الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللاَّ مُنتَصِّرْ-جيلٌ مهدرة احلامه [5]

عادل الحاج عبد العزيز

2008 / 2 / 16
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


(( .. مذّاك اخذت أحب ضلالته مثلما أرجو أن تحبّ يا بنيّ ضلالاتي، بل ارجو أن تضِلَّ أحياناً بدورك. وأرجو أن تحبَّ كما أُحَُبّ الى حدّ الطغيان، وأن تظّل طويلاً متهيئاً لأسمى ما في الحياة من إغراءات.))
( ليون الإفريقي، أمين معلوف) [1]
عيدٌ للحب جيلٌ مهدرة احلامه [5]

طال انتظارنا حدّ القنوط من بلوغ احتمالٍ في الأفق، كانت تُغازله الرَّغبة في المجئ الى الكتابة ثانيةً، لم تأخذَّنا سِنَة ولا نوم هذه المرة. ولكنَّها هيَّ هكذا امنيات الأجيال؛ قد تستغرقُ الأمنيَّة وما يتبعها بعضٌ من عام او يزيد؛ ولكنه قلَّما ما تخلف الأماني النبيلة وعدَّها بالقدوم.
حفَّزني وزادني عزيمة على الحضور كتابةً، تلكم الأنباء السارة هذه المرَّة؛ فقد سئِمَتنا الأحزان بدورها، منذ اطلالَّة هذا العام المقيم.
ففي عشية أعياد الحب هذه 2008/02/14؛ كانت الأمَّة الأسترالية قاطبةً تغتَسِّلُ، اذ كانت لتوَّها قد فرُغتْ من مزَّاولة الحبِّ جهاراً نهاراً، قِبالة برلمانها 2008-02-13 وهي تعتذّرُ لقومها الأَصليين (الأبروجنيين). لتنام الأمة الأستراليَّة ليلَّة عيدِ حبَّها تلّك هانئة مغفورة الذّنوب والخطايا.
ثقافة الإعتذار
لا ندّعي ان هذا العنوان الجانبيّ اعلاه؛ يمكن ان يشكل مفاجأة معرفية لأي قارئ. فمن الجائز حتماً ان يكون كثير من الناس قد طاف بوعيهم هذا التساؤل من قبل؛ لا لشئ اطلاقاً سوى ان هذه الثقافة تعلن عن غيابها بإستمرار عن كامل تراثنا السودانوىّ – والعالمثالثيّ في الإجمال هنا.
ويبدو ان ما اعاد هذا التساؤل مجدداً لوعيَّنا الآن هو الحدث الفارق في التاريخ الاستراليّ الحديث. وذلك بتبني حكومة كيفن رود هذه السياسة الحضارية وهي وفاء صادق بوعدها الإنتخابيّ؛ فقد سوّقت لذلك عبر برنامجها الإنتخابي للناخب الأسترالي في الإنتخابات الفدرالية الماضية. ليحدث بذلك قطيعة تاريخية مهمة في التاريخ الأسترالي؛ وتدشن بذلك كتاباً اكثر حداثة ومعاصرة، متجاوزةً بذلك تراثاً عتيد من المسكوت عنه الوطني. ليتضح على الفور ان المشهد تمتلكه ذهنيتان مختلفتان لك طريقته في التعامل مع التاريخ الموروث.
لتتأكد السيادة منذ الآن للعقل الحديث الأستراليّ والذي كان قد وعد بإعتماد سياسة التغييّر والمصارحة بل المصالحة قبالة غريمه الآخر المحبِّذ للسُكوت والكتمان.
وبإجالة النظر بعيد وراء البحار هناك أي في واقعنا العالمثاليّ قد نجد ان محاولة البحث عن مقابل معرفي لهكذا مصطلح ( ثقافة الإعتذار)، تقودنا على الفوّر دون ادنى شك الى اعتماد على الإحتمال الوحيد المتوفر لدينا هناك والذي هو غالباً ثقافة الفساد/ وثقافة التشبث. ولا طقس واحد لثقافة الإعتذار هذه تتضمنه تراثاتنا او حتى ممارستنا الممتدة عبرة الحقب.
ويمكن ان يدعم مزاعمي هذه الأناس المطلعين على كافة تراثاتنا المتداخلة وراء البحار وهي تراثات متتداخلة بلا شَّك الإفريقيّة/العربيّة/الإسلاميّة. يمكنهم اذاً بكلَّ يُسر ان يُدركوا الى ايَّ مدى نَحن نَفتقد هكذا خِصال حضاريّة بحق.
واجدني استجدي القارئ العذر ان جاء تناولي لهكذا مسألة شائكة وعميقة، بكل هذا الكمّ من التعميم في التناول؛ إذ التناول لها كان يتطلب بحث مُضني اعمق في سياقات متعددة. تمتد بجذورها ونَسبها الى كلٍّ من علم الإجتماع/علم الفلسفة/علم الأخلاق، ويؤطر لهذا بالضَّرورة ويرسخَّها القانون وسيادته في أي امة من الأمم.
ومن باب الزهد في التعمَّق هنا نجد ان قيمة سيادة القانون هي قيمة مفقودة بإلحاح في مجتمعاتنا العالمثالثيّة.
هذه التعقيدات الملازمة للمسألة اعلاه، يمكن ان يلخصَّها قليلاُ هذا الرأي الفلسفيَّ للفيلسوف الأستراليّ سي آي جيّ كودي [2]. اذ انه يربط بين مسألة الأخلاق وبلوغ العدالة او نشدانها، وهو يؤكد على ان أي عدالة تستلزم بالضرورة التعقل/ العقل justice with prudence إذ هو يعتقد انه لا توجد نظرية اخلاقيَّة صالحة يمكنها ان تتجاهل بالكامل تحسباتها لما تخلفه افعالها من نتائج لا حقاً، وهو هنا يصِّر على ان يعيدنا الى ثنائية العقل/ الأخلاق المفتقدتان لدينا في (تطبيقات) تراثنا العالمثالثيّ على الأقل هنا.
وبالعودة للسيَّاق الذي جاء فيه حديثنا منذ البداية فالشاهد لدينا ان خطاب رئيس الوزراء الأسترالي كيفن رود جاء مفعماً بالمشاعر والذكريات المؤلمة والتي تم اجترارها في ثنايا خطابه؛ والظروف القاسية التي عانتها تلكم الأجيِّال المنحولة (المسلوبة) من الأطفال الأستراليين الأبروجنيين (انظر مقالتنا السابقة:[3] ) وقد استبق خطابه التاريخي ذاك بتأكيده أنَّها فقط مجرد خطوة واحدة الى الأمام في مساره المّمتد للتغيير والإصلاح والوحدِّة المبتغاة لكامل النسيج الوطني الأسترالي. وقد كان افترعها بطقوس الأعتراف ومن ثمَّ الوعد بالمعالجات طويلة الأمد المنتظرة من سياساته. اذاً عزيمة الإصلاح والتغييّر هي الباعث الأساس لهزيمة عهود الثبات والكتمان (‘s1900 -‘s1970) .
لعله هو درس لعقلنا السياسي وراء البحار هناك لنبذ سياسات العجرفة والنرجسية الزائفة في تعامله مع تراثتنا وشعوبه هناك، وعساهم يقرأون او علهم يشاهدون؛ دموع الفرح الغامرة التي فاضت بها عيون تلكم الأجيال من الأستراليين والتي كانت يوماً ما مسلوبة الحقوق، كيف أحتضنت دموعهم كلمات رود المعتذرة (بالثلاثة) (Sorry ,sorry, sorry ( [4] في خطابه ذاك؛ انَّهم بحق ملائكة اولائك الأطفال لا تلِّون قلوبهم ألوان بشرتهم. فساهموا معه في ترسيَّخ ثقافة الإعتذار تلِّك.

هل من خطَّاب نقدي جذري للثقافة الأبوية الراسخة لديَّنا ؟
تساؤلنا اعلاه يضمَّر إفتراضاً لربَّما يصل حدّ اليقين أحياناً بأننا حقاً نفتقد بكل جلاء خطاباً نقدياً جذرياً، ولمزيد من التعيِّين نواجه فضائنا السودانويّ بذلك التساؤل المشروع. ولممارسَّة هكذا تساؤل نحن في حوجة لمزيد من الصِّدق مع ذواتنا الوطنيَّة، إنه لمطلوب جداً ان نفترع هكذا طقس للإعتراف في هذا الموسم النقدي بإمتياز!
وأجدني قد عادَّت بيَّ هذه القضيَّة لرسالة كان قد تلقاها بريدي الإلكتروني المشرع ابوابه دائماً بتاريخ 2007/10/29 وهي رسالة من أحد الأساتذة الأجلاء بإحدى الجامعات السودانيَّة؛ وبالطبع يسبق اسمه ( لقب) البروفيسور. كان يتساءل فيها بما يشبه العتاب عن جدوى نقدَّنا المُستَّمر ويتساءل ماهي البدائل التي لديَّنا تعد اكثر عملية عوضاً عن مزاولتنا المستمرة لعادة النبش وفتح الجراح – ارسلت إليه في نفس التاريخ اعلاه. مبتدراً رسالتي له بتحيته بتحية احسن منها.. وبعد.. اننّا بكل التواضُّع المعرفيّ (الحشمة)، بأنَّنا لا ننتمي لأي قبيلة مهمَّا كان عزّها لديّكم، فنحن ننتمي لأوطان.. وما لا ننكره هو انتمائنا لقبيلة الكتاَّب وهم قوَّمٌ لا يملكون سوى إشاعة فضيلة التساؤل المستمر(؟).
ومن تلِّك الشُّرفة هم يَشْرعون كل النوافذ ليُطل منها الضوء لكل الغرف العَطنة بفعل الزمان او بفعل الأجيال السابقة. التي انشغلت بتعضيد سلطاتِّها المتعددة. ولكني مسكت ساعتها عنّ ان اخبره بأن اكثر الزواية عتمة في تراثنا وبيوتنا هي السلطة الأبوية الموروثة ( كابراً عن كابر).
ما يمكن ان يعترف به تراثنا السودانويّ انه لم يوَّرث اجياله اللاحقة تراثاً نقدي جذريّ يُهتدى به اليوم. ويبدو ان من اسباب ذلك هو ان أجيال كثيرة من متعلمينا الرُّواد لم يعودوا من إغترابتها السهلة حينها؛ بكثير كسب فكان كسبهم المحمود فقط حينها، هو إكتسابهم محض مهارات حرفية لا غير وألقاب تسبق الأسماء. فيما ظلوا محافظين على نفس نمط تفكيرهم الموَّرث الأبويّ، وهم فئات واسعة (من أقاصي يمينهم إلى اقاصي يسارهم).
إن الرصد المجمل لتراثنا يعلَّمنا بوجود فئة صغيرة جداً من المثقفين إكتسبت موقعها المتقدم في معترك الممانعة الثقافية المحلية لديّنا، إلا انها هُمِّشت وإرتضت هي كذلك التعايش مع هذا التَّهميش من قبل العقل الإجتماعي/السياسي/ الديني السائد في واقعنا السوداني.
كما ان الدراسات السابقة تحيل إلى ان الظاهرة النقدية الجذرية العربية والتي يمكن ان يحال إليها السودانيون. قد نشأت معظم نخبها المعرفية في كنف الجامعات الغربية أوربية/امريكية والتي يجمع كثيرون بأهمية إسهاماتها فيما يعرف بمرحلة اليقضة العربية، إلا انها هي نفسها قد تأثرت في مسارها بهجمات عليها قبل التحالفات التي ارساها النظام الأبوي العربي المهيمن؛ رامياً اياهم بنعوت على شاكلة الإستغراب والعلمانيَّة والولاء للآخر المستعدى في كل الأحوال.
تشير كل المسوح الأوليَّة ان ظاهرة النقد الجذري كظاهرة معرفيّة راسخة ومكتملة الأركان هي ظاهرة لم يعرفها مسرحنا الوطني السودانويّ على مر الحقب، ما عدا بعض من جرعات مُهمشة اتاحها لها هامشنا الإبداعي المحلي المُّهمش هو نفسه، فترك لها هامشاً ضئيل على اطرافه. اما عداه فهو لا يخرج من محاولات لتثوير الإبداع ينطلق من منظور البنية التحتية والفوقية الأيدلوجية طبعاً. وهو سجال مسيَّس وكلاسيكي بحسابات اليوم.
يجب الإعتراف بغياب المنهج النقدي الجذري لدينا اجمالاً في (السُّودان)، وفي في صورته الأشمل عربياً الصورة ليست افضل بكثير.
فعندما حاول الدكتور شارابي [5] الخروج بتوصيف لذلك الوضع استعمل لتسهيل الأمر مصفوفتان متوازيتان:
الحداثة الأبوية المستحدثة (العربية)
(فعاَّلة) (هدامة)
النقد الإتباع
التأليف التبعية
الإبداع التقليد
لذلك فإن أي محاولة سودانوية نقدية يجب بداهة ان يشوبها التشويش واللَّغط في غياب المنهج الواضح الموروث، و من ثمَّ الوقوع في الخلط عند محاول إتباع السبُّل النقدية الحديثة. والإحتجاجات الصاخبة الملازمة لأيَّ مجازف يرفع عقيرته بالنقد؛ من اصحاب السُّلطات المتوارثة دون وجه حق سوى الإحتماء بالفوارق العمريّة بين الأجيال ولحن الخبرة المشروخ، ليجد ادعياء الحداثة السودانوية انفسهم فجأة امام حقيقة مفادها انهم يزاولون نفس سلطات العقل الأبويّ التقليدي المعروف؛ ولكن بوسائل تبدو فقط اكثر حداثة.
نقلاً عن موقع الأوان
عادل الحاج عبد العزيز
الهوامش:ـــــــــــــــــــــ
[1] معلوف، أمين، ليون الأفريقي ترجمة: د. عفيف دمشقية، 2001، دار الفارابي، بيروت لبنان.
[2] C.A.J, Coady, Morality and Political Violence,2008, Cambridge University Press, New York, America.
[3] مقالة سابقة لنا تحمل عنوان "قراءة من سيرة رجل يهجو اهله"، الحور المتمدن، العدد 1930 بتاريخ 2007/5/29 .
[4] خطاب الأعتذار لرئيس الوزراء كيفن رود داخل البرلمان الاسترالي 2008-02-13
[5] شرابي، هشام، النظام العربي وإشكالية تخلف المجتمع العربي، 2000, الطبعة الرابعة، دار نلسون, السويد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزائر: لإحياء تقاليدها القديمة.. مدينة البليدة تحتضن معرض


.. واشنطن وبكين.. وحرب الـ-تيك توك- | #غرفة_الأخبار




.. إسرائيل.. وخيارات التطبيع مع السعودية | #غرفة_الأخبار


.. طلاب بمعهد ماساتشوستس يقيمون خيمة باسم الزميل الشهيد حمزة ال




.. الجزائر: مطالب بضمانات مقابل المشاركة في الرئاسيات؟