الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البحث عن أزمنة بيضاء - 2 -

غريب عسقلاني

2008 / 2 / 13
الادب والفن



قناديل العتـمة
قطارنا يجتاز المحطات الأولى..
والمساحات الخضراء، تنسحب بسرعة مجنونة، وزوجتي تتكئ على زجاج نافذة مغلفة، تتبرعم على شفتيها ابتسامة آسفة، سرعان ما تسكن زاوية الفم زمّة حائرة خلف فكرة أو ربما رغبة ما..أتشاغل حتى لا تضبطني مع امرأة الحكاية فهي تصارع النسيان بعد ضربة حزن فجرت شعيرة دموية عند حافة الدماغ.
في زيارتنا الأولى أكد الطبيب بثقة العالم:
- الحالة أقل من جلطة، وسيمتص الجسم الدم المتخثر وتنتظم الذاكرة.
الريف بساط ريح يطير خلف القطار، محمل بكائناته الخضراء الخارجة لتوها من رحم بكر، وأنا المحاصر في مقصورة الحديد تعود بي الى القاهرة، محطة المواعيد وتقليب الأجندات خلفي امرأة كابرت على انفلات دموعها على رصيف سيدي جابر.. ما زالت تلاحقني وفارس يخرج من بطن الغيب، يلاحقني بالأسئلة، يرجمني بهموم جديدة.غاضبٌ تأخذه الحمية. حزينٌ لقصر ذات اليد، وشمس كابرت على انفلات دموعها عن رصيف المحطة..مازالت تلاحقني..تسكنني..
على الرصيف تسمرت ولوحت، رأيت ارتجاف زغب ذراعها، وتموجات بساط كفها، قتلني الحزن المختزن في أوردتها.
لوحت.. وانطلق القطار
ماذا تفعل الآن هناك؟
هل انكبت على روايتها، أم تراها تجوس دروب الاسكندرية، تبحث عن المساحات البيضاء.لعلها تصادف زمنا مازال على دفئه بعيداً عن رجل صارت ذراعه وسادة باردة.
زوجتي تعتب على سرعة القطار، التي لا تمكنها من متابعة العالم خلف زجاج النافذة، أخذت يدها، أطرد عنها الانفعال قلت:
- القطار سريع ولكنه مريح.
- الريف جميل ألا ترى.
- الريف لا يغير عاداته يا عزيزتي.
تهدج صوتها :
- الريف فقير!!.
يخرج أبي فجأة، يعصر حبة قلبي، يدميني ولا أملك الاعتذار وقد قطعت الوعد امتثالاً لرغبته/ الوصية.
"مرقدي في حضن الجميزة يا غريب."
وأنت يا من تلهثين مع الفصول، هل يدميك رفات حفظه أبوك في صندوق مبطن بمعدن لا يصدأ، حتى لا يتسرب الرفات في طين غير طينه. وكأنه أراد له أن يظل ضيفاً يقتات قديد الخبز، ويقبض على ثبوتيات هويته إلى أن يعود الى طينه الأول.
أبوكِ الذي يملك ناصية الدفاع قضى قبل أن تعود عظام الابن الذي فجرته عبوة غادرة، ذرّت لحمه ولكنها لم تنل عظامه، ما حيرّ الأطباء هناك وجعل من الحالة إشكالية مازالت قائمة لأن كل المطارح هناك ومطرح واحد هنا.
إنه الجنون عندما نخرج من هنا، تصبح كل المطارح هنا، ويصير مطرحنا هناك.. نعيش البلبلة!!
فعلى أي القواعد نتصالح مع مطارحنا.
أبي يؤكد:
"في الكرم توتة كبيرة نستحم في عبها، تحرسنا جميزة أبدية تستقبل الحساسين والهداهد والخضير وتطرد البوم والغربان".
وفي معرض تعرضه لصبابات العشق:
"قبل صلاة الفجر خبأتنا التوتة، وتطهرنا بماء بارد من آثار ليلة الدخلة، وخرجنا نحفر اسمينا على جذع الجميزة، فنشهدها وعلى سنة الله ورسوله" ان العبد العسقلاني قد عبر حلاله آمنة بنت ابراهيم..
أشاكسه مداعباً :
- ولماذا الجميزة بالذات يا ختيار، ألا تخاف على آمنة من لسع دبور؟
يتلمظ وتنط من عينه العتيقة ذبالة حب شقى:
- الجميزة قديمة في عسقلان، وفي عسقلان فقط تطرح سبعة بطون، والجميزة بشرتها لينة مطيعة للخدش، وتنز حليباً سرعان ما يتخثر عن أثر أزلي.
أية أزمان عاشوا، وعلى أي طعام اقتاتوا، وأي سرائر بيضاء عاشروا وأنا الذي خرجوا بي رضيعاً حملت الحكاية عشرين عاماً، حتى اذا انفتحت البلاد إثر احتلال النكسة، طيرني شوقي، غابت التوتة (قطعوها) والجميزة لا زالت تنتظر، والوشم على جلدها محاط بدرنات من قيح يستنكر ما جرى لآمنة بنت إبراهيم وزوجها العبد العسقلاني.
وها هو أبي الذي رحل يطل عليّ في علبة القطار يعذبني، فالجميزة مازالت تطالب برفاته، وقد هجرتها الحساسين وطيور الخضير ربما حزناً على دفن رفات العبد العسقلاني في رمالٍ بعيدة. لأن الرفات دفن قسراًَ في رمال غزة.. وأنتِ يا من لوحتِ لي عند محطة الرجوع، من يطل عليكِ، وعلى أي الحكايات تقبضين، وماذا تفعلين في مدار رجل ما عاد قادراً على جذبك الى حبة قلبه، فماتت خطواته عند بواباتكِ الموصدة على أسرارها، هل يدرك أنه يقتلكِ كل خطوة، وإنكِ تنبعثي إلى الحياة كل خطوة وعند كل محطة, أي قدر وأي لعنة وقد اختلطت المحطات، وأقفرت الموانئ.
قلت وأنا أشهد تبرعم نوارة خلف زجاج نظارتها :
- ماء الإسكندرية ملعب عرائس البحر...
اندلقت شمس لدرجة الانفجار، وضربتني لدرجة الصدمة :
- عندما تكون ذراع الوليف موصولة بوريد القلب ترقص العروس على صدر الماء.

* * *

من محطة باب الحديد خرجنا الى دنيا الناس، يعاتبنا الفرعون المحكوم عليه بمغادرة ميدان رمسيس، همستُ لنفسي :
"الوجع أن يُطرد الفارس من حلبته، والفجيعة اذا غادرت الميادين مطارحها.."
زوجتي تتشبت بذراعي، أسألها خروجاً من تداعيات الفجيعة :
- كيف رأيتِ الإسكندرية؟
- عروس جميلة.
- وكيف كانت شمس؟
- مجروحة.
صوت زوجتي محمول على حشرجة حزينة، ألقت بثقلها على ذراعي، سحبتني الى أسفل، ارتعبتُ من احتمال أسود:
- هل تشعرين بدوار أو إرهاق يا عزيزتي.
نفت بدلال صبية:
- أنا على ما يرام، أنت من اكتهل قبل الأوان.
وفي المساء، ابتسم لها طبيب الأعصاب، وشطب معظم الأدوية وأعلن أن، الجسم امتص بقايا الدم، ولا بأس من بعض عقاقير الوقاية لبعض الوقت. سألته حذرا ً:
- والذاكرة.
- ستكون أكثر توهجاًَ.
على غير توقع اندفعت زوجتي:
- صديقتنا مجروحة، هل من علاج يا حكيم؟
مط الطبيب شفتيه، فتدخلت أوضح له أن صديقتنا هناك لا تشكو من مرض عضوي ولكنها مأزومة. أنصت الطبيب باهتمام ما جعلني اجتهد:
- في غربتها تغفو على ذراع رجل يتسلل الى شئونه الخاصة وربما الى مخادع أخرى.
قهقه الطبيب حتى شرق، أسرع الى كوب الماء، وقال بصوت نالته بحة المفارقة :
- أنتم الفلسطينيون هكذا، تخلطون بين التشخيص والمرض.
بقيت زوجتي عند سؤالها :
- والحل يا دكتور.
- بعد التشخيص.
سحبت زوجتي وانطلقنا الى النيل، اخذتها تحت إبطي، كانت الأضواء تنعكس على المياه الجارية وتمضي معها.. وعند عتمة ما وتحت شجرة صفصاف تتدلى فروعها مثل ضفائر محلولة لامرأة عفية، اختلست قبله، فاستجابت وعبرت من إبطي الى خاصرتي، وحضرت بيننا من لوحت عند محطة القطار. واصلنا السير..
كنا ثلاثة نبحث عن قناديل العتمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصيدة الشاعر عمر غصاب راشد بعنوان - يا قومي غزة لن تركع - بص


.. هل الأدب الشعبي اليمني مهدد بسبب الحرب؟




.. الشباب الإيراني يطالب بمعالجة القضايا الاقتصادية والثقافية و


.. كاظم الساهر يفتتح حفله الغنائي بالقاهرة الجديدة بأغنية عيد ا




.. حفل خطوبة هايا كتكت بنت الفنانة أمل رزق علي أدم العربي في ف