الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من خطاب تبرير الحرب إلى خطاب تبرير الخراب

حمزة الحسن

2003 / 12 / 15
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


لو عدنا قليلا إلى الوراء إلى شهور وأيام ما قبل الحرب وإلى الجدل الضخم في كل مكان عن الحرب القادمة والآثار  المتوقعة لها، وليس في الذهنية العربية  تقليد العودة إلى الوراء بتعبير موشيه ديان، لعثرنا على مصادفة ساخرة هي مفارقة  مخجلة في وعي المثقف العراقي النخبوي وخاصة مثقف تفسير العالم عن طريق مضمضة الكلمات بلغة السحر.

وهذا المثقف الذي كثيرا ما أتحفنا بنبوءات غريبة خلال العقود الماضية، سواء في نسخته اليسارية التي يعاد طبعها حسب الأحداث، أو المثقف (الجديد) الذي أنتجه الصراع مع الفاشية فعاش على فكر الثنائيات، به يفكر، وبه يقسم العالم إلى أخيار وأشرار، وبه يرى الحياة ونفسه، هذا المثقف في كل مرة يلحس أقواله ويلوذ بالصمت والتناسي حين تتحول هذه النبوءات والتوقعات التي عمل على تحقيقها إلى جثث وخراب لأنه يعرف أن أحدا منا لن يعود إلى ما قيل قبل ربع ساعة، كما أن أحدا لن يفكر ماذا سيحدث في الربع ساعة القادم.

لا أدري ان كان فينا من يتذكر الجدل العراقي السياسي القائم قبل الحرب حول الطريقة التي ستدار بها والآثار المحتملة وكيف كان أصحاب دعم الحرب يروجون للحرب عبر مقولات:
ـ الحرب الخاطفة.
ـ الحرب النزهة.
ـ بل أن احدهم سكب علينا  سطولا من الماء الآسن عبر مسلسلات ساخرة عن "الضحك في زمن التحرير". 
ـ حرب ضرب الدكتاتور وحده دون أن تهدم حجرة أو تسقط طابوقة.
ـ انقلاب تحت القصف وتحول سلمي هادئ الخ.
ـ   الضربة الجراحية الخ... الخ

وكان مناهضو الحرب يقدمون حججهم على أن هذه الحرب المقبلة سوف تخرب الخراب وتقضي على ما نسى الطاغية تخريبه أو ما نجا من التلف والعبث.

واليوم نسى الطرفان، وهذه سيدة المفارقات، أقوالهم، ولم يرجع أي طرف إلى أقواله السابقة كي يرى ويراجع وينظر ويعتذر حتى، مع أن هذا السلوك الثقافي لا وجود له في التقليد السياسي العراقي هنا أو هناك.

وجدل اليوم يدور كل خمس دقائق على ( حدث) جديد كأن الزمن السياسي العراقي لا صلة له بالماضي ولا علاقة له بالمستقبل، وأنه الزمن الذي يعلو على الزمن: بمعنى الزمن الخرافي الذي تكون فيه اللغة فوق التاريخ والزمان، وتتحول التوقعات التي تسفر عن دم وإهدار للمستقبل، إلى مجرد حكايات أسطورية عن بشر لا وجود لهم إلا في المقالات، وعن أحداث لم تقع إلا في الخيال...الخ.

ليس هذا فحسب بل المفارقة الأخرى الحزينة والساخرة والعجيبة أن دعاة الحرب (النظيفة الجراحية الخاطفة) التي لا تهدم حجرة ولا طابوقة قد انتقلوا، كما هو معروف عن هذا الصنف من المثقفين والكتبة من خطاب تبرير الحرب إلى خطاب تبرير الخراب وليس في ذاكرتهم  حتى ذكرى عابرة لنبوءات الأمس، ولو كانت نبوءات الأمس  مجرد أبحاث في مختبر أو محراب أو صومعة لهان الأمر، ولكنها النبوءات الأفعال  التي تحولت إلى جثث في الشوارع وإلى تهديم الكيان الوطني والدولة والمجتمع والثروة وصار المستقبل رهينة لعشرات السنوات القادمة.

إن ظاهرة الدكتاتور ليست ظاهرة شخصية وان كانت تظهر على هذا الشكل، بل هي ظاهرة سياسية وفكرية ومؤسسة، والقضاء الحقيقي على الدكتاتور هو في إحداث قطيعة فكرية وبنيوية مع الفكر السياسي المنتج له وهو فكر الحيازة للحقيقة والوطن والشرف والتاريخ وبدون هذه القطيعة سوف يظل المجتمع السياسي منتجا ومرتعا لطغاة جدد في كل حقبة، بل قد يكشف موت أو سجن الدكتاتور عن فضيحة عقلية في البناء السياسي والعقلي كله حين يكتشف الجميع،في لحظة تاريخية ما، أن ذلك( البعبع) كان صورة من صور العقل السياسي الذي يتعامل مع الجموع كقطيع.  

خطاب هؤلاء السحرة الجدد، ومعظمهم توابيت صدئة خرجت من غرف الغبار كي تنظف مساميرها وتعرض نفسها مرة أخرى على شعب عنده خبرات مريرة مع نبوءاتهم وتوقعاتهم التي حولته في كل مرة إلى قطيع شحاذين، خطاب هؤلاء يتجدد كل يوم،بل كل لحظة، ليس بمعنى إعادة النظر في جوهر الخطاب السياسي، والندامة، بل بمعنى الإيغال في الضحك على الذقون حتى لو أنتج هذا الضحك دما يوميا في شوارع  فارغة من كل شيء إلا الرصاص والغبار والموت.

ابعد من ذلك تحولوا من خطاب تبرير الحرب،  بعد لحس التوقعات، إلى خطاب تبرير الخراب، ثم انتقلوا هذه اللحظة، في مجتمع بلا مرجعيات ثقافية ولا أخلاقية ولا نقدية ولا سياسية، إلى خطاب التأثيم والوصم لخصومهم السابقين الذين حذروهم من الوهم الأمريكي بالحرية، وتحول هؤلاء (الخصوم) حسب الوصف الإنشائي الذي يبرر كل شيء، الجريمة، والتحالف مع الشيطان، وقتل الناس، وبيع مصدر ثروتهم، إلى مرضى ومعقدين ويشعرون بالحنين إلى الزمن الفاشي!

ولم نكن نعرف، قبل فكر المومياءات، اننا شعب مصاب بسادية سياسية تعشق التعذيب وترفض الحرية. وبهذه الصورة يتحول العته إلى (فكر) سياسي، وتنقلب العاهة إلى وجهة نظر، ويصبح كل شيء، حسب لغة السحر والشعوذة، قابلا للتبرير.

إن أعادة قراءة طريقة تفكير النظام السابق تكون ممكنة وواقعية من خلال قراءة أسلوب هؤلاء في التفكير، لأن السلطة ليست جيشا وشرطة فحسب، بل عقلية وذهنية ووجهة نظر ورؤية مشوهة للعالم تبرر كل شيء بما في ذلك الجريمة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في الذكرى الثانية لرحيلها.. شيرين أبو عاقة تترك إرثا ما يزال


.. بحضور رئيس البلاد.. الآلاف يهتفون لفلسطين على مسرح جامعة أيس




.. سفن قوات خفر السواحل الصينية تبحر بالقرب من جزيرة تايوانية


.. الشفق القطبي ينير سماء سويسرا بألوان زاهية




.. مصر تلوّح بإلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل إن استمرت في عملية