الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أبطال المعارك الوهمية

رمضان متولي

2008 / 2 / 29
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


للبحر مهنته القديمة … مد وجزر
للنساء وظيفة أولى هي الإغراء
للشعراء أن يتساقطوا غما
وللشهداء أن يتفجروا حلما
وللحكماء أن يستدرجوا شعبا إلى الوهم السعيد

هذه الأبيات التي شدا بها شاعر المقاومة الفلسطينية العبقري محمود درويش لم تغب أبدا عن ذاكرتي رغم قراءتي لها للمرة الأولى منذ عشرين عاما تقريبا. فقد لخص الشاعر الأسطورة بهذه الأبيات دور الطبيعة والإنسان في رحلة العبث الأبدية التي تؤخذ بمنتهى الجدية ظاهرية كانت أو جوهرية لتنتهي إلى لاشيء – إنه الوهم السعيد.

إنه الوهم الذي يدفع البحر بقوة نحو شواطئ المدن الكبيرة يكاد أن يبتلعها ثم ينحسر عنها وسط ضحكات المصطافين وعبثهم فوق أمواجه الهادرة. نفس الوهم الذي يغلف الرغبة بالمشاعر الفياضة والألم والسهر إلى حد الانتحار وراء آمال لا تتحقق وإن تحققت فهي زائفة. ذلك الوهم الجميل الذي يتفجر حلما من عروق الشهداء عندما يقف جندي في ريعان الشباب كاشفا عن صدره أمام عدو مدجج بكل أسلحة الدمار باحثا عن بطولة يترجمها الرؤساء والقادة والوارثون في صورة أرباح هائلة ومراكز مرموقة لهم ولأبنائهم بعد مصالحة الأعداء ومصافحة القتلة. أما البارعون في صناعة الوهم من حكماء وكهنة كل عصر فلا يكلون ولا ينضب خيالهم من حيلة لاستدراج الشعوب إلى معارك وهمية مثل بطولات "دون كيشوت" في محاربة الطواحين.

ولعل معركة الرسوم الكاريكاتورية التي أساءت إلى رسول الإسلام توفر لنا نموذجا لتلك المعارك الوهمية التي تدور رحاها على مسرح العبث ليس فقط في أوروبا وإنما أيضا في بلادنا المنكوبة بالجنون والقمع من كل لون. فقد برع حكماء الوهم وساسة التزييف في أوروبا في ابتكار وسيلة يستطيعون من خلالها توجيه الغضب الشعبي ضد البطالة والأزمة الاقتصادية وغلاء الأسعار وفشل الساسة في معالجة الأزمات الحقيقية إلى تأجيج الكراهية ضد الأقلية المسلمة، وتحت لافتة حرية التعبير فرضوا قوانين مقيدة للحريات تسمح لهم بانتهاك خصوصية الأفراد والتجسس عليهم بل وتوجيه اتهامات بالإرهاب لمجرد زيارة مواقع معينة على شبكة الإنترنت كما حدث في بريطانيا مؤخرا، ثم الاعتقال والاحتجاز دون العرض على القضاء، وتشديد قوانين الهجرة إلى غير ذلك من الإجراءات القمعية التي ناضلت شعوب أوروبا للقضاء عليها منذ زمن بعيد.

حكماء الوهم وساسة التزييف عندنا انتهزوا هذه الفرصة أيضا لشن معركة وهمية ليس فيها منتصر ولا مهزوم ضد نشر الرسوم المسيئة للرسول حيث وجدوا في شن هذه المعركة ما يمكن أن يحرف انتباه الشعوب عن القضايا الحقيقية ويقدمهم في صورة الصناديد الأبطال بعد أن تخاذلوا وتراجعوا في كل المعارك الحقيقية دون أن يكلفهم الأمر شيئا إلا مصادرة بعض الصحف الأوروبية ومقاطعة السلع الدنمركية. بل إن الرئيس السوداني – عمر البشير- قاد مظاهرة حاشدة في السودان تحت شعار كلنا فداؤك يا رسول الله. لم يكن شعار معركتهم ضد التمييز ضد أقلية دينية في أوروبا – لأن جميع حكامنا يمارسون التمييز على أساس الدين والجنس والعرق والأصل القومي من الخليج إلى المحيط. ولم نجدهم بهذا الحماس وتلك القوة في مواجهة الاعتداء الهمجي على الشعب الفلسطيني، ولا على تمزيق أوصال العراق ولا على انتهاك حقوقنا وحرياتنا في جميع أقطار الأرض. بل إنهم يساهمون بشكل مباشر في قمعنا وهم السبب الرئيسي في مصائبنا.

في نفس الوقت الذي هللت فيه حكوماتنا استنكارا للرسوم التي نشرتها الصحف الأوروبية، تضاعفت أسعار السلع الغذائية التي يعتمد عليها قوت الفقراء في مصر مع تزايد البطالة والفقر وانتشار الفساد والثراء الفاحش وسط حفنة ضئيلة من المحظوظين في ظل مناخ قمعي شامل من الاعتقالات وتقييد حرية الإعلام وسلطات القضاء، الخ.

هناك حقيقة ينبغي أن نلتفت لها في هذا الأمر مفادها أنه مهما تصاعد الهجوم على الصحف الأوروبية فيما يتعلق بنشر الرسوم المسيئة للرسول فإنهم لن يتوقفوا عن ذلك، ببساطة لأن هذا الهجوم يعزز الأوهام التي يروجها الساسة الأوروبيون بأن المسلمين والإسلام يشكلون خطرا على شخصية أوروبا التي تحترم حرية الفكر والإبداع والإعلام. ويسهل على هؤلاء الساسة تنفيذ تلك الاستراتيجية الكلاسيكية التي تستخدم في أزمنة الأزمات باختيار كبش فداء ضعيف – أقلية دينية أو عرقية – لتوجيه غضب الجماهير ضدها بدلا من مواجهة من تسببوا في تلك الأزمات.

أما الحقيقة الثانية فهي أن حكوماتنا لا تشن هجوما على أوروبا في هذا الصدد دفاعا عن الرسول ولا عن الأقليات المسلمة في أوروبا، وطبعا لا تنتظر من هذا الهجوم أن يجبر أوروبا والدنمارك على عدم التعرض للإساءة للدين الإسلامي أو رموزه. إنما هدفهم من وراء ذلك هو البحث عن معركة وهمية لا تكلفهم شيئا لإلهائنا عن قضايانا الحقيقية والظهور بمظهر الأبطال المدافعين عن قضايانا وهم أبعد عن ذلك بعد السماء عن الأرض.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف ساهمت تركيا في العثور على مروحية الرئيس الإيراني المحطمة


.. كأس الاتحاد الأفريقي: نادي الزمالك يحرز لقبه الثاني على حساب




.. مانشستر سيتي يتوج بطلا لإنكلترا ويدخل التاريخ بإحرازه اللقب


.. دول شاركت في البحث عن حطام مروحية الرئيس الإيراني.. من هي؟




.. ما المرتقب خلال الساعات المقبلة حول حادثة تحطم طائرة الرئيس