الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خميس الموتى

خالد درويش

2008 / 2 / 21
الادب والفن



كان طريقي مشرقاً الى الحدّ الذي بدأت اشعر فيه بأن كآبتي لا مبرر لها. داهمتني دهشة غيرم ألوفة منذ سنين... فالاولاد في لهوهم وضوضائهم كأنهم في يوم عيد والندى يقطر من وريقات شجر وارف والزهر كثير... الكبار، نساءً ورجالاً، يحيّي بعضهم بعضاً بأدب جمّ. كأن تحيّاتهم تتصاعد كهباب من قلوبهم البيضاء وعيونهم الضاحكة، باستثناء ذلك الرجل الذي ينتظر دوره في صالون الحلاقة وينتظرني، فقد ظلّ عابساً، متوتّرا، عازما على تنفيذ قرار اتّخذه في رهان سهرة الأمس/ أيّ قرار، أيّ رهان وأيّة سهرة؟/ لم اعد اذكر، ولكنّ ما اذكره ويؤرّقني هو ان الرجل قرّر احد أمرين: يقتلني أو ينتحر.
كان يجلس في صالون الحلاقة متجهماً، يتصفّح مجلة فنية قديمة مخفّفاً بذلك من وطأة حمأته وسأمه. رآني فتحفّز، رأيته فخفت منه، وخفت عليه... كانت حجّتي أضعف من ان تثنيه عن قراره في الانتحار وكانت قواي أعجز من أن تقاومه ان أراد قتلي. تردّدت في دخول الصالون، خطوة الى الأمام وخطوة إلى الوراء، اضطربت: ان دخلت قتلني وان هربت انتحر. أو: ان دخلت انتحر وان حاولت الهروب قتلني. كنت خائفاً منه وخائفا عليه... وكان عليّ أن أبقى بين يديه وأن أفلت منه في آن معاً.
غافلته، حملت خوفي من قدر مؤجّل واتّجهت الى الباحة الخلفية للصالون، حيث يطرحون حطام اشياء لا نفع بها، علّني اعثر على ما يلهيني عن قلقي ووساوسي.
كانت الباحة الخلفيّة عبارة عن مقبرة غريبة تغصّ بزوّار الخميس/ خميس الموتى. قبور بأحجام وارتفاعات مختلفة وشواهد باشكال متعدّدة: أكياس قمح أو أصص نباتات استوائية، وسائد مزركشة أو درّاجات معطّلة، ارائك عتيقة أو فزّاعات طيور.. وكانت كلّها تحمل اسماء الميّتين وتواريخ ميلادهم ووفاتهم. وكانت امي هناك، كعادتها في أيّام الخميس مع بعض اخوتي بانتظاري، لنزور معا قبر اختي سلوى التي ماتت قبل خمسين عاما من عمر لا يتجاوز السنة.
كان القبر، قبر أختي عبارة عن بئر عميقة وواسعة يغطّيها حجر دائري ثقيل، نقش عليه اسم اختي وتاريخ ميلادها ووفاتها -1950 م.
حاولنا، واحداً واحداً، ثمّ معاً ازاحة الحجر عن القبر فلم نفلح. كاد اليأس يصيبنا لو لم يقف اخي سالم (ليس لي أخ بهذا الإسم) ساهما، محرّكا بؤبؤيه يمينا ويساراً الى ان تلاشتا في بياض عينيه الواسعتين، ثم نفث تعاويذ متلعثمة وازاح الحجر العنيد بايماءة خفيفة من يده وسط ذهولنا وانشراحنا.
تحلّقت رؤوسنا حول الحفرة العميقة الواسعة المضاءة بالكاد. حدّقت في شبه الظلام الذي كان يغمر المكان فرأيت ذؤابات نار في حوض من السيراميك وعلى بعد أمتار كان الماء يتدفّق من نافورة في حوض زجاجي ثم ينصرف عبر مسارب زجاجية مختلفة الأشكال والارتفاعات تشبه الأواني المستطرقة.
ثمّة، في الركن الأيسر من البئر كانت اختي سلوى تتربع صامتة، متكئة الى جدار من رخام ابيض، ساهمة في نقطة محددة في الأرض الإسمنتية وضفائرها تتدلّى حول وجهها الحنطي. كانت في الخمسين من عمرها؛ لقد كبرت في موتها كما يكبر الأحياء.
وميزت في شبه الظلام رجلا كهلاً لا يتجاوز طوله المتر الواحد، يلبس قبعة كبيرة ويجرّ خلفه ذيلا غليظا بطول قامته. كان يذرع أرض القبر بخفّة ونشاط بين النار والماء. ينفخ في ذؤابات النار ويمسح الغبار عن زجاج مسارات الماء.. لعلّه مكرس لخدمة ساكنة القبر.
نبّه الضوء الساقط من اعلى الرجل الصغير، فصرخ مذعوراً ورفعت اختي وجهها تستطلع الأمر، وحين عرفت زائريها أومأت للرجل الصغير باشارة هدّأت من روعه، فسارع الى سدّ مجرى الماء المتدفق من النافورة فاخذ منسوب الماء بالارتفاع حتى غمر فضاء القبر ووصل الينا. عرفنا أنّنا مدعوّون لركوب الماء، فركبنا سطح الماء واحدا اثر اخر بهمهمات حبور مكتومة، بثيابنا، بدهشتنا وبرغبتنا في لقاء الغائبين.
أخذ سطح الماء يهبط بنا رويداً رويداً، وكنت ارى من خلال الماء وجه سلوى المنتشي بوصولنا، وكنت ارى الرجل الصغير يفتح مجرى تصريف الماء تارة ويسدّه تارة اخرى بحنكة واناة حفاظا على الهبوط الانسيابي لسطح الماء.
وصلنا القاع، كان اللقاء دافئاً، عانقت اختي على عجل ومضيت في الردهات والمسارب المدهشة. كنت اشعر بظلّ الرجل الصغير يتعقّبني حرصا على اتّساق اشياء القبر من عبثي، وخوفا عليّ مما قد يصيبني من مكائد تدبرها كائنات القبر لزائر مازال يحمل رائحة الحياة. كنت اشعربوطأة ظلاله وأحاول الإفلات منه كيّ تتسع دهشتي على مداها. التفتّ اليه فتسمّر في مكانه خائفاً مستكيناً. يا الهي، انّه هو؛ انّه الرجل الذي كان ينتظر دوره في صالون الحلاقة وينتظرني. تحولت نشوتي الى قلق وذهول.
نظرت اليه، الى استكانته فاطمأنّت نفسي: لا، لن يقتلني وهو في مثل هذا الخنوع، ولن ينتحر لأنّه ميّت.
وأنا، ما الذي افعله في هذا البرزخ بين الحياة والموت! هل قتلني!، هل أنا ميّت!. ولكنّني ما زلت قادراً على التذكّر: اسمي خالد واسم أمّي هند وعينا حبيبتي عسليتان. اذا أنا حيّ، لأنّ الموتى لا يتذكّرون. وأنا مازلت اشعر بالألم؛ أطبقت أسناني على شفتيّ فتألمت... والموتى لا يتألّمون! وانا مازلت قادرا على الفرح برؤية النار والماء والأحباب.. فهل يفرح الموتى؟.
ثمة شارات في هذا الممرّ تفصح عمّا تؤول اليه الردهات والمسالك والدروب المتعدّدة من حولي: "الى الشمس"، "الى الريح"، الى "مانوسيرا"، " الى برج الحصان" و "الى الحياة". وقفت بأوّل درب الحياة. كان طريقا شائكاً، وعراً، وقرّرت ان امشي فيه تاركاً الرجل الصغير في مدفنه.
رام الله/2008









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | الفنانة اللبنانية هبة طوجي في حديث عن الأولمبيا وز


.. شاهد: -ربما يتحركون لإنقاذنا-.. شابة غزيّة تستغيث بالغناء فو




.. عمل ضجة كبيرة ومختلف.. أحمد حلمى حكالنا كواليس عرض فيلم سهر


.. بتهمة -الفعل الفاضح- والتـ.ـحرش.. شاهد أول حديث لسائق أوبر ف




.. من هو نجم العراق الأول اليوم؟... هذا ما قاله الفنان علي جاسم