الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العقلانية بوصفها مطلب نهضوي

فادي كحلوس

2008 / 2 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


تعتبر العقلانية،إحدى تلك المفاهيم التي ترى بمركزية الإنسان ومحوريته في العالم،فهي بذلك ترى أيضا بضرورة ومركزية العقلي والمادي بدلا من الإيماني والغيبي،ومن هنا انطلقت العقلانية إلى إحلال المفاهيم الإنسانية في شتى تصوراتها وبرامجها وأهدافها،ابتداءا بالحرية الفردية وانتهاءا بسياسات الدول،مرورا بالقوانين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الناظمة،هذه السياسات التي لا تتوافق بديهيا مع المطلق،والتي تنسجم ضرورة بالنسبية،المنطلقة من صميم الواقع المادي العياني وتداعياته. فالعقلانية إذا،تأكيد لسلطة العقل الحر والمنفتح،أدواتها ومؤكداتها هما العلم والفلسفة ،ومعوقاتها هي تلك المفاهيم الناتجة عن الوعي التقليدي لطبيعة الأمور ومجرياتها من تسليم للسلطة اللاهوتية الغيبية والاعتقادات الإيمانية اللاعقلانية،وهي هنا (العقلانية)،تتقدم تراكميا باتجاه تحويل أي مرجعية في هذا العالم إلى مرجعية إنسانية،حيث لا يمكن اعتبارها أو تحديدها أو اختزالها على أنها فقط نمط في التفكير،إذ ذاك لا يمثل سوى بوابة لفلسفتها وعتبة في ثقافتها،فهي إذا أولوية من أولويات النهضة،وجزء بديهي من مصفوفة الحداثة،حالها بذلك كحال غيرها من المفاهيم التي أثرت وتأثرت بهم.

مع العقلانية وتلاقحاتها غدت المفاهيم التقليدية أكثر فعالية وأكثر قدرة على الوصول إلى ما وصل إليه الغرب،وأعني هنا "الحداثة"،حيث نما في رحم هذه العقلانية مفاهيم أخرى جديدة تتشابه شكلا وتتباين – جدليا- مضمونا،منها وعلى سبيل المثال لا الحصر:
• الديمقراطية: حيث انتقلت من مجرد "حكم الشعب نفسه وبنفسه" إلى آلية لإدارة وتنظيم الصراع السياسي ولعلاقة الدولة بالمجتمع،وتجاوزته إلى أن أصبحت مبدأ للحياة،إلى ثقافة، ثقافة اجتماعية و سياسية بآن معاً، فالخطاب العقلاني هو خطاب تحليلي غير شمولي .
• المواطنة: والتي أصبحت ما بعد عقلنتها تعني انتقال تفوق الولاء للجماعات التقليدية(عشيرة- طائفة- قبيلة - عرق ...الخ) إلى حساب الولاء للوطن بكله الاجتماعي، فهي بذلك انتماء طوعي ما بعد وطني.
• العلمانية: لم تعد تعني فقط فصل الدين عن الدولة، بل تطورت لتعني فصل الأيديولوجي عن السياسي وتقدمت وتتقدم بجوهرها لتعني كفلسفة: فصل الخاص عن العام.
• الهوية: تعدى هذا المفهوم بفضل آفاق العقلانية وفلسفتها ومنظريها طبيعته الفطرية القائمة على غياب مقدمات الانتماء النوعي والمشاركة والاندماج في التعبير عن مصالح جماعات ذات طبيعة حداثية،تتفوق باصطفافها وانتظامها وتماسكها الجماعات الأخرى ذات الاصطفاف والانتظام والتماسك البدائي اللاعقلاني، والتعبير الهش والمتذبذب عن مصالحه،ويتوضح ذلك عند مقاربة ثنائيات كالثنائيات التالية: (مجتمع أهلي – مجتمع مدني)،(حقوق الإنسان – حقوق دينية) الخ. أي وبتعبير آخر،أمسى مفهوم الهوية هو انتماء طوعي لا مكان فيه للتنظيمات القسرية،فعند الانتقال إلى الطوعي والانتماء إليه والإيمان به،تتوافر مساحة مفتوحة لتقبل المبادرة ورعاية الإبداع وهذا أيضا يمكن له أن يشكل أحد التعاريف العقلانية للحرية،والتي من غير الممكن لأي باحث أو كاتب أو مطلع أو حتى مهتم بدلالات وأهمية عصر التنوير وما وصلت إليه من إنتاج مستقبلي للحداثة، من الاستدلال على أهمية مبادئ العقلانية بما يخص مسألة الحرية بشكليها الفردي والجماعي.

أعتقد،أنه من البديهي ومن خلال ما سلف أن نستقرئ على ضوء ذلك مجمل ما حدد من مفاهيم حداثية كانت أم ما بعد- حداثية، مثل(الدولة- الحزب – سياسة - فرد- مجتمع ..الخ.)،لنتوصل إلى فهم شبه عام للعقلانية على أنها استخدام العقل وقواعده وبراهينه أثناء السعي في سبيل تحسين شروط الحياة، أي أنها اتجاه فلسفي – حياتي، يقوم على فكرة أن الحقيقة "بنسبيتها" يمكن أن تكتشف أو أن تستشف وأن توظف بشكل أفضل عند استخدام العقل التحليلي والتركيبي،منه عند الاستدلال عنها بالإيمان الدوغمائي والتعاليم الدينية والمقدمات الغيبية.
إن هذه العقلانية بخصائصها و مرتكزاتها الديمقراطية والعلمانية والإنسانية أولا وأخيرا،هي ما تفتقره ثقافة المنطقة وبأهم مرتكزات هذه الثقافة، ألا وهو الجانب الفكري،والذي يتمخض عنه مجمل ما تحتويه هذه الثقافة فالثقافة هنا وبشكلها اللاعقلاني لن تستطيع إعادة تشكيل الوعي الحداثي في ذهنية أبناء هذه الثقافة وتعزيزه وتأصيله على أسس عقلية إنسانية،كما استطاع الفكر الأوربي ابتداع وتوظيف ذلك،فمعظم الفلسفات والتفسيرات والايديولوجيات والمفاهيم الحاضرة تنضوي وفي أحسن حالاتها على سياسة التوافق مابين الأصالة والحداثة،فما نزال نحن بوعينا وحتى الآن أقرب- مثلا- إلى الأشاعرة منه إلى المعتزلة- ليس المقصود هنا كفلسفة فقط ،بل إشارة إلى القوى والأبعاد الفكرية الكامنة داخل مدرسة المعتزلة والتي لو كتب لها أن ترى النور وأن تخضع لقانون الجدل لكانت بمثابة محرك دافع نحو الحداثة- أي أن ثقافتنا لم تستطع الوصول إلى بناء عقول تستخدم الشك اليقيني والنقد الموضوعي- بما يحمله من جديد- في محاولاتها لتوصيف الأزمات المزمنة والمصيرية التي تحيط وتعيق هذه الثقافة من وضع قدمها على بداية طريق الحداثة،بل واعتبرت محاول دراسة عقل الآخر وتكوينه انتقاصا من عضويتها وشذوذا عن خط أمنها وخصوصيتها،وهذان التبريران وغيرهم من التبريرات التي تقدمهم هذه الثقافة،يبينون لنا مدى اتساع ساحة اللاعقلانية فيها من جهة،والحجم الهائل لعوزنا وحاجتنا للعقلانية واصطفافاتها من جهة أخرى،فليس النمط التفكير الحداثي إلا ذاك التفكير المرتبط بالعقلانية،هذا التفكير الذي حرر بني الإنسان من الخرافة والمعجزة والأساطير،أما نقيض هذا،والذي يظهر بتجليات الفكر التقليدي اللاعقلاني،برفضه للاختلاف والتنوع والرأي الآخر وبتسليمه باليقينيات المسبقة والذي يسعى إلى تقييد الإنسان بالمعتقدات البالية ويهدف إلى حرمانه من الإبداع والمبادرة وبالتالي العمل على وأد التجديد واغتيال النهضة .
إن ما سبق من توصيف وحسب اعتقادي،لهو تبينة لما يترتب على عقلانيو هذه الثقافة من عمل وجهد ينصب في تبيئة هذا المفهوم من خلال إعادة طرحه ضمن مصفوفته الفكرية الأم – وليس المقصود هنا استيراد التجربة بما أحاطها من ظروف وشروط تاريخية وحضارية- وأيضا محاولة دؤوبة لتعرية العقلانية المشوهة والعقلانيون المشوهون القائمون،والمتمثلون بالتمسك الأعمى بالموروث السلفي سواء الديني أو الفكري أو حتى الأيديولوجي ووضع منهجية فكرية بديلة،قائمة على معطيات العقلانية الأوربية ونتائجها،خصوصا وانه كما يعلم العقلانيون بأن مجتمعنا لم يستجب للعقلانية الجاهزة،فلم تستطع تلك العقلانية اختراق هذا المجتمع أو خلخلة قوانينه البدائية،ناهيك عن الوجود النادر للعقلانيين والذين يمثلون الحوامل الحقيقية للعقلانية،فالعقلانية لاتتماشى والتقديس،وإن ما يحفل به مجتمعنا هو التقديس،بل إن أحد أهم السمات التي يحافظ بها هذا المجتمع على نفسه هو تقديسه للمقدس،فالسلف والتراث والغيب والماضي هم الحقيقة المطلقة التي ترفض الحوار أو الجدال،أما العقل وقوانينه فهم من يشكك بهم،حتى وصل الأمر إلى اعتبار مناهج البحث العلمي،أدوات للشيطان ورجس من عمله.
فالعقلانية بشكلها الأوربي،بدأت في المجال العلمي ثم خرجت لتشمل ما هو مجتمعي،أي أنها شملت جميع مناحي الحياة الإنسانية،فلا تقدم دون عقلنة الكون ودون التعامل معه بمبدأ الموضوعية،وذلك بإسقاط كل ما هو غيبي،لأن كل ظاهرة من ظواهر هذا الكون يحكمها المنهج العلمي،وهي بذلك خاضعة للفهم وبالتالي للملاحظة والتجريب،أي أنها خاضعة لسلطة العقل،وإن استقراء هذه الخاصية للعقلانية، لهو أحد جوانبها ببعده الجدلي،وأن لا نكون عقلانيين فإن هذا يعني بتحولنا إلى مجرد أدوات قائمة على تبرير ما هو ماضي وماضوي،وهذا ما من شأنه أيضا مصادرة ليس الحاضر فقط،بل والمستقبل أيضا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أميركية جديدة على إيران تستهدف قطاع الطائرات المسيرة


.. ماكرون يدعو لبناء قدرات دفاعية أوروبية في المجالين العسكري و




.. البيت الأبيض: نرعب في رؤية تحقيق بشأن المقابر الجماعية في قط


.. متظاهرون يقتحمون معهد التكنلوجيا في نيويورك تضامنا مع جامعة




.. إصابة 11 جنديا إسرائيليا في معارك قطاع غزة خلال الـ24 ساعة ا