الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نهرب ونسمّى منقذين،ونخون ونُعتبر أبطالا

حمزة الحسن

2003 / 12 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


لا أدري ماذا سيخسر العالم لو لقبت نفسي يوما ملكا على هذه الأرض في غرفة حمّام، أو في مقهى قروي منعزل، في محطة حافلات، أو في  وكر عصابة، في قبو حزبي، أو في مقر مافيا، في وكالة أخبار، أو في وكالة أحذية، في نادي الصيد، أو في نادي العراة، في كنيسة أو في مصح، على شاطئ بحر أو على جبل، في مقر حزب سياسي أو في وكر لصوص؟

لقد خرجنا جميعا منتصرين هذه الأيام على الفاشية بعد نضال  شاق ومرير وطويل وصعب وعريق وعتيق وعنيف وشرس وقوي وتاريخي وجبار وحرج ودموي ومؤلم وحزين ومأساوي  دون أن نخسر شيئا يستحق الذكر في هذه المعركة التاريخية غير عدد محدود جدا من الكؤوس والكراسي  والكلمات من قبيل عدو، وفاشي، ومجرم، وقذر، ووسخ، وعميل، ومنحرف، وسادي، ووحشي، وخائن، ومشبوه، ولا وطني، ولا رجولي، ولا شريف، وكل هذه الكلمات المقدسة ستعوضها لنا محكمة  الجرائم القادمة لكي نحتفل بها أمام الصغار قبل أن نتحول إلى عوانس.

صديق مغرض وحرون وجميل وقلق قال لي أمس على الهاتف بصوت تالف: هل سمعت بآخر خبر وآخر عدو وآخر حملة وكلب أثر جديد؟!

قلت بصوت طبيعي جدا: حملة ضد الايدز، الجدري، الأطفال المشردين، السرقة، الاغتصاب، الاعتقال التعسفي، غياب الديمقراطية، غياب الشرف الرفيع، ضد العولمة، ضد التصحر، ضد العزوبة، ضد الصلع؟

أجاب ضجرا: لا. عنك أنت بالذات. كنت تجلس في مقهى لمدة طويلة وقد هجرته إلى مقهى آخر كي تمارس حقك في السيادة على جسدك، وعلى العالم، وعلى عقلك، وعلى دراجتك الهوائية في التنقل ونسيت أننا نعيد تشويه المكان الجديد بالخبرة القديمة، وعلى قراراتك، لكن صاحب المقهى كتب بيان قبائل  يطوف به من مكان  إلى آخر واقل رغبة عنده هي الشنق أو الرجم أو السحل أو الحذف من الوجود. وحين رفض صاحب مقهى محترم وضع  القرار على جدار  مقهاه  من أجل النظافة العامة والتزاما بأوامر الصحة كتب إليه محتجا قائلا: كيف  تجرؤ أن ترد عليّ علنا أنا الشيخ، والمناضل، والحالم، والثوري، والوطني، والمستقبلي، والرجل، والكل إناث في معركة التاريخ الكبرى؟!

تذكرت  عندها الصحافي النرويجي بيتر مونيس الذي اعتقله النازيون خلال سنوات الاحتلال في 3 شباط عام 44 وعاش في زنزانة قاسية وفظيعة حتى تحول إلى هيكل عظمي لكنه كان يكتب مذكراته  حفرا بعود ثقاب على ورق التواليت ويضعها تحت خشب الزنزانة أي الأرضية وفي 6 ايلول 44 رحّل إلى ألمانيا في باخرة غرقت في الطريق ومات ومن معه وبعد سنوات، بعد التحرير، عثروا على أوراقه الخاصة ومذكراته الرائعة والحزينة مخبأة تحت خشب الزنزانة وهي مطروحة أمامي الآن ومثيرة.

واليوم حين تسأل من يعرف هذا الكاتب أو قرأ حكايته لا تجد تلك التسميات الكبيرة الضخمة كالمناضل أو المجاهد أو الثائر أو العظيم بل تجد أن مفهوم النضال هنا ينساب بعفوية الحياة كطيران طائر أو شرق نجمة أو سطوع قمر.

يقولون لك نحن لا نصفق لكل شجرة تثمر ولا لكل عصفور يطير أو نجمة تضوي. بيتر مونيس دافع عن حريته الشخصية وليس لديه أي خيار آخر. نحن، يقولون، لا ندفع أجرا لكل من يدافع عن كرامته الشخصية.

وكنت أقول لهم دائما:
ـ هذا تخلف منكم. نحن يجب،( يجب!) أن ندفع أجرا لكل من هرب  وأطلق ساقيه للريح!

( نريد أن نهرب، وأن نسمى منقذين!
وأن نخون ونعتبر أبطالا!)
بتعبير أنسي الحاج.

لو كان عندنا هذا العدد الهائل من المناضلين فلماذا هذا العدد من القتلة؟ وهذا العدد من المختفين، والمشنوقين، والجلادين، والهاربين، واللصوص؟ والمدن المحروقة والممحوة والمختفية؟ ولماذا لا توجد عندنا دولة وعلم ونشيد وطني وطوابع وطنية وصورة رئيس في الأقل حتى ولا فرقة إطفاء مجهزة ولا مستشفى للأمراض العقلية نستريح فيها من ظلال النضال على طاولات المشرب، ولا عندنا حتى سيارة إسعاف في لحظات الاحتضار الفكري من أجل الجماهير؟

لو كان عندنا كل هذا العدد الهائل من الثوار والعصبيين والحالمين والمجاهدين والعصاميين والأمراء والزعماء والشيوخ على الاباعر والمنابر فمن الذي يوقد النار في الموقد؟

من يعد الطعام؟
من يسوق التاكسي؟
من يشتري حبال الشنق؟
من يجلب المجرمين؟
من يكرم ثوار الأزمنة الحديثة؟
ومن الذي يسطو على البنك المركزي أمام الكاميرات؟ وعلى التاريخ؟ وعلى الدولة؟
من الذي يهتف بسقوط الفاشية أمام حبل المشنقة؟
من يقرأ الفاتحة؟
من يحضر الجنازة؟
من يدفن؟

ولو كان عندنا كل  هذا العدد الهائل من المناضلين فماذا تفعل القوات الأمريكية،والبريطانية،والفلبينية،والتايلندية،والايطالية، والاسبانية، والهندوراسية، والبولندية ..الخ. الخ... في حين نتصارع نحن على الضباب والسراب والوهم والأسلاب؟!

نحن نعوي لوحدنا على قمر، وطن، بعيد لم يعد ملكنا. فعلى من "ناضل" هؤلاء؟

وماذا تفعل جيوش الأرض في العراق اليوم؟
هل هؤلاء هناك لكي نشخر نحن من التعب والتدليك والارهاق السياسي في حماّم التاريخ؟

وإذا ذهبنا إلى المرعى،(وأنت أمير وأنا أمير) من الذي يسوق الحمير؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. زيلينسكي: -معارك عنيفة- على -طول خط الجبهة- | #مراسلو_سكاي


.. استشهاد الصحفي بهاء عكاشة بقصف إسرائيلي استهدف منزله بمخيم ج




.. شهداء ومصابون جراء غارات إسرائيلية استهدفت مربعا سكنيا بمخيم


.. نشطاء يرفعون علم عملاق لفلسطين على أحد بنايات مدينة ليون الف




.. الاحتجاجات الطلابية على حرب غزة تحقق مطالبها في أكثر من جامع