الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوهام القبض على الدكتاتور2 ، القمل موجود في رؤوس الآلهة

حمزة الحسن

2003 / 12 / 17
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


لا أدري إلى أي حد فهم الجمهور لماذا كانوا يبحثون في رأس الدكتاتور عن القمل بتلك الطريقة العلنية، ولماذا فتحوا فمه أيضا تحت حجة طبية تفاديا للإحراج القانوني؟ ولا شك أن السبب الرئيس كان هو نزع الأسطورة من المخيلة العامة فليس في تاريخ أساطير الآلهة، خاصة آلهة بلاد الرافدين، ذلك الجانب البشري العادي الذي يجعل رأس الإله، الطاغية، وطنا للقمل والحشرات لأن هذا الرأس مصنوع من انتظار التاريخ ومن القرابين ومن الخوف.

كان هذا الكائن نصف الإله ونصف البشر يتعرى أمام الجمهور في النهر لكي يعرض الجسد /الخرافة ويستعرض القوة العارية المطلقة حين تكون محمية بمؤسسة ومحمية بأوهام أيضا أمام ضحايا مبهورين من هذا العري الوحشي المتناقض: فهو أولا عري الكائن البشري،وهو ثانيا عري الغطرسة والأسطورة والقوة المطلقة،عري الخارق وغير المألوف والاستثنائي وفوق العادي.

إذن يشكل وجود القمل في رأس الأسطورة عملية نزع( الأسطرة) أي نقل الأسطورة من حيز التاريخ والوهم والذاكرة إلى حيز العقل والتحليل وتحويل الخرافي إلى بشري وفي أقذر صورة.

وفي مفارقة ساخرة أخرى من مفارقات صناعة الوهم الكثيرة هي : كيف أن هذا المخلوق اليائس الذي نُفخ به على أنه يقود مشروع طرد جنود إمبراطورية  متوحشة من أرضه هو غير قادر على طرد القمل من رأسه؟!

كان مشهد القذارة متعمدا على نحو كبير سواء كان معدا سلفا أم لا ـ لا ندري كيف جرت الوقائع الحقيقية ـ  فليس غير الوسخ العلني والرائحة والذعر والاستجابة العادية ومشهد الانكسار من يهشم الأسطورة الحية التي كانت حتى قبل لحظات ترسم على التراب، تراب المخيلة، خطوات الأيام القادمة.

كان يجب أن يتعرى ويعزل البشري عن الإلهي، الأسطوري عن الشحاذ، الكلي القادرة عن العاجز، المطلق عن المحدود، ويعاد تركيب المشهد مرة أخرى في الخيال العام على ضوء قوانين بشرية غير تلك التي اخترعها هو ورسخها هو: لذلك كان يجب فتح الفم كي نرى أن ذلك الوهم الضخم كان يمتلك مثلنا أسنانا عادية، وأنه كان يعضنا بأسنان الوهم الكبيرة التي تشبه المخالب والمزروعة في الوعي العام، وعي الجمهور، وعي المثقفين، وعي الأحزاب، وعي الأعداء هنا أو هناك.

وبدا متألما وهذا أحد أكبر الأقنعة المنزوعة في المشهد المسرحي المعد بعناية ودقة فليس في تقاليد وفكر وخيال وحياة الأساطير أن تتألم بل على العكس هي تخلق الألم وتخلق السعادة، والألم ظاهرة بشرية والآلهة لا تتوجع.

وظهر أن هذا العجز عن الخطاب والفم المفتوح اليائس هو عجز الأسطورة التي طالما أسست قوتها على الخطاب العلني العاري الشفوي المباشر( مع عري جسدي في النهر!) إلى جمهور غائب وحاضر: حاضر حضورا جسديا، حضور إصغاء، وغائب غياب فعالية وقرار ومشاركة. إنه جمهور حاضر لكي يثبت غيابه، وحضور الأسطورة الوحيدة التي تتكلم.

فليس في تقاليد الدكتاتور، نصف الإله، نصف البشر، ابن التاريخ، والسراب المقدس، والموعود، وأمل( الأمة)  أن يخطب إلى جمهور بشري مستعد للحوار والمشاركة والقرار لأن هذا يجرد الأسطورة من  الخارق والأسطوري ويحولها إلى كائن بشري محدود القدرة.

وبدا مستاءً وليس في طبع الآلهة / الأساطير الاستياء حتى من العواصف، سواء عواصف التاريخ أو عواصف الطبيعة أو غضب القوى الخفية.

بهذه الطريقة تبين لنا، لنا اليوم، ان الطاغية مصنوع مثلنا من أعضاء بشرية عادية( أسنان، وشعر، وحتى قمل!) والشيء الوحيد غير المألوف فيه هو الأوهام الضخمة التي ينسجها هذا العنكبوت الشرس في بناء ثقافة  تقوم على عدم التمييز بين البطولة وبين الاستهتار، بين حيازة التاريخ، حيازة الحقيقة، حيازة الشرف، حيازة الوطنية، حيازة اللغة، الجمال، الشجاعة، القوة، وبين حيازة السلطة.

وفي هذه النقطة الكبيرة( عقلية العقار السياسي) يتساوى هذا الطاغية الصغير مع الأشباه الذين يجلسون الآن خلف باب اللاوعي في انتظار نوبة غضب أو غفلة لكي يخرجوا إلى البرية بطبعة أخرى، منقحة، ومحسنة،وجميلة.

وأحد الأوهام المضحكة التي نتجت عن زيارة أعداء وضحايا الطاغية له هو طلبهم الفوري منه أن يعتذر وأن يقدم على( نقد ذاتي!) لم ولن يقدموه يوما سواء على أخطاء في السياسة أو على أخطاء في التفكير، ورفضه تقديم هذا النقد نابع من ذات المدرسة المستعجلة التي طالبته به والتي تعتقد بوهم سحري سطحي ساذج في أن الدكتاتور الناقع بالدم قد يتحول إلى كاهن في ربع ساعة داخل زنزانة صغيرة مخصصة لجرذ!

مشهد أو مفارقة حزينة إذا انتزعنا النفس من أحزان الحاضر الكثيرة هي أن الدكتاتور تشرد على نفس المساحة من الأرض يوم كان صغيرا والتي تشرد عليها بعد سقوطه السياسي والعسكري وبنى قبواً أمام أحد قصوره الفخمة وذلك هو العقاب.

والجنرال اديرنو، ـ الذي طارد الدكتاتورـ  قائد فرقة المشاة الرابعة  العملاق الأصلع الشبيه بوحش هوليودي الذي يوصف مع ذلك بالرقة والذكاء والعفوية، هو الذي علق على هذه المأساة الساخرة.

لقد جاء هذا الجنرال الضخم الجثة الرقيق كما يقول جنوده من نيوجرسي، عابرا قارات وبحارا، لكي يرفع الغطاء عن القبو الأسطوري، وعن أوهامنا الضخمة، ولكي يثبت لنا، أكثر من كل البرامج والأحزاب والمنافي والتجارب المهلكة ان القمل موجود في رؤوس الآلهة عكس ما كنا نتوهم! 
    








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فولفو تطلق سيارتها الكهربائية اي اكس 30 الجديدة | عالم السرع


.. مصر ..خشية من عملية في رفح وتوسط من أجل هدنة محتملة • فرانس




.. مظاهرات أمام مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية تطالب الحكومة بإتم


.. رصيف بحري لإيصال المساعدات لسكان قطاع غزة | #غرفة_الأخبار




.. استشهاد عائلة كاملة في قصف إسرائيلي استهدف منزلا في الحي الس