الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صديقي : حسب الشيخ جعفر

خالد السلطاني

2003 / 12 / 11
الادب والفن


أنا عائدٌ (والطُرقُ تُقعرُ كالعشايا
وبلا جوازٍ أو هدايا)
ضيفاً أدُقُ عليّ بيتي..
‎‎‎. . . .
وأنا إلي قدحي أعودُ مُسارعا
وغطاءُ طاولتي البقايا من مقال
أتفحّصُ التاريخ سطراً مائعا..
‎‎‎. . .
كم قد صحبتُ أبا نواس
(وأنا أحدّقُ في المرايا)
في القعر من كاسٍ لكاس..
 

حسب الشيخ جعفر
" من قصيدة يا صائداً وطواط حرف "

 

نال الشاعر المبدع حسب الشيخ جعفر جائزة  العويس الادبية للشعر لهذه السنة 2003 ، وهو حدث ،  عدا كونه امرا مفرحا ، فانه يؤشر ايضاً الى حضور الشاعر المييز ومكانته في المشهد الثقافي العربي .
ادناه محاولة لرسم صورة قلمية لحسب : الانسان ، والمثقف ، والصديق ؛ تاركا المجال للكلام عن شاعرية حسب ومنجزه الشعري الى النقاد المختصيين .
اعرف " حسب الشيخ جعفر " منذ عقود ، وبالتحيد من بداية الستينات ، اذ جمعتنا مدينة موسكو معا – هو الاتي من قرى العمارة ، وانا القادم من مدينة صغيرة من اعمال الكوت ...وبسبب تقاربنا في السن ، وكذلك بسبب تقارب مرجعياتنا الفكرية ، وحبنا للثقافة بكل تنويعاتها ، فقد نشأت صداقة حميمية منذ اليوم الاول الذي تقابلنا به !
وازداد اعجابى بحسب ، وتعاطفي معه ، وفخري به عندما كنا نلتقي مرارا بصحبة غائب طعمة فرمان وعبد الوهاب البياتي وكثير من الشخصيات العراقية الثقافية المرموقة ، المقيمة وقت ذاك في العاصمة السوفيتية .
 واذكر جيدا اللقاء الذي نظم بعيد فاجعة 8 شباط المشؤومة من عام 1963 على مدرجات متحف " البولتكنيك " في موسكو والذي شارك فيه الشعراء الجواهري والبياتي .. وحسب الشيخ جعفروغيرهم من المثقفين العراقيين ، بالطبع كانت الاجواء ، واللحظة الراهنة ،  والحدث ،  والمكان ،  كلها تعمل عملها لصالح الجواهري وشعره الخطابي التحريضي المباشر ، بحيث ان اكفنا " احترقت " جراء تعاقب  سلسلة  من التصفيقات المدوية التى صاحبت قراءة الجواهري لقصائده ، واستجابة لشعره وطريقة القاءه المعبرة ، ذلك الالقاء المنطوي على التكرار والفخامة والايقاع السريع ، والشد والترقب والمباغته الكلامية ، الامر الذي حدا بسكرتير اتحاد الادباء السوفيت  وقتذاك ، والذي كان حاضرا ، بصفته الجهة الراعية للاجتماع  ،الى ربط حرارة القاء الشاعر و" هياج " تجاوب القاعة ( رغم عدم فهمه لمغردات اللغة التى تدور بين الشاعر ومتلقيه ! ) مع اجواء الندوات الفريدة والصاخبة  التى كانت تنظم بحضور الشاعر ماياكوفسكي وشعرة الثوري الطليعي  على ذات  المدرجات  بعينها .
وفي تلك الاجواء المشحونه بالعواطف الجياشة ، وقف صديقي الشاعر حسب ،  ليكلم الجمهور بمفردات  " مابعد حداثية "  تضئ المغزي الدلالي لمعناها ، وتحاول ان  تستدعي الفواجع الانسانية العديدة التى شهدها التاريخ  البشري ، للتذكير بحدث المأساة العراقية  ومن ثم ليربطها       " بتناص " متعمد ،  مع مثيلاتها التراجيديات الانسانية الكبرى الاخرى !
بالطبع ، كانت الصورة مختلفة ومغايرة تماما بين الشاعرين في كل النواحي ، لكنها من جانب اخر ، قدمت " حسبا" كشاعر مجد ، يقف برسوخ مع ممثلي اعمدة  الشعرالكلاسيكي والطليعي .
.. في موسكو ، كنا نسكن في اقسام داخلية ، حالنا حال جميع الطلبة الاجانب ، وكان لكل كلية او جامعة  اقسامها الخاصة بها ، كنت ازوره في قسمه الخاص بمعهد غوركي ، كان يسكن معه طلاب اجانب من دول مختلفة ، هم ادباء المستفبل ،  وكان من ضمنهم طلبة من اليمن والسودان ، وكان يحذرني  دائما من مشهد قناني الفودكا الفارغة التى ستتطاير حتما فوق رؤسننا اثناء "حوارات" الطلبة السودانيين التى تتناول  شؤون الادب والثقافة ...والسياسة بالطبع !
في عام 1965 كنت الشاهد العربي الوحيد لمنح الشاعر العراقي المميزشهداة الماجستير في الاداب  من معهد غوركي المعروف عالمياً ، وحرصت بشكل خاص ان اساهم في تلك المراسيم الثقافية والعلمية المفعمة بالاحاسيس ،/ عندما يقف الشاعر لاخر مرة ..كطالب ، امام لجنة خاصة تمنحه الدرجة العلمية بعد انتهاء الدراسة واجتيازه لاختبارات عديدة . بالنسبة الى الاخرين تمثل هذه اللحظات مناسبة مهمة تحفظها الذاكرة : لحظة التحول من طالب علم .. الى مختص باختصاص معين  تكرسه شهادة علمية معترف بها قانونيا وعلميا ً ، وكما هو متوقع فقد خصت القاعة بجمهور غفير من اصدقاء الخرجيين وعوائلهم  ، فاليوم هو يوم منح الشهادة علنا لادباء المستقبل ، ومن ضمنهم حسب الشيخ جعفر . كانت الاستاذة المشرفة على دراسة حسب  قلقة ومتوترة قليلا من ان  لحظة التخرج  ستمر من دون ان يشهدها احد ، من اصدقاء ومعارف الشاعر الغريب ! 
وبدخولي الى القاعة التى كانت تجري بها مراسيم المناقشة الاكاديمية ، و" بسمرتي " الواضحة ووجهي المميز الذي يشي بانتسابي الى بلدان شبيه لبلد الشاعر الغريب ، تنفست الاستاذة الصعداء < حسب ما رواه لي حسب بعدئذ > ، من ان اللحظة التاريخية التى ستمر تواً سيقبض عليها وستسجلها الذاكرة ، لتعيد انتاجها مرة اخرى بعد حدوثها ،  قبل ما يقارب اربعة عقود مضت!
ينبغي ان اعترف بان مشروع الشاعر االشعري الذي كرس حسب حياته لاجله لم يكن مفهوما لدي تماما  في بدء تعارفنا ، اعرف انه شاعر ، وشاعر مجد وطليعي ، ومبتكر .. ولكن ماهي حدود ابتكاره ، ماهي ادوات طليعيته ، لم يكن ذلك واضحا لي في تلك الايام ، وهل هذا يهم ؟ فانا دائما ، كنت ولازال احتفي بالانسان المبدع ، ايا كان ابداعه ، فبل ان احتفي بنوعية ابداعه ، من هنا ،  فقد كنت انظر الى حسب وانجازه الفني  كانسان قريب وصديق اولا ، بكل تميزه الانساني .. ونواقصه الانسانية .. ايضاً ؛ ولهذا فقد حافظت على صداقته طيلة هذه الفترة الطويلة ..
في المرات العديدة التى تجمعني لقاءات  مع حسب وغائب طعمة فرمان وجلال الماشطة ، كنا جميعا نفهم صمت حسب الخفيض ، وشروده الدائم ، كنا نعرف بانه في عالم اخر ، عالم الشعر  الذي ينتمي اليه بكل  نزوعه واحاسيسه .
في بغداد ، وبعد ان انهينا دراستنا في بلد الشمال ، شاهدته ، صدفة ، : رجل ملتح ، بنظارات سوداء ، ضعيف البنية ، وبسروال جينز ، اخبرني بان هذه الهيئة ضرورية للتمويه من مراقبة شرطة الحكم العارفي ، فقد كان مطلوباً  ، ليس لانه اقترف ذنباً ما ، ولكنه مطلوب كونه ظل وفياً على طول الخط لقناعاته ومبادئه التى ينتمى اليها ، القناعات والمبادئ التى كانتا حاضرتين بوضوح كخلفية زاهيه،  لونت منجزه الشعري ، وصاغت اسلوب حياته  في التعاطي مع ذاته  ومع الاخرين. ورغم ظلم وجور وبشاعة الحكم الدكتاتوري الاستبدادي البعثي ، ومحاولة ازلامه النيل من الشاعر المجد ، فقد ظل حسب الشيخ جعفر ، محتفظا لنفسه بمسافة بعيدة عنهم وعن توجهاتهم ، عازفا عن مغرياتهم وعطاياهم المسمومة ، رافضا المشاركة  في اعمالهم الشعبوية الفجة ،   متوجا  هذا الرفض بخطوته الجريئة في الخروج من العراق ، ومن ثم ليتهم بشتى التهم من قبل سلطات الحكم البائد للنيل من عزيمته، وحرمانه من حقوقه المدنية العادية .
.. وتجمعنا الصدفة ، مرة اخرى ، في عمان ، المدينة التى وصل اليها تاركا بلده وعائلته . في عمان ،  كان يدرك تماما من ان خطوته في الخروج من العراق ستكلفه الكثير ، وكلفته الكثير !..
كنت ازوره في "مسكنه " ؛ وكلمة "مسكن " – هنا مجازية ، فهي لا تعكس معنى النزل بمفهومه الدلالي ، ولئن  حدد المعمار العا لمي " لو كوربوزيه " < العمارة > بانها " الفضاء المحصور " ، فان عمارة " مسكن " حسب " العماني الاول  ، كان فضاءا مفتوحا واسعا  لبستان اشجار، وفي هذا البستان ثمة مكان < مكان ، لاغير > لنوم حسب ، وصحبه  الابرار ! ورغم قسوة الظروف التى مر بها ، فقد كان معتزا كثيرا بصوابية خطوته الشجاعة في اعلان احتجاحه ورفضه للنظام الاستبدادي البائد !
كان يفرح كثيرا عندما ازوره ، واحس بانه يستدعي بحضوري في تلك المدينة الغريبة عليه ، مسار حياته المتعب والمضني ، ذلك المسار الذي واكبته منذ ايام موسكو الاثيرة لديه ، والى هنا  ،في عمان . كان يعتز كثيرا في الزيارات التى اشاركه فيها  الى دار سعدي يوسف ؛ كان يعتبرها اوقاتا ممتعة ، تزيل عنه عسر و شظف الحياة العمانية القاسية الموحشة التى كان  يعيشها وحيدا ، في غرفة منزوية ، كنت ، وانا المعمار ، اشعربنوع من الحيرة ، عن آهلية " البعض " في تصميم هكذا احياز ؛ فالوصول الى غرفة حسب يتم عبر الصعود الى الطابق الثاني ، ثم الخروج الى السطح ، فالنزول الى الارضي من خلال سلم اخر منزوي للوصول الى الغرفة ؛ الغرفة التى تحتوي على طاولة تغطيها صفيحة لجريدة قديمة ، وكتب .. قليلة .. وثمة قنينة حاضرة دوما في احدى زوايا الغرفة ، ادرك انها سلوته ، في وقت لا احد يسليه !
دائما ، كنت اتساءل ، وانا انظر اليه ، في لقائتنا العديدة والتى كنت اصغي الى صمته وشروده ، هل ان قدر الانسان  العراقي المبدع الحقيقي ، ان  يظل بائسا ، ومدقعا ، ومعدما ، ومعوزا ؟ واذا كان ذلك حقاً ، وهو ما ابتلى به كثير من المبدعيين العراقيين ، وبضمنهم حسب ، فان ذلك ماهو الا : لعنة ؛ لعنة لا احد يعرف مصدرها ، والكل تحاول ان تتناساها وتتغافل عنها ..
فهل تضع الايام القادمة حدا ونهاية " لطرفة " لعنـة الابداع العراقيـة ؟..
.. نتمى ذلك  ؛ ولحسب الموفقية والسعادة ... والشعر الجميل .   

معمار ، واكاديمي عراقي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تزوج الممثلة التونسية يسرا الجديدى.. أمير طعيمة ينشر صورًا


.. آسر ياسين يروج لشخصيته في فيلم ولاد رزق




.. -أنا كويسة وربنا معايا-.. المخرجة منال الصيفي عن وفاة أشرف م


.. حوار من المسافة صفر | المخرجة والكاتبة المسرحيّة لينا خوري |




.. -عملت له مستشفى في البيت-.. المخرجة منال الصيفي تروي حكاية م