الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوهام القبض على الدكتاتور 1 وهم المعنى الوحشي للشجاعة

حمزة الحسن

2003 / 12 / 16
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


كلب رمادي مغبر اندفع نحوي في عاصفة ثلجية أمس في الطريق إلى محل شراء الأطعمة لكن صوت صاحبه وصلني مبكرا( لا تخف. إنه لطيف وسيعانقك!) وكانت فكرة مقززة أن يعانقك في هذا المنفى الثلجي الصريح كلب رمادي بهذا الحجم.

لكن المفاجأة جاءت بعد ذلك حين سألني  الصديق النرويجي عن كيف أرى الأمور اليوم بعد عملية الاعتقال؟ ولم أكن أدري عن أي اعتقال يشير لكن المفاجأة الأخرى هو خبر اعتقال الدكتاتور في قبو، هذه المرة، حقيقي. وعندها بدت فكرت أن يعانقني كلب رمادي أشعث فكرة محتملة بل جذابة، بل كنت مستعدا هذه المرة لمعانقته بنفسي لأنه ليس في كل يوم يعتقل دكتاتور خاصة وان هذا الكائن شكل لنا فكرة جريحة عن الحياة حتى أن بعضنا صار، من التماهي، يرى نفسه من خلال هذا الجزء المضطرب من شخصيته.

على المستوى العاطفي كنت أشعر بحرية داخلية كبيرة متدفقة أكبر من أي وقت آخر كما لو أن هذا الاعتقال حرر عاطفة حبيسة وأطلق سراح مشاعر مكبوتة كانت هي الأخرى مختفية في قبو نفسي.

أما على المستوى الفكري فإن هذا الاعتقال لم يبدل القناعة الخاصة المتكررة والقديمة بأن هذا الدكتاتور ليس شخصا فحسب، بل عقلية وظاهرة تاريخية سلوكية وهو تشكيلة من القيم الحزبية والعشائرية والسياسية التي تمارس القتل المتعدد الأشكال والنفي والإقصاء المادي والمعنوي تحت شعارات وقناعات وعقائد( ثورية إيمانية) هي عبارة عن مطلقات في كل شيء.

لكن الذهول الذي أصاب الناس، بصرف النظر عن تباين المواقف، عن طريقة القبض على الدكتاتور هي التي تستحق التوقف لأنها تعكس جملة من الأوهام التاريخية العريقة عن ظاهرة العلاقة بين الطاغية والجمهور، حتى يبدو مشهد القبض على الطاغية أمس وكأنه مشهد القبض على أوهامنا مختبئة في ذلك القبو العميق المؤدي إلى عوالم داخلية عميقة غائرة في الدم والتاريخ والغريزة والعقل.

ولم يكن قبوا عاديا فحسب، بل كان قبو الدخول إلى سراديبنا السرية المخبوءة في الليل العقلي المظلم الذي كان مدهشا أن نراه مفتوحا وماديا وبسيطا مثل أي وهم ضخم ومهين ومعيق وبغيض.

لذلك يمكن القول ببساطة فتحة القبو أن المقبوض عليه أمس ليس الطاغية وحده، بل تاريخ العلاقة المشوشة والمضطربة بين صورة الطاغية عن نفسه وصورته في ذهن الجمهور وهي علاقة لم تكن دقيقة على مر التاريخ.

أحد أكبر الأوهام التي ظهرت في القبو هو وهم الشجاعة الذي كنا نفهمه ونتصوره في الطاغية. ولعل الصيحات الكثيرة أمس واليوم وغدا عن الطاغية الجبان الذي:
ـ لم يقاتل حتى الرصاصة الأخيرة.
ـ استسلم كفأر.
ـ يدفع الناس إلى القتال وهو يسلم.
ـ لم ينتحر.
ـ ظهر أنه جبان.
ـ  أين ذهبت الرصاصة الأخيرة والحزام الناسف والمسدس الذي لا ينزع؟

هذه الصيحات وغيرها غدا تعكس طريقة فهم الجمهور لصورة الدكتاتور أولا، وتعكس الفهم الوحشي لمفهوم الشجاعة البدائي ثانيا.

وحسب هذه الصيحات، وهذا الذهول وهي لجمهور مختلف في نظرته لهذا الرجل،فإن الدكتاتور ظهر لأول مرة جبانا لأنه لم يقاتل ولم ينتحر.

لذلك أقول أن الذي خرج من القبو، مقبوضا عليه، ليس الدكتاتور وحده بل أوهامنا الكثيرة والعريقة والمتناسلة منذ قرون والتي لعب كل طغاة هذا الشرق اللعين على أوراقها، وغذوا في كل قرن المخيلة العامة بمزيد من الأوهام.

وبما أن الحديث هنا سيكون عن أحد أكبر الأوهام الذي قبض عليه أمس مع الرجل، فسيكون الكلام مقتصرا على معنى الشجاعة الوحشي الذي يريده الجمهور من أصدقاء وأعداء الدكتاتور.

ومن حسن الحظ أن هذا الدكتاتور لم ينتحر أو يقاتل لكي لا يستمر هذا الوهم الخطير زمنا أطول مما يستحق ويبني معه سلسلة أوهام متداخلة كثيرة.

الأسطورة التي خلقها الدكتاتور عن نفسه هي أسطورة الرجل الذي لا يهاب الموت حقا أو باطلا وهذه الأسطورة تتمثل في القسوة الوحشية لهذا النموذج البربري الذي هو خليط من رجل القبيلة  الجلف والشقي والمريض والطوباوي و(الثوري) حسب إيديولوجيا الثورة والثورة المضادة ومفردات قتل الخصوم جسديا ونفسيا بناء على فكرة ما سياسية.

وهذا الفهم الوحشي للشجاعة، كما تدل صيحات وحالات الذهول بعد القبض على الدكتاتور، ليس فهم الدكتاتور نفسه فحسب الذي عمل على زرعه عبر سنوات، بل هو فهم الجمهور أيضا عن الشجاعة.

بهذا المعنى فإن (القبو) كشف عن طاغية صغير، وكشف عن أوهام ضخمة كبيرة وفي المقدمة منها مفهوم الشجاعة الوحشي.

على هذا الأساس، هل سيكون الطاغية شجاعا، وبطلا، وشريفا، وقويا، وصلبا، لو أنه قاتل حتى الرصاصة الأخيرة خارج قبوه أو في داخله ومات؟

حسب وعي الجمهور العام، نعم كان سيكون كذلك وسيخلق مثالا في نهاية تليق بفارس أو طاغية شجاع، ولكن من وجهة نظر أخرى فإن هذا الدكتاتور كان سيكون جبانا في كل الأحوال قاتل أو أنتحر أو لم يقاتل أو لم ينتحر.

إن الشجاعة، وهذا مصدر اللبس في الوعي الشرقي والإسلامي والحزبي، ليست في القسوة والوحشية والجنون بل في الرقة والعذوبة والعدالة والشفافية والحساسية وفي اللطف وفي الجمال الروحي وفي الحب وفي الصلاة وفي المغامرة الفكرية وفي حرية المخيلة وفي الابتكار والإبداع وفي الأمل وفي الذوق وفي الحس الدقيق والعميق وفي الصدق والوضوح والأمانة والعاطفة النقية وفي الحس الأخلاقي النظيف وفي الشهامة وفي حيوية الضمير وفي عشق الطبيعة والأسرة والجار والنجوم واحترام حقوق المخلوقات الأخرى في العيش وفي التفكير وفي الأمل وفي الاختلاف وفي أن يكون الإنسان دائما في غير صورته المعروفة، أي حقه في حرية التغيير الفردي.

 الخارج أمس من الحفرة وهم ضخم من أوهام كثيرة هو وهم( الشجاعة) المطلقة الخارقة، أي المعنى البربري الوحشي البدائي للشجاعة  مع أن المفهوم الأخير يرتبط عضويا بمفهوم آخر لا يقل عنه قوة وبهاء وهو مفهوم الجمال.

كنا ننتظر  من الدكتاتور أن يمارس( الشجاعة) الأسطورية في القتل، قتل نفسه أو قتل الآخرين، لكنه خيب الأمل وكشف لنا عن مجموعة أوهام كثيفة متشابكة كوكر ثعابين في قبو جبلي كانت تعيش في أعماقنا وبدا( لأول مرة!) جبانا مستسلما فأرا كأن كل تلك الدماء لم تكن كافية لوصفه بالجبن الأبدي؟!

إذن أمس فقط اكتشف الجمهور، العدو والصديق، اننا وعبر كل هذه السنوات كان يحكمنا الوهم، وهم داخلي مشوه وحشي عن معنى الشجاعة، وهو في الحقيقة مفهوم القوة الوحشية المحاطة بكل مقومات الغطرسة والجريمة وأدوات القتل والتي تتعرى، كما في قبو الأمس، حين تكون مجردة منها. الطاغية ليس قويا بنفسه، بل بالأداة.


كان طاغية  الأمس جبانا قبل السلطة بسبب أوضاع وظروف وعوامل كثيرة يتداخل فيها العائلي والاجتماعي والسياسي والحزبي والقبلي وهذا الجبن المفرط هو الذي كان يدفعه نحو تحقيق حالة البحث المفرط( عن الأمن الشخصي) عن طريق القوة الغاشمة وكلما أوغل في القتل تعقدت عليه الأزمة الداخلية وشعر أكثر  بخطر كامن متوثب.

لذلك حين استسلم أمس في قبوه فإنما استسلم( للعدو) الذي انتظره طويلا وهرب منه طوال حياته طفلا وصبيا ومراهقا وشابا وحاكما وهاربا وهو الخوف المقيم في أعماقه والذي كان القبو الخارجي شكله السهل.

وكما كان هو على موعد مع وهمه الكبير والحقيقي والذي صار قدرا يطارده ونغص عليه حياته وحياة شعبه، كنا نحن أيضا على موعد مع أوهامنا الكثيرة التي خرجت من القبو كرؤوس ثعابين صغيرة.
 
واحدة فقط من صور الدكتاتور كانت أمس أدق وأعمق صورة في حياته وهي حين مسك لحيته وغرق في ذهول عميق: تلك هي لحظة مواجهة الحقيقة التي هرب منها طويلا( البحث عن الأمن المطلق للجبان) والتي حاول، بالقوة والرعب والكذب والأزمة والعروض الزائفة ، تعميمها على الآخرين حين خلق فيهم وهم الشجاعة الوحشي الذي هو الوجه الداخلي السري للجبن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. العراق: السجن 15 عاما للمثليين والمتحولين جنسيا بموجب قانون


.. هدنة غزة تسابق اجتياح رفح.. هل تنهي مفاوضات تل أبيب ما عجزت




.. رئيس إقليم كردستان يصل بغداد لبحث ملفات عدة شائكة مع الحكومة


.. ما أبرز المشكلات التي يعاني منها المواطنون في شمال قطاع غزة؟




.. كيف تحولت الضربات في البحر الأحمر لأزمة وضغط على التجارة بال