الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البحث عن أزمنة بيضاء -5 -

غريب عسقلاني

2008 / 2 / 16
الادب والفن


5 - ليل الهجانة الطويل

نقطة السودانية
تلة رملية شقراء تركب الشاطئ وهي جزء منه, وخيمة كبيرة عميقة الأوتاد تصمد أمام الريح، تنتظر النوّات بتوجس محسوب، ومراح جِمال ناخت تجتر ما تختزنه من عليق فقير، تلوك الجمال اسرار الصحاري، وحكايات رجال الهجانة على الهوادج العالية، يشقون الهواء بضربات الكرابيج، يتألم الهواء بحاتٌ قصيرة.
الهجانة خدودهم سوداء مشروطة عن جروح قديمة، يلفون رؤوسهم بكوفيات بيضاء ناصعةٌ نظيفة. جاءوا من بعيد البعيد، صامتون، لا يخالطون الناس، قلما يتحدثون،..سيرتهم بين الناس كرابيج تحفر على الظهور خطوط من نار محقونة بآلام تسري تحت الجلد.
السود طيبون، تركوا الأهل والوليف والولد، يعيشون الاشتياق في الليل وعند الفجر، يطيرون أغاني ومواوييل حزينة.
عندما تحققت شمس من وجه كبيرهم يوم أتى الى خصهم، سألت باستهجان حزين :
- من ذبح خدودهم يا أبي؟
- قسوة الطبيعة وأعراف القبائل، إنهم آتون من بلاد الثعابين والعقارب.
ظلت على دهشتها من بلادٍ تسكنها الثعابين والعقارب فأكمل أبوها :
- جروح وجوههم علامات نسب بين القبائل أو رموز ديانات البدايات في الغابة السوداء.
زمّت فمها على قشعريرة، فأخذها أبوها الى عب عباءته، ومضى بها الى خص الجريد والدالية، ولطيفة التي أخذت تتهيأ لعبور الطقس وتنتظر وصول قرص الشمس الى خط الأفق وتتأمل كيف تجلس على صدر الماء.
تتعرى المرأة وبناتها اِلسبع(لم يكن الأولاد الذكور قد أتوا الى الدنيا بعد) وينطلقن الى الماء الذي اختزن دفء النهار، وهجع العافية.
قرص الشمس كرة متوهجة باردة، تغرس أشعتها البرتقالية على جلد الماء، ترسم الرغبة فتصعد الأسماك الشبقة الى السطح.
ضفائر الشمس تعبر لحم الآدميات، يشف اللحم بلوريا يصير، وينبض الدم لذّة وشهوة، وتدخل الأجساد قرار الوجد.
الرجل القاضي رب الدار على الشاطئ ينتظر البهجة ويكتفي من المشهد بالرضى واشتعال لطيفة التي لا تؤجل بهجة... لطيفة في الماء تلاعب فراخها، تعلمهن فنون الماء وتدس تحت جلودهن أسرار الشهوات والرغبات.
يشتبك الرجل من أسئلة حيرته, هل حالة المرأة قلق دائم، أم هي رغبتها في التشيؤ الى صور أخرى، أم أن الأبدان تضج بالفكرة، تسيطر عليها وتغير من آليات الوظائف فيقف الجسد أمام الحقيقة السرمدية كما الكون/ الأزل وكما هي الروح التي لا تفني.
تزقزق الفراخ في الماء، تصله قهقهات اشتعال لطيفه، فيعود داخل عباءته ويضربه سؤال نزق "قد يكون سر الأمر عند فارق السن أيها الرجل".
الشمس تغطس في الماء، الوقت حاله محيرّة بين الضوء والعتمة، تصبح الدنيا فضة خالصة، تتوهج لطيفة بيضاء شفافة تقف على خط ما بين الموت والميلاد، بين ذهاب النهار ومولد العتمة، تعبر ممراً سرياً بين الروح والجسد.
لطيفة تدخل حالة المقدس، فيما العتمة تدخل الوقت وتزحف على الأمكنة وتلون مياه البحر الى زرقة داكنة، تلمع تحت نور قمر آخذ في التخلق.
لا شيء بوجه واحد، لا شيء الى ثبات.
تمتلئ المرأة شهوة ولذه حتى الشبع لكن الارتواء حالةً بعيدة، أو ربما مؤجلة.
ما بين الشبع والامتلاء تتربع العادة، وينمو السأم وتزحف الرتابة، ولطيفة مهر حرون ينقر الأرض باقدامه الجليلة، يبدد الرتابة، وينظم الايقاع ولا يستقر.
تمضي لطيفة مع بناتها السبع عاريات مثل الحقيقة، فيما الرجل الذي أخذته القضايا يقف عند آخر المويجات المقتولة، يمسح المكان رغم العتمة، يخشى عيون الهجانة، الذين يحضّرون الجمال وحشوات البنادق لنوبة حراسة ليلية تذرع الشاطئ جيئة وذهابا.
الرجل حذرٌ من انكشاف اللحم المحرم على الغرباء, يفرد عباءته مثل شراع أبيض..
تخرج لطيفة وبناتها السبع يحطن بها، يلفها بعباءته يمسح بقايا الماء عن وجهها بكفيه، يأخذها الى إبطه ويمضيان الى خص الجريد الجالس على بساطه الرملي في أرضٌ عرفت وربما مازالت تعرف بأرض الزنابق.
الخص عند أطراف البيارة، تحيط به أكمات تخبيء بصيلات الزنبق الذي يخرج نواره في الربيع.
الوقت ليل.
والرجال السود يشدون الأعنّة، تتحرك قافلتهم بمحاذاة الماء، ضياء أشباح القوائم العالية، وبريق عيون تضيء في المكان لا ضوء غير ضوء فانوس بترولي يتدلى من سقف الخص.
الخص مغطى بسعف نخيل جاف، وعيدان بوص جفت على اخضرار بكر تصدر حفيفاً محملاً بالنعاس, تستقبله عيون الفراخ بفرح..يتساءل الرجل في سره "هل تخففت الأجساد الطفلة من بللها؟"
النوم يأخذ البنات. يصحو الشوق بين رجل وامرأة ما زالت على عريها ملفوفة بالعباءة.
حداء القافلة يرسل موالاً حزيناً، والرجل شارد تأخذه المواويل الى هناك في الخليل، الكرم ونبع الماء، وزوجة أخرى صموت، صامت على أسرارها فاعتصمت مع ذريتها واعتمدت على ثاني الأولاد كبيراً. فالكبير فارس لم يحد يوماً عن مدار أبيه فلحق به.
لطيفة تسأل رجلها عن موال القافلة ينقل اليها احساسه:
- الحادي يناجي وليفه بعيده وأولاد كبروا وأم وأب ربما غادروا وهو ما زال يعيش الغربة.
- بأي لغة يغني.
- لغة الأشواق واحدة يا لطيفة.
دس كفه أسفل صدرها، رفع الثديين، كانت داخل العباءة تتدفأ. على بقايا ملوحة البحر..سألته :
- هل تعرف لغتهم؟
- المجاريح يتعرفون على سر ألم الفراق والغربة.
داعبته مشتاقة :
- ما معنى الغربة وأنت معنا.
- غربة الروح أوسع من المكان يا
هي تدرك ما يعانيه وما يشتاق اليه، حقائقه لم تتغير منذ أن ارتبطت به. منذ عاشرها أدرك حاجاتها، زعنفت داخل العباءة، تشممت رائحته التي تنبعث من نسيج العباءة..أخذته خارج الخص، وافترشا رملاً يتهيأ لاستقبال الندى. وراحا يراقبان بريق تكسر رغوات الأمواج. وأرتال السلطعون تهرب من الماء، تختفي في الرمال المفككة..تخرج من مكامنها بعد انحسار الموجة. تتحالف الكائنات الضعيفة مع ضوء القمر، تشع قناديل تتقافز فوق الرمال.
خلف الخص بيارة تطلق نوّار البرتقال والليمون..العبق يملأ المكان.
قفزت لطيفة الى ربوات قريبة، وعادت بباقة من كؤوس زنابق بيضاء.
فردت زنابقها على صدرها، وتمددت بجانبه.امتلأ الرجل عبقاً فحلاً، وذابت مواويل الهجانة في البعيد، أخذها اليه نثر الزنابق على جسد دخل طقوس الرغبة/ الشهوة. وعبر الى عباءة مضخمة بعافية الفرح, عبر لحمه مساربها حدق في عينيها رآها باتساع البحر تلوت معه تنشد الارتواء فأخذ المدى يبخ على الدنيا رذاذاً لطيفاً فيما لطيفة على عطشٍ لم تنل الارتواء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصيدة الشاعر عمر غصاب راشد بعنوان - يا قومي غزة لن تركع - بص


.. هل الأدب الشعبي اليمني مهدد بسبب الحرب؟




.. الشباب الإيراني يطالب بمعالجة القضايا الاقتصادية والثقافية و


.. كاظم الساهر يفتتح حفله الغنائي بالقاهرة الجديدة بأغنية عيد ا




.. حفل خطوبة هايا كتكت بنت الفنانة أمل رزق علي أدم العربي في ف