الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موعد النار واسئلة الوجود المحيرة

جميل الشبيبي

2008 / 2 / 22
الادب والفن


كتب القاص فؤاد التكرلي قصة ( موعد النار ) عام 1955 ونشرها في الطبعة الأولى من مجموعته القصصية الأولى ( الوجه الآخر ) الصادرة عن منشورات مجلة الثقافة الجديدة عام 1960، ومنذ ذلك التاريخ وهذه القصة تثير الأسئلة الفنية والوجودية عن قدرتها في تجاوز زمانها والعبور إلى أزمان مستقبلية ذات آفاق وأسئلة مغايرة لتلك ألازمان التي ولدت القصة فيها .
ومن اهم الملاحظات التي يمكن استنتاجها من قراءتنا لها الآن، أن الحكاية فيها ملخصة بل ضامرة ، في حين يكون الخطاب القصصي بأسئلته المحيرة طويلا ومتشعبا وهو يحايث الشخصية ويدخل أعماقها ويرصد حركاتها عن قرب شديد ، وبهذا المعنى تأتي المفارقة المهمة لدى هذا القاص عن مجايليه من القصاصين العراقيين والعرب ، فهو منذ البداية لم يحتكم إلى بلاغة الحكاية والمصير الإنساني فيها عبر وجهة نظر مطلبية متعاطفة ، ولكنه حرص على تصوير المصير الشخصي لشخصيته المحورية مؤثثا خطابه بمجموعة من التساؤلات والإحداث المكثفة التي تشي برحلة حياة مقطرة تقطيرا شديدا وهي تشير إلى غربة الإنسان وضياعه حتى في أحلامه التي تتحول إلى كوابيس ورعب تحيط به وتهلكه . وتكشف العلاقة بين الراوي والشخصية في هذه القصة عن ميل الكاتب إلى إلغاء المسافة المفترضة التي كانت سائدة في القص الخمسيني والتي تشي بتعالي الراوي العليم وقدرته المبالغ فيها في تأثيث الخطاب القصصي باتجاه تقنية جديدة في هذه القصة تعنى بمحايثة الشخصية القصصية والانطلاق من هواجسها الداخلية لرسم عالمها وهو يتشكل إثناء الحدث ومن خلاله .
ولذا نرى الراوي هنا مشاركا في رحلة العذاب والغربة التي يعيش تفاصيلها الإيراني عبد الرضا في رحلة معاكسة تبدأ من الداخل إلى الخارج .
تروي قصة ( موعد النار ) رحلة عبد الرضا القادم من كرمنشاه مع رفاقه الخمسة باتجاه منائر الإمام موسى الكاظم ،-وهي من الحكايات المألوفة في القصة العراقية- ومنذ بداية الرحلة نجد عبد الرضا وحيدا بعيدا عن رفاقه في ارض ولغة غريبة عليه مع تصورات رسمها له رفيقه علي اصغر قائد الحملة والعارف بمسالك الطريق باتجاه المنائر الذهبية . وينطلق سؤالنا: لماذا يكون عبد الرضا وحيدا في هذه الأرض؟ أما الجواب الذي وضعه المؤلف فليس مقنعا ولكنه يمثل مدخلا مهما لعالم هذه الشخصية وللمصير الذي ينتظرها إضافة إلى الأسئلة التي تؤرق الشخصية والتي لا تجد إجابات لها وهي أسئلة أساسية في هذه الرحلة المريرة.
وخلال تفاصيل القصة سيتكرر السؤال الملح الذي يرد ذهنه في بداية رحلته :(ماذا سيحل به ؟ ...) او ( ماذا سيحل به لو فاجأه أصحاب البستان ، وحوش هذه الأرض الغريبة ؟) ص132
وهو سؤال يكشف العلاقة الضدية بين ألذات والأخر الغريب الذي لا يعرفه لكنه يمتلك انطباعا عنه بأنه احد :وحوش هذه الأرض الغريبة .
وإذا احتكمنا إلى الحكاية فسنجد أن القاص قد ألقى بشخصيته وحيدة ومتوحدة مع طبيعة معادية (كان جالسا على حجر كبير تحت جدار بستان ، فارشا كفيه في حجره عليها عدد من قطع الخبز الجاف وبضع تمرات يابسات .وكان المساء كئيبا في هذه البلاد الغريبة ذات النخيل ص129 ) والحكاية ملخصة تلخيصا شديدا عبر حوارات الشخصية الرئيسة مع نفسها وعبر طموحها في الالتحاق برفاقها الذين ينتظرونها عبر نقطة التفتيش ودليلها أليهم النار المشتعلة ،ويستثمر القاص هذه الحكاية البسيطة ليلقي بطله دون رحمة في متاهة ليس فيها دليل سوى هواجس وتصورات وموروثات كلامية تؤكد :(ان تسير حتى تصل ، ولابد أن تصل ما دمت تسير ص145)
اما الواقع التفصيلي فينفتح على متاهة كبيرة ومحيرة يرفدها الخطاب القصصي في صفحاته الطويلة بكثير من التفصيلات التي ترافقها الأسئلة الوجودية التي تبدو وكأنها تبث من ذات هذه الشخصية البسيطة التي لا تملك تصورا أو رؤية من أي نوع . وبهذا المعنى فان القاص قد نجح في استنطاق هذه الشخصية فوضع على لسانها أسئلة الوجود المحيرة بلا جدوى المصير الإنساني في متاهة الغربة والضياع لتصل إلى استنتاج خاص يقول :(كأن هذه الدنيا الغريبة لا يسكنها بشر ، لم يعرفها الإنسان ولم يحب ويتوالد فيها ص135 ).
ينطلق عبد الرضا في رحلته عبر طبيعة ساحرة من بساتين النخيل الكثيفة وأشجار البرتقال ،بهاجس وقلق يكشفان أن هذه الكثافة وهذا السحر متاهة مخيفة تعمل على الإيقاع به ،فالأشجار (ساكنة تمد اذرعها كالأشباح والهواء رطبا ثقيلا (...) ولم يطرق سمعه صوت وشعر بالخوف يدب إليه ص132) فيكرر السؤال : ماذا سيحل به ، وهل سيموت هنا؟
ولا يكتفي الراوي بالكشف عن أعماق الشخصية وطرح أسئلتها المصيرية بل انه يعتني بحركتها وما يحيط هذه الحركة ويحبط استمرارها :إطرافها المتثلجة وآلام عظام ظهرها ، الجو الذي حولها موحشا لم يخفف من وحشته ضوء القمر ثم الطلقة التي تستقر في آليتها وتشل حركتها ،بعدما شعرت بالخطر ( فاندفع مذعورا خلال الأغصان الواخزة شاعرا بوحش هائل يطارده ص135 ).
إن ما يهمنا من هذه القصة - بعد هذه فترة طويلة من كتابتها و نشرها- تلك الأسئلة الوجودية التي طرحها القاص على لسان بطله البسيط وهو يعيش لحظاته الأخيرة وسط تعليقات وأوهام تدخله إلى عالم الحلم مرة ثم تخرجه منه على الواقع الصلب الذي يقوده إلى النهاية المحتومة ، فقد ( خطر له انه قد يكون حالما ، قد يكون ما مر عليه كابوسا مريعا . لعله الآن في بيته ، مع أمه وأخوته ..ص144 )غير أن كل ذلك يتبدد ليصل إلى اللاجدوى في كل شيء (ماذا يجديه أن يرى ؟ ما ذا يمكن أن يرى ؟ لم تعد للنتائج أهمية ما ، ولم يعد يفهم انه يحيا إلا لأنه يريد أن يسير سيرا كئيبا مؤلما لا متناهيا ص147) إنها نفس الأسئلة التي طرحها محمد جعفر في قصة ( الوجه الآخر) وهو يتأمل حياته مفكرا في مجرياتها (إن هناك أمرا واحدا يستحق أن يفكر فيه ، كيف نعيش ، في هذا العالم الذي ليس لنا ، الذي نملكه يوما ،لم نملكه لحظة ؟ كيف نعيش لنموت آخر الأمر ؟ وهل هناك أمام الموت حياة أفضل من الأخرى ...) .وهي نفس الأسئلة التي طرحها عبود في قصة ( الطريق الى المدينة ) عندما فشل في غسل عار أخته المعتوهة حين رأى الدنيا (حزينة تبكي نهارا لامعا ..)( وفي موقفه على الساحل الرملي شعر انه أحط من حجارة على هذا الشاطيء ..) ورأى ان ( هزيمته تكمل إذا استطاع أن ينهزم من نفسه ، من دنياه القذرة ص181).
إن رحلة الأسئلة المصيرية التي لا تجد إجاباتها ضمن واقع مأساوي تحيطه النصال الحادة ، هي رحلة العمر الإبداعية عند هذا القاص والروائي الكبير ، وكانت حاضرة في معظم كتاباته القصصية والروائية .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس


.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن




.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات


.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته




.. كلمة أخيرة - قصة نجاح سيدة مصرية.. شيرين قدرت تخطي صعوبات ال