الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البحث عن أزمنة بيضاء -4 -

غريب عسقلاني

2008 / 2 / 15
الادب والفن


4 -رحيل الشهوات

أحجية! أم كرامة مكان!!
تكعيبة تظلل الممر الطويل الممتد الى براندة الدار، العناقيد ثريات حمراء تتدلى من سقف التكعيبة، أوراق الدالية عفية، ينبثق من أديمها زغب ناعس يمتص ندى الفجر، يرضعه لثمار مشدودة مزدحمة بشحم وفير وعصير مركز، وبذور غائصة في شهد الحالة.
والحالة عناقيد مطرزة بحلمات حمراء منتصبة.
الكرامات لا تظهر في غير أرضها.
وفي موسم التقليم تتعرى الدالية، ويعمل فيها مقص الرجل تشذيباً، يطرد الفروع التي لا تستجيب للإثمار..يعلّم البنات ما علّمته له كروم الخليل من خصائص العنب وعاداته تسأله شمس المأخوذة بجلده وصبره ونفاذ بصيرته:
- كيف تعلمت فنون العنب يا أبي؟
يتنهد الرجل، ويلتقط الاشارة من وشوشة الريح المسافرة الى قمم الجبال، يحدق في عيون طفلته "التي صارت الآن أُماً تعجز عن تلقين ابنتها أسرار الدوالي.." يعود الى الأغصان الملقاة على الأرض، يفرزها ويقطعّها عُقلاً..هدايا لمن ينتظرون المواعيد.
وفي الربيع يعجب الرجل، تبوش العُقل، وتتفحم عيون البراعم، تترك حفراً سوداء، ولا تظهر الأوراق الخضراء كما يشتهي ويشتهون، فيما دالية الدار تمارس عاداتها، تفترش سقف الممر، تنشغل بحصرم العناقيد.
عنب بطعم المانجو يا أبا فارس. كيف يكون؟
يضرع الرجل لخالق الكون :
- سبحان من بيده سر الأصول والفروع والأنواع، يقول للشئ كن فيكون.
يتدثرون بخيباتهم، وينتظرون شتاء قادم، وموسم تقليم جديد على أمل الفوز بعقلةٍ تعود لأصلها فتورق.
وفي الليل عند المدفأة، يفرغ من تقليب الملفات، وتفنيد القضايا، يشرب قهوته معها، يداعبها ويعجب كما تعجب من سر الدالية. تسأله السر. تسكن على شفتيه ابتسامة تحيّرها:
- السر عندك يا لطيفة.
غموض الإجابة يزيدها حيرة..تفتش في سر الأصول والفروع يأتيها من جبل الخليل هروباً من جور ملكٍ قتل فيه حلمه ليخلصها من جور زوجٍ ركب هودجها عنوةً، سلاحه حق العادة..أي أصولٍ جمعتهما وهي الصغيرة الجميلة المشتاقة وهو الصامت الزاحف الى محطات أخيرة..هل الحب ما جمعهما أم القدر الذي ألقى بهما عند تقاطع المحطات؟.
أي تقاطعٍ يفسر سر الدالية التي تظلل ممر الدار ولا تستجيب الا بين يديه..يضحك وكأنه يقرأ رأسها :
- السر عندك يا لطيفة.
يأخذها إليه، تعبر صدره، تتورد وتورق، وتثمر، وتمتلك سر العادة، وتجود بسبع بنات جئن الى الدنيا تباعاً. أولهن شمس "أصبحن نساءً وتفرقن في أرجاء الدنيا تباعاً أيضاً".
- ما سر الدالية يا شمس؟
أحجية أم خرافة من بضاعة شمس المسكونة بالحكايا وتوليف القصص عن أبيها الذي عرفته أنا في غزة ومضى قبل أن أتعرف عليه، فتوقفت حكاياته عند بوابة السيرة.
كنت وشمس نراقب الأحوال على صدر الماء هناك. كان ثمة صياد يراوغ سمكة تنهش أطراف الطعم، يهتز خيط السنارة، يلمع معدنها خائباً فيما ترقص السمكة على أطراف ذيلها فوق سطح الماء.
أي لعبة بين ابن البر وصبيه البحر التي تملك اسرار الماء.
قالت شمس:
- هاتفت أمي البارحة، فبكت وبللت وجهي بدموعها..هل تحمل هدية لها؟

* * *

يا الله، أعود الى تلك الدار بعد أكثر من أربعين سنة.
عند العتبة ارتجفت، فالرجل الذي كان يهش لي، ودّع المكان وسكن زمانه الذي اختار، رمانة البوابة المسكوبة من نحاس أصفر على صورة رأس قط غادرت مكانها وتركت ثـقوباً تدل على أثر منزوع عنوة بفعل الصدأ.
هل يعتذر الباب عن الاستقبال، لا دقة تنبه الكلب ليطلق نباحاً مرحباً.
أخبرني شيخٌ رافق القاضي أواخر ايامه في الصلوات الخمس إن الكلب كسر سلسلته، وانطلق في إثر صاحبه، وفي المقبرة جثا على قائمتيه الأماميتين ونزف دمعاً غزيراً.
وقال ناطور المقبرة :
"الكلب مات راكعاً، لفظ آخر أنفاسه مع آذان الفجر، لم يستقبل قرص الشمس، وقضى دون عويل".
على صدغ جدار البوابة صندوق معدني وأربعة أزرار وأربعة أسماء.
غُصتُ في طين البلاهة، ثلاثة طوابق تمتطي ظهر الدار. منذ متى لم أعبر الشارع؟ ومتى نهضت هذه الطوابق ؟ وهل تنوء هي الأخرى بالحكايات؟
ضغطت على الزر الأول. لم تصلني خشخشة السلسلة، لا نباح رفيع يسحبني للداخل، صوت واهن كأنه خارج من صندوق النوم :
- تفضل يا أستاذ الباب مفتوح.
الممر لم يعد طويلاً، بعض بلاطات منزوعة من الأرضية تشوه فسيفساء الذاكرة، الشمس تضربني، سقف التكعيبة أقرع، فروع الدالية جافة مشققة، وبعض وريقات تعكس نحول المكان، وسيدة عند حافة البراندة تجاهد حتى تقف منتصبة.
أخذت كفها، لسعني دفء شارد، قلت :
- أين الدالية؟!
- صامت.
- كيف!!
- رحلت شهواتها بعد رحيله.
- لكنها باقيةٌ ناحلةٌ مع مرور الوقت.
- ربما تذكرني بهم وتشهد على حالي.
توكأت على كتفي، التفتُ الى سقف الممر، رأيت الدالية تحتضر.
في حجرة الضيوف، كل الأشياء بقايا، علب سجائر فارغة، منافض مكتظة بالأعقاب، وفناجين قهوة بردت على صقيع الذكريات، وبعض روايات كنت مولعاً بها في شبابي ضبطتني واختصرت :
- اقطع الوقت مع رواياتي الأولى.
شمس هناك مهمومة بروايات لم تكتمل، وصوت السيدة لطيفة صافياً واضح النبرات:
- مع الروايات استعيد حالاتي الأولى، وأعيش مع الناس خارج المكان والزمان.
تسللت إلى وجهها، عبرت الى عينيها أبحث عن سيدة جميلة أنيقة، عفية طالما بهرتني وضربتني بالأسئلة. قالت :
- كيف شمس؟
ارتجفت شفتاها، فاعتصمت بسيجارة أخرى، اشعلت سيجارتها من ولاعتي وحدقت فيها من خلال اللهب، رأيت بؤبؤين يرقدان على بيض يختزن أجنة حزن كبير، تخيلت الأجنة تنقر جدران البيض وتنتشر، ارتعبت, قلت :
- الحزن لا يليق بسيدتي البهية.
اختصرت، وكانت مرهقة :
- أقسى ما يبهظ المرأة غياب الأحبة.
قلت مواسيا ً:
- كلنا سيغيب يوماً.
فاجأتني بنظرةٍ معاتبة، أن أكف عن المراوغة، قلت قبل ان تغلق عليها صدفتها وتصمت :
- حدثيني يا سيدتي
رفرف البؤبؤان، وطارا عن بيض فقس، رأيت فراخ عريانة حتى من زغب الميلاد، فراخ مشوية على سفود الوقت، والسيدة المتعبة تسوطني الى بوابات البوح قالت :
- علمني رجلي في باب الحضور، أن الغياب يحدث عندما يكون الوليف في فراشك ولا يسكن تحت جلدك.
- لم اختبر هذا الدرس يا سيدتي.
رشفت آخر ما تبقى من قهوة باردة :
- أكثر الرجال يعيشون العادة، فيفقدون مفاتيح العشق.
ابتسمت بدلال العارف :
- أنت لست منهم.
- وكيف عرفت؟
- من يعيد الحياة رواياتٍ لا تشبعه العادة
السيدة تتورد، تفتح بوابات الكشف، تعلقني ما بين عادة العشرة والمعاشرة، وحالة الوجد والعشق، فينكشف أمامي هول الخسران. سددت ضربتها وقد أدركت حالي:
- ماذا تفعل شمس هناك؟
- تعيش حالات جديدة، تفتش في دفاتر أبيها، وتعيد كتابة فارس، وتمضي مع الروايات.
أجهشت، لم تصادر دموعها، وغادرتني الى صدفتها..
خرجتُ إلى صدر الشارع يقرعني علم الأصول والفروع وسر الدالية التي تعطي عنباً بطعم المانجو, الوقت أمامي رماديٌ يزحف نحو السواد، فيما الشمس تصلبت وسط السماء والمرأة بجانبي كل شيءٍ فيها يهتز.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصيدة الشاعر عمر غصاب راشد بعنوان - يا قومي غزة لن تركع - بص


.. هل الأدب الشعبي اليمني مهدد بسبب الحرب؟




.. الشباب الإيراني يطالب بمعالجة القضايا الاقتصادية والثقافية و


.. كاظم الساهر يفتتح حفله الغنائي بالقاهرة الجديدة بأغنية عيد ا




.. حفل خطوبة هايا كتكت بنت الفنانة أمل رزق علي أدم العربي في ف