. الحب بين أبطال فيلم السيد رامبو -الصحاب- ?