الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حداثة فدوى طوقان

صبحي حديدي

2003 / 12 / 17
الادب والفن


في "رحلة جبلية، رحلة صعبة"، وهو الجزء الأوّل من سيرتها الذاتية، تسرد الشاعرة الفلسطينية الراحلة فدوى طوقان (1917 ـ 2003) جملة من الشروط التي خضعت لها في طفولتها ويفاعتها، وكان لها أثر عميق سوف يلازم معظم محطات حياتها اللاحقة، وسيتكفّل بتكييف ميولها الحياتية إجمالاً، والإبداعية بصفة خاصة. فإلى جانب واقعة منعها من الذهاب إلى المدرسة بسبب استلامها رسالة غرامية من فتى مراهق، وأنها واصلت تعليمها ــ وخصوصاً في جانب التتلمذ الشعري ــ على يد شقيقها إبراهيم طوقان داخل أسوار البيت العتيق المحافظ الذي كانت ترى فيه "حظيرة كبيرة تملأها الطيور الداجنة"، نقف في هذه السيرة على سلسلة من السياقات الإجتماعية والعائلية والنفسية الشاقّة الصعبة التي تشخّصها طوقان على نحو اعترافيّ جسور تماماً.
والحقّ أنّ مختلف تيّارات النقد النسوي لا تحتاج إلى وصفة أفضل من تلك السياقات القياسية لكي تقرأ نصوص فدوى طوقان في ضوء تواريخ القهر التي خضعت لها المرأة، ولكي تجد في لجوئها إلى كتابة الشعر مظهر تمرّد على النظام البطريركي، وحالة انعتاق في الأساس. غير أنّ المرء لا يحتاج إلى استنهاض النقد النسوي لكي يدرك وظيفة هذه السياقات، إذْ ليس في وسع أيّ تحليل نقدي أن يتجاهلها حين تأخذ صفة مؤشرات كبرى دالّة على طبيعة المحيط النفسي والشعوري والتربوي، فكيف بالمحيط الإجتماعي والسياسي، الذي تحرّك فيه نصّ فدوى طوقان الشعري منذ التجارب الشعرية الأولى وقصائد مجموعة "وحدي مع الأيام" (1955)، إلى نقلة النضج المتميّزة في المجموعة الثانية "وجدتها" (1957)، ثمّ النقلة الأكثر أهمية في المجموعة الثالثة "أعطنا حبّاً" (1960)، وصولاً إلى مرحلة ما بعد حرب 1967 والمجموعات اللاحقة.
وقد سبق لي، ضمن ندوة تكريم الشاعرة الراحلة في مهرجان جرش للعام 2000، أن حاولت البرهنة على عدد من المسائل الأساسية في تجربة طوقان، والتي يمكن أن تظلّ سجالية وإشكالية تماماً. من ذلك أنّ موضوعة الحبّ والقصيدة العاطفية إجمالاً كانت، وعلى النقيض من الإفتراض الشائع في بعض النقد العربي، إسهام طوقان الأعمق والأكثر دلالة في حركة التحديث التي عرفها الشعر العربي على مستوى الموضوعات والأشكال في نهاية الأربعينيات ومطلع الخمسينيات من القرن الماضي. وهذا يعني مناهضة الرأي الشائع الآخر، الذي يرى أنّ طوقان تحرّرت بعد عام 1967 من إسار النزعة الرومانسية التي هيمنت على نتاجها قبل النكسة، الأمر الذي ينطوي على القول بأنّ هذا التحرّر كان تطوّراً إيجابياً نقل تجربتها إلى مصافّ أعلى.
كذلك، وفي ما يخصّ تجربة الراحلة تحديداً، كنتُ أنطلق من فرضيات مغايرة لتلك التي تقيم حالة من التنازع بين الموقف العاطفي والموقف الحداثي. ويقيني أنّ الخيارات العاطفية في شعر طوقان لعبت دوراً حاسماً في تطوير جبهة حداثة نسائية حيوية كانت حركة التحديث العامة بحاجـــــة ماسّة إليها، خصوصاً إزاء استئثار الخطاب الحداثي الذكوري بالقســـط الأعظم من الموضوعات والأشكال والأساليب. وبقدر ما كان الخطاب الحداثي الذكوري مخوّلاً بتمثيل الشرائح الصاعدة والظافرة في المجتمعات العربية، كان الخطاب الحداثي النسائي مضطراً إلى تمثيل الشرائح المهمّشة والمقموعة.
والموقف العاطفي الذي اتصفت به قصائد طوقان في المراحل الشعرية الأولى كان "خطاب العاشق في عزلته القصوى" على حدّ تعبير رولان بارت، ليس فقط لأنه كان يحمل رسالة تحرير اجتماعي ويرتطم تالياً بالمحرّمات الإجتماعية في البيئات المحافظة، بل أيضاً لأنه خضع لازدراء فلسفي من جانب التيارات الحداثية التي رأت فيه نكوصاً رومانسياً (و"رجعياً" أحياناً!) لا يليق بمقتضيات التهديم الراديكالي للنصّ القديم. غير أنّ حالة العزلة هذه لم تُسقط عن ذلك الخطاب وظيفته التحريرية، والتقدمية تالياً، في إغناء حركة الحداثة عن طريق الإرتقاء بالنصّ الشعري النسائي.
ومن المدهش أنّ بعض النقّاد العرب أخذوا على فدوى طوقان نزوعها العاطفيّ هذا، وفاتهم أن يلاحظوا طبيعة الرسالة الثقافية الجبّارة التي انطوى عليها ذلك النزوع. ويستوي هنا الجانب السوسيولوجي المحض الذي يتيح للشاعرة المرأة أن تمارس الحقّ في تحرير صوتها وروحها وجسدها دون أن تضطرّ إلى قمع مشاعرها الأنثوية أيّاً كانت، أو الجانب الإبداعي الذي يخصّ حقّها في التغريد الوجداني الطليق خارج سرب الموضوعات الجدّية للشعراء الرجال (وهي الموضوعات التي كانت، في معظمها، مجرّد استنساخ لموضوعات الحداثة الغربية).
والمستوى الرفيع من الإستقرار الوجداني الذي توفّر في قصائد مجموعتَي "وجدتها" و"أعطنا حباً"، كان في الآن ذاته قد اقترن بانخراط فدوى طوقان في حركة التحديث الشعري العربية عند نهاية العقد الرابع وبدايات العــــــقد الخامس من القرن الماضي. والشكل هنا لم يكن مجرّد مجاراة لـ "موضة" العصر في استخدام التفعيلة بدل البيت، بل كان جزءاً لا يتجزأ من خدمة الرسالة الإجتماعية والثقافية الكامنة عميقاً وراء نصوص شعرية تكتبها شاعرة امرأة عاشت أجواء محافظة، وخضعت لشروط نفسية تدميرية، وصُودر وجدانها مراراً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال


.. الفنانة ميريام فارس تدخل عالم اللعبة الالكترونية الاشهر PUBG




.. أقلية تتحدث اللغة المجرية على الأراضي الأوكرانية.. جذور الخل